شكري السنكي
عبدالسلام عيلة .. حياته ومواقفه والأثر النضالي الذي تركه
تعرفت على الدبلوماسي عبدالسلام علي عيلة في مدينة الخرطوم العاصمة السودانية في صيف العام 1983م، وجمعني به الموقف الوطني الرافض للظلم ولاستبداد، والمناهض لنظام معمر القذافي الانقلابي القمعي.
كان لقائي به في السودان في شهر يونيو بعد أيام من وصولي أنا وتسعة من زملائي إِلى الخرطوم قادمين من مدينة براون شفايخ الألمانية التي كنّا ندرس بها ضمن بعثة دراسية تابعة لـ«الهيئة العامّة للتصنيع الحربي»، وبعد أن عقدنا مؤتمراً صحفياً ظهر يوم الخميس الموافق 2 يونيو 1983م، أعلنا فيه معارضتنا لنظام معمر القذافي القمعي وانضمامنا إِلى صفوف قوى الوطنية المعارضة في الخارج.
كان عيلة واحداً من قيادات «الجبهة الوطنيّة لإتقاذ ليبيا» وقتئذ، وعضواً بمكتبها الدائم، وقد جاء إِلى السودان في شهر يونيو لحضور اجتماعات «اللجنة التنفيذيّة» و«المكتب الدائمة»، المنعقدة بالخرطوم في الأسبوع الأوَّل من الشهر المذكور.
لم يرجع إِلى مقر إقامته بعد انتهاء الاجتماعات، إنما بقى في الخرطوم لمدة تجاوزت الشهرين من بعد ذلك، للمساعدة في العمل الإذاعي، حيث كانت إذاعة: «صوت الشّعب الليبي، صوت الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا» ترسل بثها الموجه إِلى ليبيا من الخرطوم.
كان عبدالسلام عيلة يأتي إِلى السودان بين الحين والآخر، للمساهمة مع الفريق الإذاعي المقيم بالخرطوم، في إعداد بعض البرامج وكتابة بعض التقارير والتعليقات، وكان التعليق السياسي على الأخبار من أهم مهامه الإذاعية، الذي كان يكتبه ويقدمه بصوته.
لم يقم بمقر إقامة الفريق الإذاعي بالخرطوم، ولكنه اختار أن يقيم معنا نحن مجموعة ألمانيا بمقر إقامتنا بفيلا رقم: «25» التابعة لرئاسة الجمهورية، والكائنة بالقرب من السفارة اليونانية بشارع الجمهورية في الخرطوم، بالإضافة إِلى أحمد سعيد خليفة رئيس الفريق الإذاعي، ويوسف بشير المجريسي رئيس مكتب الخرطوم، والشيخ سالم طاهر الماني الشهير بـ«الشيخ عمر» الذي استشهد لاحقاً أثناء معركة باب العزيزية بمدينة طرابلس يوم 7 من شعبان 1404هجري الموافق 8 مايو 1984م، والشيخ علي محمد البشير حمودة الذي اعتقلته سلطات القذافي لاحقاً وذلك يوم 6 مايو 1984م، حينما كان برفقة الفدائي عماد الحصائري ورفقة المفوض العسكري لجبهة الإنقاذ أحمد إبراهيم إحواس في مهمة نصالية داخل الوطن.
وحدث في ذلك اليوم صدام مسلح بينهم وبين دورية مسلحة تابعة لنظام القذافي بالقرب مدينة زوارة، أدت إلى استشهاد أحمد إحواس وإصابة علي حمودة ورفيقه عماد الحصائري بإصابات بالغة وتم على إثرها اعتقالهما.
قرأت خبر وفاة المناضل السياسي عبدالسلام عيلة يوم السبت الموافق 19 فبراير 2022م، في صفحة الصديق الدكتور فؤاد بوخطوة بالفيسبوك، وأثر فيّ الخبر أيما تأثير، فالفقيد كان رفيقاً وبمثابة العم أو الشقيق الأكبر، وكانت لي معه حكايات وذكريات لا تنسى.
عبدالسلام علي عيله، الرجل الوطني الحرَّ والدرناوي الأصيل.. ابن عائلة معروفة من عوائل درنة وسكّانها القدماء الموغل تاريخهم في القدم.. المولود بمدينة درنـة في العام 1937م، درنة المعتزة بإسلامها، والأصيلة بارتباطها بهويتها الليبية وموروثها الثقافي، صاحبة النفس العروبي والروح الأندلسية، والشامخة بتاريخها وعطاءات رجالاتها على مدار التاريخ.
ولد بمدينة درنة التي تحتضن تربتها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترعرع بها ودرس بمدارسها حتّى نال الشهادة الثانوية. ودرس المرحلة الجامعية أولاً في الجامعة الليبية ثم استكمالها بسوريا، حيث نال بكالوريوس «إدارة أعمال» من جامعـة دمشـق.
انتسب إِلى وزارة الخارجية الليبية بعد حصوله على البكالوريوس، وتدرب على يد كبار الدبلوماسيين الليبيين وتلقى عدة دورات في فن الإتيكيت والبرتوكول وإتقان قواعد التعامل الدبلوماسي.
وفي العام 1975م، عُيّن ملحقاً دبلوماسياً بوزارة الخارجية، وتدرج فى وظائفه بالسلك الدبلوماسي حتّى صار قائماً بالأعمال قبل انشقاقه في 23 ديسمبر 1981م، عن نظام معمر القذافي وإعلانه في أوائل العام 1982م معارضته لنظامه القمعي الاستبدادي، وانضمامه إِلى صفـوف القوى الوطنية الليبية المعارضة بالخارج.
انضم إِلى قوى المُعارضة بالخارج، وكان من الأوائل الذين انضموا إِلى «الجبهة الوطنيّة لإنقـاذ ليبيا»، ومن الذين شاركوا في مؤتمرها التأسيسي المنعقد بالمملكة المغربية في صيف العام 1982م، وأصبح عنصراً من عناصرها القيادية بعد الإعلان عن تأسيسها، حيث كان عضواً بـ«المكتب الدائم»، ومسؤولاً عن ملف «منطقة الشمال الأفريقي».
ويُذكر أنه عمل بسفارة ليبيا بالهند، من العام 1976م إِلى 1980م، وقتما كان محمد يوسف المقريف سفيراً بالهند، والذي ربطته به علاقات قوية وقتئذ، وقبل تقديم استقالته من منصبه كسفير بالهند وإعلانه عن تأسيس جبهة الإنقـاذ في السابع من أكتوبر من العام 1981م.
استقال عبدالسلام عيلة من الجبهة الوطنية لإنقـاذ ليبيا في النصف الثاني من الثمانينات، وظل ثابتاً على موقفه من نظام القذافي الاستبدادي، ومستمراً في معارضته لنظام سبتمبر الانقلابي، حيث ظل يعمل ويتحرَّك من أجل خلاص الوطن من حكم الفرد الذي حوّل البلاد إِلى صورة شخصية له، رافضاً الإغراءات والتهديدات حتَّى منّ الله عليه أن يعيش ثورة شعبه ضدَّ الجبروت والطغيان، ويشاهد سقوط نظام سبتمبر الانقلابي ونهاية حكم معمر القذافي الذي جثم على صدر ليبيا والليبيين اثنين وأربعين عاماً.
تنقل طيلة السنوات الثلاث والثلاثين التي قضاها بالمنفى بين المملكة المغربية والسودان ثم ألمانيا بلد زوجته وأم ولديه، وساهم في كافة نشاطات المُعارضة بالخارج وتحركاتها، فكتب المقالة التي نشرها في مجلّة: «الإنقاذ» الناطقة باسم الجبهة الوطنيّة لإنقـاذ ليبيا، وكتب التعليق السياسي وقرأه بصوته في إذاعة جبهة الإنقاذ التي كانت تبث من السودان، علاوة على مشاركته في بعض زيارات جبهة الإنقاذ لبعض الدول، وحضوره لبعض ملتقيات ومظاهرات القوى الوطنية الليبية بالخارج ومؤاتمراتها الوطنية.
وبعد اندلاع ثورة السابع عشر من فبراير، دعم الثورة وساندها بكلِّ ما أوتي من قوَّة، وساهم في مؤازرة «المجلس الوطني الانتقالي» الممثل الشرعي للثورة، وذلك باستثمار علاقاته المتميزة لجلب الدعم والاعتراف به، ومن خلال تواصله الحثيث مع الأطراف المؤثرة في العالم لانتزاع تأييدها ومساندتها انتفاضة الشعب الليبي.
وعاد إِلى درنة مسقط رأسه ليساهم مع أبناء وطنه في إعادة بناء ليبيا الّتي تخلفت أربعة عقود من الزمان بسبب حكم القمع والاستبداد، فكرمه أبناء درنة الكرام على تضحياته وسجل عطائه الزاخر بالمواقف والأعمال، أو كما قال فؤاد ابوخطوة أحد أبناء درنة البررة:
..عاد عبدالسلام عيلة ابن درنة البار إِلى درنة مدينته ومسقط رأسه.. عيلة السياسي والمثقف والكاتب المميز، والذي كان تقياً كريماً محافظاً على أداء الصلوات الخمس في المسجد. كرمه ثوار فبراير ومؤسسات المجتمع المدني في درنة في العام 2012م، عقب عودته إِلى أرض الوطن، بالإشادة بشخصه والإشارة إلى مواقفه الوطنية وتضحياته كبيرة في احتفال بهيج، حضره كبار الشخصيات الوطنية الدّرناوية. وقد ظل ثابتاً على المبدأ لم يطبل لا للحكومات ولا للبرلمان، ولا المؤتمر الوطني، ولا لما بعده، إلى أن وافاه الأجل المحتوم.
وفي جانب ثانٍ، صدر قرار في العام 2012م بإعادته إِلى سابـق عمله الدبلوماسي بوزارة الخارجيـة والتعـاون الدولي الليبية بدرجـة سفيـر بتاريخ 8 ديسمبر 2013م بناءً علـى قـرار صـدر عن المؤتمـر الوطني العـام وتمَّ تكليفه سفيراً فى الفاتيكان، ولكنه للأسف لم يستلم عمله هناك بعد أن «تلاعبوا !» بقرار تعيينه مَنْ كان لهم مصلحة في تعيين بديلاً له من المرموقين والمقربين !!”.
ولابُدَّ أن أذكر في هذا السياق، أن عبدالسلام عيلة أصابته خيبة أمل كبيرة بعد فترة من سقوط القذافي، وبعد أن وصل الوطن إِلى ما وصل إليه من فرقة واقتتال وتشظٍ، وكانت لدية ردة فعل عنيفة تجاه بعض رفاقه في المُعارضة الليبية، فكتب بعض المقالات التي نشرها في صفحته بالفيسبوك، كان فيها شيء من الغضب وغابت عنها الدقة والموضوعية في بعض الأحيان.
ولكنه كان طوال الوقت مخلص النية ورجلاً وطنياً دون أدنى شكّ، حتَّى وإن خانه التعبير فِي بعض المرّات، أو تسرع في أحكامه في بعض الحالات.
انتقل إِلى رحمة الله فجر يوم الجمعة الموافق 18 فبراير 2022م، بمدينة درنة الّتي استقر بها ولم يغادرها منذ رجوعه إليها بعد اندلاع ثورة السابع عشر من فبراير في العام 2011م، وتمّت مواراته الثرى عصر نفس اليوم بمقبرة الفتائح. وقد انتقل إلى جوار ربه تاركاً وراءه أثراً حسناً وتاريخاً حافلاً بالمواقف الوطنيّة والكتابات والمُساهمات النّضالية، وصيتاً طيباً سيجعل اسمه مدوناً في سجلات تاريخنا الوطني، واسماً عصياً عَلى النسيان.
تَرَكْت ذَكَرَاً فِي بِلادِك *** وَالذِّكْر بَعْد الْمَوْت عُمَر
أحب عبدالسلام عيلة وطنه فسَكَنَ بداخله، واستقال من منصبه الدبلوماسي بعدما تصاعد القتل وعم الظلم والفساد، وتحرك من أجل إنقاذ وطنه بغية خلاصه وتحرره من ربقة الاستبداد، فأصدر معمر القذافي حكماً غيابياً يقضي بإعدامه، ثم أرسل له وفوداً لإغرائه تارة، وتهديده تارة أخرى، وبعد فشله في كلِّ مساعيه أراد إسكات صوته حتَّى لو وصل الأمر إِلى القتل فأكرمه المولى عز وجل قبل وفاته برؤية شعبه يثور ضدَّ سلطة الظلم والطغيان، وبنهاية القذافي الذي جثم على صدر شعبه اثنين وأربعين عاماً.
_______________
المصدر: صفحة الكاتب على الفيسبوك