عمر الكدي

تتداخل أنماط الإنتاج بين جميع صورها في ليبيا، والتي قسمتها إلى خمسة أنماط في مقال سابق، وهي:

  • النمط البدوي الذي يجمع بين الرعي وتجارة القوافل،
  • ونمط الزراعة البعلية والرعي،
  • ونمط الزراعة المروية،
  • ونمط الزراعة في الواحات،
  • والنمط الحضري المديني الذي يشمل التجارة والحرف والوظيفة العامة سواء كانت عسكرية أو أمنية أو مدنية.

عند استقلال ليبيا كان أغلب سكانها من البدو الرحل والبدو شبه الرحل، والرحل هم القبائل غير المستقرة التي غالبا ما تمتهن رعي الإبل، وتعيش في الخيام وتتنقل في مساحة جغرافية كبيرة، وشبه الرحل هم القبائل التي لها مكان ثابت تستقر فيه، وتمتهن رعي الماشية الصغيرة مثل الغنم والماعز، وترحل خارج مكان استقرارها كل سنة لتعيش حياة بدوية كاملة.

وعندما تستقر تزرع الشعير وبعض المحاصيل البعلية وخاصة في غرب ليبيا، وبالرغم من خصوبة الجبل الأخضر، إلا أن قبائل السعادي التي تعود جذورها إلى قبيلة بني سليم هيمنت على المنطقة، وهي القبيلة التي وصلت إلى ليبيا عام 1051م، مع قبيلة أولاد الهلال التي اتجهت غرب البلاد وتونس، مثل الصيعان والنوايل والمحاميد.

كما استقرت في برقة قبائل المرابطين مثل الزوية والمنفة والفواخر والقطعان، والتي كانت تعيش حياة البداوة قبل وصول قبائل السعادي، وحتى الآن لا ندري لماذا ساد النمط البدوي في برقة قبل وصول قبائل السعادي، بالرغم من أن المنطقة استقر بها الإغريق وأسسوا فيها حضارة مزدهرة.

ومن مصراتة يختفي النشاط الزراعي، ولا يظهر إلا في واحتي جالو وأوجلة وجنوب بنغازي في قمينس وسلوق وأيضا في الأبيار، ولكنها محدودة فقمينس تشتهر بنعناعها الممتاز، وتشتهر الواحات بإنتاج نوعيات جيدة من التمور، ثم تظهر الزراعة الكثيفة في سهل المرج الخصب، ولكن معظم من عمل في الزراعة عائلات جاءت من غرب البلاد، وترعى القبائل نوعا من الحيوانات حسب ارتفاع الجبل، ففي الصحراء جنوب الجبل تنتشر قطعان الإبل.

وكذلك في منطقة طبرق وأجدابيا أو ما يسمى برقة البيضاء، وفي سفوح الجبل تنتشر قطعان الغنم والماعز، وفي قمة الجبل تنتشر قطعان الأبقار المحلية الحمراء، كما نجد ثقافة زراعية راسخة في درنة، ومعظم سكانها من الأندلس وغرب البلاد، حيث تقسم الأرض إلى سواني صغيرة تنتج الخضار والفواكه، ويكاد يكون المطبخ الدرناوي صورة من المطبخ الطرابلسي، إلا أن السكان استفادوا من الأعشاب الطبيعية في الجبل لإكساب الوجبات طعما مختلفا.

كما تتميز درنة بثقافة السمك مع مدينة سوسة التي تقطنها أقلية يونانية قادمة من جزيرة كريت تسمى القريتلية، بالإضافة إلى مدينة بنغازي، ولكني وجدت في الجبل الأخضر أشجار زيتون عملاقة ولكنها برية لا تثمر، وهذا جعلني أتساءل من زرع هذه الأشجار؟ هل زرعها الإغريق الذين كانوا يعيشون في الجبل الأخضر؟ أم غرستها القبائل الأمازيغية التي كانت موجودة قبل الإغريق، وربما تكون نفس القبائل التي يطلق عليها قبائل المرابطين، والتي دفعتها القبائل الغازية إلى أطراف الجبل في بادية طبرق مثل المنفة والقطعان، وفي أجدابيا مثل الزوية، وجنوب الجبل مثل الفواخر، وربما تكون قبيلة المغاربة التي تقطن أجدابيا أيضا قد دفعت إلى هناك، وهذا يفسر الخلاف الدائم بين قبائل برقة البيضاء وبرقة الحمراء.

هذا النمط السائد في برقة مع بعض الاستثناءات يحتقر الزراعة والحرف اليدوية، وبدأت القبائل البدوية في الاستقرار مع وصول الإمام محمد بن علي السنوسي، الذي استقبلته قبيلة البراعصة وبنت له أول زاوية وهي الزاوية البيضاء التي أصبحت فيما بعد مدينة البيضاء، ولكن السنوسي الذي كان يتوجس من العثمانيين فضل الاتجاه جنوبا ليؤسس زاوية الجغبوب، بينما فضل ابنه المهدي التوغل أكثر فرحل إلى الكفرة.

وتوسع في بناء الزوايا في شمال تشاد وغرب السودان، واعتمد على تجارة القوافل لتمويل حركته، وتحاشى تسويق تجارته في بنغازي ودرنة وفضل أسواق مطروح في مصر، حيث توجد قبائل أولاد علي والجوازي والشواعر التي أجبرت على ترك البلاد منذ القرن الثامن عشر، ولكنه كان في حاجة إلى متعلمين من غرب البلاد لإدارة الزوايا، فاستعان بشخصيات من زليتن وغريان وهون ومسلاتة ومصراتة، وتمكن من تغيير التراتبية التقليدية التي على رأسها قبائل السعادي، لتلعب قبائل المرابطين دورا رئيسيا في حركته.

لماذا تحاشى السنوسي الاقتراب من المدن؟

لأنه أدرك أنهما نمطان متعارضان لا يلتقيان، ولكنهما التقيا في بنغازي فالحضر من قبائل غرب ليبيا وخاصة مصراتة وورفلة وزليتن، والبدو قبيلة العواقير ثم توسعت المدينة لتشمل تقريبا جميع قبائل السعادي والمرابطين وخاصة بعد الاستقلال، حتى سميت «رباية الذايح» لأنها في الستينيات جمعت سكانا من جميع أنحاء ليبيا أكثر من طرابلس، وفي هذه المدينة تجد السلوك الحضري يعيش في تناغم مع السلوك البدوي، بينما فرضت طرابلس ودرنة سلوكها وثقافتها الحضرية قبل أن تجتاحها البداوة بعد انقلاب سبتمبر.

ويبدو أن البداوة قدر ليبيا، فملكها الأول والأخير إدريس السنوسي هو سليل ثقافة بدوية مستنيرة، فقد ولد في الجغبوب وترعرع في الكفرة وهاجر إلى مصر، قبل أن يعود ملكا على البلاد بالرغم من أصوله التي تعود إلى مدينة ساحلية في أقصى الغرب الجزائري هي مستغانم.

والحاكم الثاني لليبيا هو بدوي غير مستنير، فإذا زاوج إدريس بين عصبيته البدوية في برقة والحضور من غرب البلاد، فقد قرر حاكمها الثاني بدونة المدن وتمدين البوادي، وبعد 42 سنة من حكمه الطويل نسى الليبيون سواء كانوا بدوا أو حضرا مشيتهم ونسوا مشية الحمامة.

النمط الثاني من الإنتاج هو الزراعة المروية، ويبدأ مباشرة من أسوار طرابلس، فكل المنطقة خارج الأسوار القديمة كانت مقسمة إلى سواني صغيرة، وبعد بناء الطليان السور الجديد الذي لا تزال آثاره في منطقة الهاني قرب المقبرة، ويمر من الطريق الذي لا يزال يسمى بطريق السور، وحتى منتصف الستينيات كانت هذه السواني موجودة داخل السور الجديد، وقد لعبت وأنا طفل في سانية القلالي في شارع الجمهورية قبل أن يبنى على أرضها السوق المجمع.

أما سوق الجمعة والعمروص وكل المنطقة حتى تاجوراء فكانت سواني صغيرة مسورة بالتين الشوكي، وكان أهالي سوق الجمعة يأتون إلى طرابلس في عربات تجرها الخيول أو الحمير، نسميها الكارطون والشريول لتسويق خضرواتهم، وهم يرتدون الملابس الليبية ويرفعون سراويلهم أعلى الكعبين، لأنهم تعودوا على ذلك وهم يخوضون في التربة المبتلة.

وبعد أن غرس الإيطاليون الغابات حول طرابلس اختفت الرمال التي كانت تحول طرابلس إلى واحة صغيرة، واتسع ريف طرابلس ليشمل قصر بن غشير والسواني وجنزور وتاجوراء والقره بوللي، وهذا منح طرابلس ريفا واسعا على عكس بنغازي التي تدخلها مباشرة من بادية سيدي حمد المقرون.

ينتهي هذا النمط في العزيزية جنوبا، ولكنه يتواصل غربا حتى صبراتة وشرقا حتى مصراتة، وفي هذا الريف نجد أن الكثير من الأماكن يطلق عليها كلمة السوق، مثل سوق الثلاثاء والجمعة في قلب المدينة وبجوارها، ثم تقريبا جميع أيام الأسبوع، مثل سوق الخميس والأربعاء والسبت والأحد.

وبالتأكيد فإن المزارع سيحتاج إلى أسواق لتسويق إنتاجه، وهكذا نشأت علاقة من التكامل والتناغم بين المدينة وريفها، أما سكان طرابلس فكانوا مزيجا عجيبا من الليبيين والطليان والمالطيين واليونانيين واليهود وتقريبا جميع شعوب المتوسط.

لذلك كانت المدينة تتجه نحو البحر، فمن هناك وصلت السلع الجديدة ميناءها الكبير، وتكون التاجر البحار ليس مثل التاجر البحار التونسي، ولكنه كان يكفي ليلعب دور التاجر الكمبرادوري، الذي علمه الإيطاليون في مدارسهم ليكون موظفا في إدارتهم، ومروجا لسلعهم وثقافتهم وعاداتهم في الأكل والشرب والملبس.

ففي طرابلس يمكنك شرب قهوة تشبه القهوة في روما، وتأكل بيتزا تشبه البيتزا في نابولي، ولا يخفي الطرابلسيون تأففهم من الريفيين والبدو الذين يشقون شوارعهم فأطلقوا عليهم لقب الشلافطية والركلت والعكعك وكحيلة قبل أن يحكم الوافدون قبضتهم على المدينة ويحولوا أهم شوارعها إلى ملهاد.

________________________

مقالات