د. نعيم الغرياني
بعد هزيمته في حرب تشاد على أيدي قوات حبري في مارس عام 1987 أُخذ العقيد خليفة حفتر أسيرا مع أكثر من 1500 من جنود وضباط الجيش الليبي ومدنيين من بينهم العقيد صالح الحبوني والمقدم عبد الله الشيخي والدكتور إدريس أبوفايد.
تدخلت الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا المعارِضة لدى الحكومة التشادية لإطلاق سراح الأسرى الليبين وانضم ما يقرب من نصفهم (736) إلى صفوف الجبهة المعارضِة.
حرصت الجبهة منذ انطلاقها في عام 1981 على أن يكون لها جناح عسكري وبدأت منذ عامها الأول في بناء قوة عسكرية عرفت فيما بعد بقوات الإنقاذ.
رأت الجبهة في أسرى تشاد الذين اختاروا الانشقاق عن نظام القذافي فرصة لتوسيع جناحها العسكري بتأسيس ما أطلق عليه آنذاك اسم “الجيش الوطني الليبي” وتم تشكيل قيادة عليا للجيش برئاسة الأمين العام للجبهة محمد المقريف وعضوية غيث سيف النصر وعاشور الشامس وخليفة حفتر وعبد الله الرفادي، تولى المقريف منصب القائد الأعلى وكلف حفتر بمهمة القائد العام.
نجح إدريس دبي المدعوم من فرنسا في انقلابه على حسين حبري. وباستيلاء دبي على السلطة في ديسمبر 1990 اضطرت الجبهة الوطنية لمغادرة تشاد ونقل كوادرها ومنهم عناصر الجيش الجديد إلى الولايات المتحدة عبر زائير.
وفي زائير استطاع القذافي إغراء عدد كبير منهم بالتراجع وبقى مع الجبهة 426 فردا بين ضباط وجنود من بينهم العقيد خليفة حفتر والعقيد صالح الحبوني (نائب القائد العام) والمقدم عبدالله الشيخي (قائد العمليات) تم نقلهم إلى أمريكا.
تولت الجبهة الوطنية ترتيب إقامة حفتر وبعض الضباط الآخرين في فرجينيا غرب العاصمة واشنطن وتوزع الباقون على مدن أمريكية أخرى.
لم يستمر شهر العسل بين الجبهة وحفتر طويلا، وبدأ الأخير في التواصل مع نظام القذافي عن طريق عبد المنعم الهوني عضو مجلس قيادة إنقلاب سبتمبر الذي كان يقيم بمصر آنذاك.
وتطور التواصل لاحقا إلى مستوى أرفع عن طريق العقيد أحمد محمود الزوي المقرب من القذافي. واعترف حفتر فيما بعد بأن القذافي اشترى لأسرته فيللا في مصر، وفسر تلك الهدية بأن القذافي كان ينوي بها نصب فخ له.
وبعد فشل محاولة انقلاب قامت بها مجموعة من ضباط بالجيش الليبي من مدينة بني وليد في أكتوبر 1993، أعلن حفتر انفصاله عن الجبهة.
بقي حفتر خارج المعارضة الليبية، يعيش في فرجينيا ومعه بعض أفراد عائلته حتى انطلاق الثورة الليبية في فبراير 2011 ضمن ثورات الربيع العربي التي بدأت في تونس وسرعان ما وصلت شرارتها إلى عدد من الدول العربية ومن بينها ليبيا.
وجد حفتر في لحظة انطلاق الثورة فرصته الذهبية والأخيرة ليحقق حلمه الذي يئس منه في حكم ليبيا فسارع إلى بنغازي طارحا نفسه قائدا لقوات الثورة في شرق ليبيا آنذك.
ولكن وجود اللواء عبد الفتاح يونس وهو ابن برقة حال دون ذلك. وحتى بعد اغتيال اللواء يونس، فشل حفتر في الحصول على تكليف من المجلس الوطني الانتقالي بتنصيبه قائدا للثورة أو برئاسة الأركان لاحقا بسبب معارضة الثوار.
انتقل حفتر بعد انهيار قوات القذافي في آواخر أغسطس 2011 إلى طرابلس مع بعض ابنائه وعدد من اتباعه ليستأنف مشروعه هناك وكون ميليشيا اختار لها اسم “الجيش الوطني الليبي، ” وهي التسمية التي سبق أن أطلقت على جيش الجبهة الوطنية كما ذكر سابقا.
كان اسم الجيش الشرعي المنضوي تحت سلطة الدولة (المجلس الانتقالي، ثم المؤتمر الوطني العام والحكومة الانتقالية) هو “الجيش الليبي“. استطاع حفتر فيما بعد أن يوظف هذا الخلط بين التسميتين ليُلْبِسَ على الكثيرين يأن ميليشيته تلك هي نفسها الجيش الليبي.
حاول حفتر طول تلك الفترة أن يتسلل إلى الدولة بالحصول على منصب رسمي (رئيس للأركان أو وزير للدفاع، حيث لم يكن يوجد منصب القائد العام للجيش آنذاك) ولكن محاولاته لم تثمر مما دفعه في 2014 إلى الخروج على التلفزيون وإعلان انقلاب على طريقة انقلابات عساكر العرب في وسط القرن الماضي، وشمل بيانه الانقلابي المتلفز حل المؤتمر الوطني المنتخب وتوليه هو لمقاليد السلطة في البلد!
وغاب عنه أن العالم قد تغير وأن السيطرة على الإذاعة لم يعد كافيا للإستيلاء على السلطة. أدانت حكومة على زيدان في ذلك الوقت محاولة الإنقلاب البائسة تلك وصدر أمر بالقبض عليه بتهمة الإنقلاب على السلطة الشرعية، ولكن الأمر لم يُنفَّذ.
كانت القوى المعادية لتطلعات الشعوب نحو التحرر من منظومة الاستبداد التي حكمت المنطقة العربية لعقود طويلة قد بدأت في العمل المكثف على إجهاض ثورات الربيع العربي وحققت أول نجاحاتها في مصر.
انضمت مصر إلى الإمارات والسعودية وصار هذا الثالوث يقود جهد تخريب ثورات الربيع العربي في باقي المنطقة (تونس، ليبيا، اليمن، وسوريا.) بالمال والسلاح.
رأي هذا الثالوث في حفتر وفي هوسه بالحكم أداتهم المثلى في تخريب الثورة الليبية وإرجاع ليبيا إلى حضيرة الأستبداد العربي الذي تقوده تلك الدول بأموالها وما توفره لها تلك الأموال من نفوذ إقليمي ودولي وقدرة على التاثير في الرأي العام عبر آلتها الإعلامية الضخمة وعن طريق شراء الذمم والولاءات.
وجد حفتر في أجندات ثالوث مصر–الإمارات–السعودية ضالته، فانتقل إلى شرق ليبيا ليكون قريبا من مصر، مستخدما غطاء محاربة الإرهاب، وبدأ في أبريل 2014 حربه المدمرة على بنغازي في شرق ليبيا.
وبعد “حراك لا للتمديد” الذي مولته الإمارات آنذاك بتواطؤ بعض التيارات والنخب السياسية في ليبيا، دُفِعت ليبيا إلى انتخابات برلمانية أخرى لم تكن مهيأة لها، تم على اثرها انتخاب برلمان جديد (مجلس النواب) ليحل محل المؤتمر الوطني العام.
وفور إعلان نتائج انتخابات المجلس في يوليو 2014، بدأ حلف حفتر والثالوث العربي المقيت في العمل على وضع البرلمان الجديد تحت هيمنة حفتر، ونجحوا في ذلك عندما اختطفوا البرلمان الجديد إلى طبرق في أقصى شرق ليبيا وأقرب المدن الليبية إلى مصر، والتي كانت واقعة تحت سيطرة حفتر آنذاك.
وظل مجلس النواب منذ انعقاده الأول في أغسطس 2014 في طبرق أداة في يد حفتر ومن ورائه مصر والإمارات والسعودية إلى اليوم، معرقلا لمسار التوافق الوطني والعملية السياسية بما فيها الاتفاق السياسي الذي رعته الأمم المتحدة وشارك ممثلون عن مجلس نواب طبرق في صياغته.
استغل حفتر تفويض رئيس المجلس عقيلة صالح باختصاصات القائد الأعلى للجيش الليبي وأرغم مجلس النواب بالتواطؤ مع رئيس المجلس على إصدار قانون رقم (1) لعام 2015 القاضي باستحداث منصب القائد العام بإجراء مخالف للنظام الداخلي للمجلس.
وعلى تفصيل قرار رقم (20) لعام 2015 صدر في نفس اليوم الذي صدر فيه القانون (2 مارس 2015) بتعيين حفتر المتقاعد قائدا عاما للجيش الليبي بعد ترقيته إلى رتبة فريق. وتماديا في استخفافه بمجلس النواب، استمر حفتر في استخدام تسمية “الجيش الوطني الليبي” رغم أن قرار تعيينه استخدم اسم “الجيش الليبي!”
نص الاتفاق السياسي الذي تم التوقيع عليه في مدينة الصخيرات المغربية في ديسمبر 2015 صراحة على تولي مجلس رئاسة الوزراء مهمة “القائد الأعلى للجيش الليبي” وعلى نقل “كافة صلاحيات المناصب العسكرية والمدنية والأمنية العليا المنصوص عليها في القوانين والتشريعات الليبية النافذة إلى مجلس رئاسة الوزراء” فور توقيع الاتفاق، وأن يقوم مجلس رئاسة الوزراء “باتخاذ قرار بشأن شاغلي هذه المناصب خلال مدة لا تتجاوز عشرين يوما وفي حال عدم اتخاذ قرار خلال هذه المدة، يقوم المجلس باتخاذ قرارات بتعيينات جديدة خلال مدة لا تتجاوز ثلاثين يوما.”
تجاهل حفتر الاتفاق السياسي الذي كان مجلس النواب المحسوب عليه أحد أطرافه، وواصل حربه على بنغازي، ثاني أكبر مدينة في ليبيا، وكافأه عقيلة صالح مرة أخرى بترقيته إلى رتبة مشير.
وبعد تدميره لمدينة بنغازي، نقل حربه إلى درنة، مدينة العلم والثقافة وثالث أكبر مدينة في شرق ليبيا والتي رفض أهلها الانصياع لاطماع حفتر في الهيمنة.
نتج عن عدوان حفتر على بنغازي ودرنة دمار للمدينتين لم تشهده ليبيا في تاريخها المدون، ونزوح اعداد كبيرة من تلك المدن إلى غرب ليبيا فارين من بطش حفتر وآلته القمعية بعد أن أعاد كل الأساليب البوليسية القذرة التي ثار عليها الليبيون، وعادت صور “الزعيم الأوحد” إلى شوارع مدن الشرق، وجادت قرائح المرتزقة بقصائد المدح والثناء، ورجع مناخ العبودية الذي عانى منه الليبيون لعقود طويلة إلى شرق ليبيا.
حاول حفتر أثناء ذلك الهيمنة على النفط وبيعه خارج الدولة (المؤسسة الوطنية للنفط) ولكنه اصطدم برفض الغرب (والأمريكان خاصة) لمحاولته تلك، فلجأ إلى السطو على المصارف وأشهرها سطوه على فرع مصرف ليبيا المركزي في بنغازي وإلى طباعة مليارات الدينارات الليبية في روسيا خارج سلطة المصرف المركزي الشرعي التابع لحكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليا، وبمساعدة “الحكومة المؤقتة” التي أنهاها الاتفاق السياسي في ديسمبر 2015 والتي اتخذت من مدينة البيضاء في شرق ليبيا مقرا لها.
بعد سيطرة حفتر على شرق ليبيا، وبعد أن بدأ العالم يدفع في اتجاه تسوية سياسة، ضمن له فيها حلفاؤه العرب ومن انضم لهم من الدول الغربية وبالأخص فرنسا كرسيا على طاولة المفاوضات دخوله طرفا سياسيا مع حكومة الوفاق ومجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة.
لم يكتف حفتر ولا رعاته العرب بذلك المكسب، فأنطلق بدعمهم السخي وبتشجيعهم الى المرحلة الثانية من برنامجه في السيطرة على الحكم. اختار التحرك نحو جنوب ليبيا، الحلقة الضعيفة، والتي رغم ضعف كثافتها السكانية تغطي مساحات جغرافية شاسعة الأمر الذي يعطي انطباعاً مضللاً بأنه يسيطر على أغلب ليبيا، ولو إلى حين.
_____________
المصدر: صفحة الكاتب على الفيسبوك