د. فتحي الفاضلي
انطلقت ثلاث رصاصات.. لتمزق جسد الكاتب والصحفي والمذيع والداعية الناجح.. الاستاذ محمد مصطفى رمضان.. وذلك عقب انتهائه من اداء صلاة الجمعة.. بمسجد ريجنت بارك بلندن.. فسقط الشهيد.. وسط رواد المسجد.. ووسط المصلين.. من نساء ورجال واطفال.. سقط.. وهو مضرج بالدماء التي وهبها من اجل الفكرة.. والكلمة.. والوطن.
كان اغلب المسلمين ينتظرون.. لحظات ما بعد صلاة الجمعة.. بفارغ الصبر.. ليتجاذبوا.. اطراف الحديث.. عن الوطن.. والدراسة.. والعمل.. عن الاصدقاء.. والاخوة.. والاحباب.. عن مستجدات الاهل.. والاقرباء.. والاصحاب. يتحدثون.. ويبتسمون.. وضحكاتهم البريئة تتعالى.. بينما.. يتبادلون الجديد والطريف من الاخبار والوقائع والاحداث.. لينطلقوا.. بعدها.. الى شؤونهم واعمالهم.. ونشاطاتهم.. وقد اطمأنوا على بعضهم البعض.. يفعلون ذلك.. في اوقات.. امتلأت فيها.. نفوسهم وقلوبهم وارواحهم.. بالطمأنينة.. والهدوء.. والسكينة.. وامتلأت بالامن والامان والسلام.
كانت لحظات ما بعد صلاة الجمعة.. لحظات قصيرة شيقة جميلة.. كانت لحظات سعادة.. وروحانيات.. وإيمان.. كانت عرسأً اسبوعياً.
لكن رصاصات النكد.. انطلقت بأمر من الشيطان.. لتحيل هذا العرس.. وتحيل هذه اللحظات الجميلة المفعمة بالامن والروحانيات والامان.. والهناء والسكينة والسلام.. الى اجواء من الحزن.. والهم.. والالم.. والغم.. والدهشة.. والتساؤل.. والاستغراب.
بل تضاعف الاستغراب.. وزادت الاحزان.. عندما علم الناس.. ان الضحية هو الكاتب الاسلامي.. المشهور.. والمذيع الليبي.. المعروف على مستوى العالم العربي والاسلامي: الاستاذ محمد مصطفى رمضان.. الرجل الذي وظف وقته.. وجهده.. وقلمه.. وكلماته.. في خدمة ليبيا والاسلام والمسلمين.. الرجل الذي لا يبدأ ولا ينهي مقالة.. او برنامج.. او نشرة.. او خبر.. او رسالة.. إلا بكلمة طيبة.. يقول فيها “.. سلام من الله عليكم ورحمة منه وبركات..”، ولا ينهي نشرة او رسالة او برنامج الا بمقولة طيبة.. مميزة.. مشهورة.. يقول فيها “.. ختاماً.. محمد مصطفى رمضان.. يحييكم .. ويترككم في امان الله وحفظه.. وسلام من الله عليكم.. ورحمة منه وبركات.. “،
ثم وفوق ذلك.. الرجل الطيب.. والاب الحنون.. لطفلة.. كان لها من العمر.. في ذلك الوقت.. اربع سنوات.. كانت تنتظره ليعود اليها كعادتها.. كل جمعة.. بعد الصلاة.. فافتقدته.. منذ ذلك اليوم.. وافتقده معها ملايين المسلمين من اصدقاء ومعارف واقرباء ومستمعي الشهيد في جميع انحاء ليبيا والعالم العربي والاسلامي.. الملايين الذين كانوا.. كل يوم.. ينتظرون صاحب الجملة المميزة.. ليأخذهم الى عالم الحقائق والتحليل والاخبار.. محمد مصطفى رمضان.. كان.. دمث الاخلاق.. مرحا.. لينا.. ودودا.. لكل ذلك.. ازداد استغراب المسلمين.. ولكل ذلك ازدادت احزانهم..
ولد الاستاذ محمد مصطفى رمضان، في 23 نوفمبر1944م، وانهى دراسته الابتدائية في مصر، ثم عاد الى بلده ليبيا في1957م، ليواصل دراسته الاعدادية والثانوية . التحق بالاذاعة الليبية في 1963م (أي اثناء دراسته) . وبعد ان تحصل على الشهادة الثانوية من مدرسة طرابلس الثانوية، التحق بالجامعة الليبية ثم توقف عن الدراسة، ليتفرغ للعمل بالاذاعة تفرغا كاملا. عمل في 1966م، بالقسم العربي بهيئة الاذاعة البريطانية كموظف، ثم كمذيع ومقدم برامج .
انتسب في1971م (اثناء عمله بالاذاعة بلندن) بكلية الحقوق، بجامعة “محمد الخامس” بالرباط ، وتحصل منها على شهادة الحقوق. كما انتسب ايضا الى جامعة برمنجهام قسم الدراسات الاسلامية، لمواصلة دراسته العليا عن “نظام الحكم في الاسلام”. والشهيد متزوج وله بنت واحدة (حنان) كان لها من العمر اربع سنوات عندما قُتل والدها غدراً يوم الجمعة 11 ابريل 1980م.
ومن المعروف ان عائلة بن رمضان (عائلة الشهيد) من العائلات الكريمة المعروفة في مدينة طرابلس، فقد ناضل والده جنبا الى جنب مع المناضل “بشير السعداوي” (رئيس حزب المؤتمر) ضد الاستعمار الايطالي الفاشستي.
بدأ الاستاذ محمد مصطفى رمضان ممارسة الكتابة اثناء المرحلة الاعدادية، وكان شغوفا بالعلوم الاسلامية. شارك اثناء دراسته الاعدادية والثانوية، في عدة جرائد حائطية. ونجح كمذيع في الاذاعة الليبية والاذاعة البريطانية، وكان يكتب لعدة صحف ومجلات اسلامية من بينها مجلة “الشهاب” التي كتب فيها تحت عنوان “جولة في الصحافة اليهودية”، وكتب ايضا في مجلة “الامان” و”العرب” والعديد من المجلات الاخرى. ويعتبر كتابه “الشعوبية الجديدة.. فصول في التاريخ والسياسة”، من اهم انتاجه الفكري والثقافي، وقد كرمني الله سبحانه وتعالى، فاعددت، سابقا، نبذة عن الكتاب، سأنشرها، باذن الله تعالى، بعد اسبوع من نشر هذا العرض.
وعودة الى هذه الجريمة البشعة..
التي تورط فيها، تنفيذا، كل من بالحسن محمد المصري (28 عاما)، ونجيب مفتاح القاسمي (26عاما)، وهما من اتباع النظام الليبي، وتورط فيها، تخطيطا واعدادا وتدبيرا، كل من: احتيوش فرج احتيوش (احد المشرفين على مؤتمر الاطباء الليبيين الذي عقد مؤخراً)، وعبد القادر المسلاتي، وحسن الاصيبعي، وموسى كوسا (امين اللجنة الثورية في لندن في ذلك الوقت، ومسؤول الامن الخارجي في ليبيا حاليا) وبالقاسم عبد الله، والمبروك القايد، والمبروك ابراهيم صافار، وعياد الاربش، وسعد السنفاز، ومحمد مصطفى المغربي، وخليفة العزابي، وامحمد الحمروني، وكانت هذه المجموعة تُعرف في ذلك الوقت باللجنة الثورية في لندن.
تم القبض على المنفذين (بالحسن المصري ونجيب القاسمي) واعترفا بجريمتهم، بعد ان حاولا الهرب، وحكمت عليهما محكمة “اولد بيلي” العليا بلندن، بالسجن مدى الحياة، وذلك في 16 سبتمبر1980م، اي بعد خمسة اشهر من تنفيذ الجريمة.
فما هي ملابسات هذه الجريمة..؟!
لم يتوقف النظام الليبي، قبل تنفيذ الجريمة، عن الاتصال بالشهيد، ومحاولة اغرائه بشتى المناصب والوعود والوظائف، من اجل ان يعود الى ليبيا، او على الاصح، من اجل استدراجه الى ليبيا.
وقد ضمت المجموعة التي كانت على اتصال بالشهيد، كل من: موسى كوسا، الذي ثبت اتصاله بالشهيد عدة مرات، كان بعضها في شهر مارس، بل شوهد الاستاذ محمد مصطفى رمضان في مكتب موسى كوسا يوم 9 ابريل 1980م (قبل يومين فقط من جريمة القتل). وضمت المجموعة ايضاً، سيد قذاف الدم (الملحق العسكري في لندن في ذلك الوقت)، واحمد المسماري (سفير ليبيا في بريطانيا في ذلك الوقت)، واحمد المقصبي (سكرتير معمر القذافي سابقا، وقد كان على اتصال بالشهيد هاتفيا).
كانت هذه المجموعة (وغيرهم) تُظهر للشهيد المودة واللين، وكانوا يدفعونه ويحثونه ويشجعونه على العودة الى ليبيا لاستلام مهام ومناصب حساسة في الاذاعة الليبية، منها مهمة لاشراف على الاذاعة الليبية في طرابلس، والاشراف على إذاعة ليبية موجهة من مالطا.
كان الشهيد يرفض عروض النظام، بادب جم، موضحا لمفاوضيه ظروف عمله ودراسته واسرته. وعندما كثف النظام من اتصالاته، وكثف من ضغطه، قال الشهيد: انه لا يعارض فكرة العمل في الاذاعة الموجهة من مالطا، لكنه لا يستطيع استلام العمل قبل الانتهاء من دراسته في برمنجهام. واقترح عليهم الشهيد، في نفس الوقت، افتتاح مكتب للدعوة الاسلامية في لندن، يكون من مهامه التعريف بالاسلام والدعوة اليه في بريطانيا، بالاضافة الى رعاية شوؤن المسلمين فيها، وابدى استعداده لادارة هذا المكتب . وكان الاستاذ محمد مصطفى رمضان، يكرر لاعوان النظام، من حين الى اخر، قوله: إن الخدمة الوحيدة التي يمكنني ان اقدمها لكم هي خدمة الاسلام اولاً، ثم خدمة ليبيا كجزء من الامة الاسلامية.
نلمس مما سبق وبوضوح، ان الشهيد، كان يحس بان هناك شيئا ما يحاك ضده، وكان يحاول التملص، بادب، من استدراج النظام واغراءته ومساوماته، ولا يريد، في نفس الوقت، ان يشعر النظام بنواياه. لم يخدع الاستاذ محمد مصطفى رمضان.. اذا.. لكنه كان يتعامل مع النظام واعوانه بحكمة وصبر وذكاء، ويتعامل معهم ايضا، من باب “معذرة الى ربكم”. كان الشهيد صادقا، وكان يتمنى في نفس الوقت، ان يتركوه وشأنه. ولكن غدر به المجرمون، برغم كل شيء، وبالصورة التي اشرنا اليها في بداية هذا العرض.
فلماذا.. اذا.. وفي مصلحة من.. كان اغتيال الشهيد.. !!!. وما هي الحكمة.. والدواعي.. والاسباب.. والدوافع.. العظمى.. وراء هذه الجريمة!!!. خاصة وان الشهيد لم يمارس ما من شأنه ان يهدد امن البلاد والعباد، بل على العكس من ذلك، لم يبخل بارائه الصائبة حول اغلب القضايا الحساسة التي تمس ليبيا والليبيين، زد على ذلك ان الشهيد لم يكن عضوا في اي تنظيم من التنظيمات، باعترافه شخصيا واعتراف اصدقائه واقرب المقربين اليه، فلم يُعرف عنه الانتماء الى اية جماعة اسلامية، او حزب اسلامي، او غير إسلامي، بالرغم من حقه في ذلك، وكان الفقيد يعتبر نفسه “اسلاميا مستقلا”، وكان يصادق كل المحبين للخير، ويحاول ان يقيم علاقات ودية مع اكبر عدد ممكن من الكتاب والمثقفين على اختلاف اتجاهاتهم، كما كانت تربطه صداقات مع شخصيات منتمية، واخرى لا انتماء لها.
كما ثبت، انه لا علاقة للشهيد بفصائل المعارضة ومطبوعا تها، التي كانت تصدر في ذلك الوقت، وخاصة “الجهاد” و”صوت ليبيا”، زد على ذلك ان الشهيد رفض اموال وعروض، قُدمت اليه من جماعات واحزاب ودول وانظمة، كانت تكن للنظام عداءا شديدا.
مرة اخرى.. لماذا.. اذا.. وفي مصلحة من.. كان اغتيال الاستاذ محمد مصطفى رمضان!!
لقد كان الشهيد.. كغيره من الليبيين.. يتابع ويراقب مجريات الامور في بداية الانقلاب، وهاله، كما هال الليبيين، ما كان يسمعه من تصريحات ويرى من ممارسات واجراءات وقرارات غريبة، كان النظام يتخذها دون ترو وتأمل وتفكير.
قرر الشهيد، بناءا على ذلك المساهمة في اصلاح ما يمكن اصلاحه، فاختار ان يبعث برسائل، تحت عنوان “خطابات مفتوحة الى معمر القذافي” عن طريق اشخاص كانوا يؤكدون وصول هذه الرسائل، التي تحتوي على ملاحظات واراء ونصائح وارشادات وجهها الشهيد الى معمر القذافي، حول العديد من القضايا السياسية والعسكرية والادارية والتعليمية، التي عجز معمر القذافي عن تناولها او علاجها بصورة صحيحة. كان الشهيد عبر هذه الخطابات، يندد ايضاً، بالفساد المستشري في البلاد، ولكن طغت الحكمة والادب والصراحة والوضوح والمباشرة واللين على اسلوبه، وكان يبدأ وينهي خطاباته بكلماته الطيبة، وجملته المشهورة التي تقول”.. سلام من الله عليكم ورحمة منه وبركات.. “.
اشتهرت من بين هذه الرسائل، ثلاثة، كُتبت الاولى منها في 18 فبراير 1972م، وقد طغى عليها صيغة الحوار والمناظرة والطرح العام . قدم الشهيد في هذه الرسالة، نصائحه وارشاداته حول العديد من القضايا الحساسة، منها على سبيل المثال، نظرة الاسلام الى الصراع الديني والقومي، والتأمر الروسي على الباكستان، والملكية، وقضية الاراضي الزراعية، ورفض الاسلام لجميع انواع الديكتاتوريات، بما في ذلك دكتاتورية “البروليتارية” وحكم العسكر، الذي رأى الشهيد انه سيتحول حتما الى حكم فاشيستي (وكان محقا في ذلك).
كما اضاف الشهيد في هذه الرسالة: ان ليبيا في حاجة الى “العدالة الاجتماعية” لا إلى “الاشتراكية”، فهناك العديد من انواع “الاشتراكية”، ولا ندري اي منها نتبع. وتحدث في هذه الرسالة ايضا، عن المناهج وتركيز الغرب عليها. وأكد على اهمية بناء حياتنا على ركائز الايمان بالله. وكان الشهيد يمزج كلماته ونصائحه وارشاداته، بشيء من اللين الايجابي (اي البعيد عن المداهنة) طمعا في ان تجد آراؤه الصائبة، بخصوص هذه القضايا، اذناً صاغية، مما قد يخدم مصلحة الوطن.
اما الرسالة الثانية فقد بعثها الشهيد في سبتمبر1973م، اي بعد خطاب زوارة بخمسة اشهر تقريبا، وتضمنت ردودا وتساؤلات تتعلق بذلك الخطاب (ابريل،1973م)، وكان مضمونها، اكثر مباشرة، ونبراتها اشد حدة، من الرسالة الاولى، دون الخروج عن الاطار العام لاسلوب الشهيد.
كان خطاب زوارة.. اذا.. الدافع الرئيسي وراء الرسالة الثانية. لذلك القت هذه الرسالة الضوء على تناقضات سياسية وامنية عديدة، وردت في ذلك الخطاب، وكانت رسالة جريئة وصريحة ومباشرة، صحح فيها الشهيد اكثر من ثلاثة وعشرين موقفا وقرارا سياسيا وامنيا وقانونيا، اتخذها النظام ضد الاسلام والمسلمين، وبالتالي ضد مصلحة ليبيا والليبيين.
تساءل الاستاذ محمد مصطفى رمضان، في رسالته الثانية عن الحكمة وراء طرد المجاهدين التشاديين من ليبيا، واغلاق مكاتبهم واذاعتهم الموجهة، دون ان تتغير حكومة “فرانسوا تمبلباي” العنصرية المستبدة في تشاد. كما تساءل الشهيد قائلا: كيف تؤيد نظام عسكري في الصومال، يكتب اللغة الصومالية بحروف لاتينية، وكيف تشاركون في قصف جزيرة “ابا” في السودان، وتخلفون مئات القتلى والجرحى من المسلمين، ولماذا تؤيد نظام “عدن”، الذي لا يخفي انه ماركسي، وهو من الانظمة الشرسة التي ترهق المسلمين في “اليمن”.
وكيف تقومون بايواء المغاربة الشيوعيين في ليبيا، مع شدة عدائهم للشعب المغربي، في الوقت الذي تعلن فيه حرباً على الشيوعيين في ليبيا. وكيف ترفض الحزب والحزبية بينما تدخل في وحدة او حلف او تحالف مع البعث السوري، وتغض الطرف في نفس الوقت، عن نشاطات تنظيم البعث السوري القطري في ليبيا. وكيف تعطل القوانين (في خطاب زوارة) لتصبح ليبيا دولة، تُحكم بلا قوانين، ودون تقنين اخر، وكيف تقول عن تعطيل القوانين “ما يهمنيش هذي تصبح تجربة فريدة”.
كما تحدث الشهيد عن شرعية الحكم في ليبيا، وضرورة إجراء انتخابات من اجل ترسيخ الشرعية، وتحدث ايضا عن الامن، والاعتقالات العشوائية، والمعتقلين السياسيين، وتغييب الناس في السجون، والغاء الجامعة الاسلامية، والربا، والقومية، والاشتراكية. وقال ان ليبيا اصبحت دولة تُحكم بلا دستور، بل بالاهواء والمصالح .
اما الرسالة الثالثة والتي كتبت في 18 فبراير1977م، فقد ركزت على حالة الامة الاسلامية وما تحتاج اليه من اجل ان تنهض، وركزت كذلك على الدعوة ورجال الدعوة، وعلى بعض المفاهيم الاسلامية المتعلقة باوضاع الامة بصفة عامة. فبعض ما قال الشهيد في هذه الرسالة: ان الله قد ارتضى لنا هذا الدين وسماه “الاسلام” ولم يُسمه شيئا اخر كـ “الاسلام الاشتراكي” مثلا، كما ان امة القرآن التي ننتمي اليها جميعا، لا يصح ان توصف باي صفة اقليمية او عنصرية، لان إلهنا إله واحد، ونبينا واحد، وقبلتنا واحدة، ولا يجب ان يتبنى زعماء هذه الامة وقادتها، وسائل غريبة عن عقيدة هذه الامة، لجمع شتاتها وضم صفوفها.
ويواصل الشهيد قائلاً: كما يؤسفني ان ارى رجال الدعوة قد اُبعدوا عنك (عن معمر القذافي) وعن الاتصال بك في الوقت الذي كان يجب ان يكونوا حلفاءك الطبيعيين في تحويل ليبيا الى “دولة اسلامية” على اعتباران “القرآن شريعة المجتمع”. واضاف الشهيد ان القوى الصليبية والصهيونية في كل مكان، تبذل اليوم قصارى جهدها للحيلولة دون ان يفهم المسلمون الاسلام الفهم الصحيح، وان الامة في حاجة الى اذاعة عالمية قوية تُبصرها بحقيقة اسلامها كعقيدة ومنهج حياة، ولتكن هذه الاذاعة تحت اسم “صوت الامة الاسلامية”.
وقد عُثر على نسخة من الرسالة الثالثة، مع احد اصدقاء الشهيد، مذيلة بملاحظة مكتوبة بخط يد الشهيد، تقول:
لقد اُرسل هذا الخطاب (الرسالة الثالثة) قبل اعدامات بنغازي، وقبل اعدامات ضباط الجيش التي تلتها مباشرة، بحوالي خمسة اسابيع، ولو انها حدثت (اي الاعدامات) قبل إرساله، لمزقته شر ممزق، ووضعته في سلة المهملات، لان “الملازم” ولغ في الدم، وكنا قبل ذلك نأمل في عودته الى الطريق.
كان الشهيد يشير، في ملاحظته هذه، الى اعدامات بنغازي التي تمت في7 ابريل1977م، وذهب ضحيتها عمر دبوب (مدرس) ومحمد بن سعود (مدرس) وعمر الورفلي (فنان) واحمد فؤاد فتح الله (عامل من مصر)، ويشير ايضا الى الاعدامات التي تمت في 2 ابريل 1977م، والتي راح ضحيتها واحد وعشرون ضابطا، اعدموا بتهمة الاشتراك في المحاولة الانقلابية التي تمت في اغسطس 1975م والتي عُرفت بمحاولة الرائد عمر المحيشي.
فهل كانت الرسائل الثلاث، التي امتلئت حرصا وحبا للوطن والاسلام، هي السبب في جريمة القتل التي احدثت صدى واسعاً من الحزن والأسى لدى الاوساط الاسلامية والجاليات العربية في بريطانيا، واحدثت موجة من الاستنكار والغضب في اوساط الشعب الليبي. فاقيمت الصلوات على روح الشهيد في كل مسجد، في انحاء العالم، وصله هذا الخبرالفاجعة. ووزعت المناشير وخرجت مظاهرات عديدة تندد بالجريمة ومرتكبيها تلك الجريمة التي لم يستفد منها إلا اعداء هذه الامة بصفة عامة، واعداء الليبيين بصفة خاصة.
وكتب عشرات الكتاب والصحفيين والسياسيين من ليبيا والمغرب وبريطانيا والسعودية والكويت وفلسطين وامريكا ومصر ولبنان وغيرها من الدول، كتبوا مقالات وبيانات تناولت سلوك وعطاء وابداع وطموح واقوال ووصايا وافكار ورؤى وتضحيات الشهيد، ونددوا في نفس الوقت بالنظام واذياله.
واصدرت نخبة من المثقفين الليبيين، كتابا وثائقيا تحت عنوان “محمد مصطفى رمضان.. من القاتل و.. لماذا؟”، نُشر في1980م، عقب الجريمة بفترة قصيرة. وقد ضم الكتاب مجموعة من الوثائق والمقالات والبيانات غطت الجريمة وملابساتها، وما نتج عنها من ردود افعال. كما ضم الكتاب، رسائل الشهيد الثلاثة .
والكتاب من الاعمال التوثيقية الناجحة، يُشكر كل من ساهم في إعداده. وهو فوق كل ذلك، وثيقة ادانة رسمية للنظام بكامله. وتحدثت بجانب ذلك، جميع فصائل المعارضة الليبية ورجالها عن الجريمة، ونشرت تفاصيلها ودقائقها . كما نشر موقع “اخبار ليبيا“، بعد انتشار المواقع الالكترونية، رسائل الشهيد وتفاصيل الجريمة وحيثياتها في قسم الملفات في الموقع المذكور، ونشرت مواقع اخرى مقالات وتعليقات واشارات عديدة الى الجريمة، منها على سبيل المثال، موقع “ليبيون من اجل العدالة” وموقع “القذافي يهرج”.
وفيما يلي، سنورد فقرات قصيرة جداً من هذه المقالات والوثائق والبيانات. وأتمنى ان يطلع القاريء الكريم عليها، بصبر وتمعن، لندرك معاً، حجم الخسارة التي تكبدتها ليبيا، بموت مثل هذا الرجل، ولنتعرف ايضأُ على جوانب هامة من شخصية الشهيد، ولتزداد في اعيننا قيمته ومكانته وفضله. ثم نعود قبل نهاية هذا العرض، لنتحدث عن جوانب وابعاد اخرى للجريمة، لم نتطرق اليها بعد.
ولنبدأ بجمعية الطلبة المسلمين في المملكة المتحدة وايرلندة، التي قالت في بيان لها، نُشر في مجلة الغرباء، تحت عنوان “مقتل الشهيد”:
ان محمد مصطفى رمضان، من خيرة رجال الاسلام في ليبيا.. وهو شخصية اسلامية ذائعة الصيت عُرفت على نطاق عالمي، خلال نبرات صوته الصادقة الرنانة عبر الاثير، وعُرف بكتاباته الاسلامية في الصحف والمجلات، تلك الكتابات التي تميزت بقوة الحجة ووضوح الفكرة، وسلاسة الاسلوب والعبارة. وهو كاتب كرس جهده الصحفي والفكري، نحو تعرية القوى التي تعمل على تحطيم ما بقى في هذه الامة من قوة، وتعرية الافكار التي تنخر في جسدها لانهاكها، وقد رأى بوضوح، الدورالذي تقوم به شراذم المفكرين وشراذم الكتاب والمأجورين، ومن بعدهم او من ورائهم شلل العساكر، التي قيض لها اغتصاب زمام الامور في بلاد المسلمين، والتحكم في ارزاق الناس ورقابهم والسيطرة على مصير الامة بكاملها.
وفي بيان، موقع باسم “اتحاد المنظمات الاسلامية في اوروبا” بعنوان “شهيد الفكرة الحرة”، تقدمته اية من سورة “البروج” يقول فيها الله تعالى ” وما نقموا منهم الا ان يؤمنوا بالله العزيز الحميد.. البروج/8″، جاء فيه:
قصد محمد مصطفى رمضان بيتا من بيوت الله، لاداء ما افترضه الله عليه من الصلاة، ثم خرج ليجد ان جهة ما، قد ارسلت من يتربص به داخل بيت الله، فاذا فرغ من عبادته واستغفاره ودعائه، اهدرت اليد الاثمة كل القيم والمعاني الانسانية، وسددت اليه الرصاصات الغادرة لتفجع الشعب الليبي في واحد من اخلص ابنائه، وانبلهم نفسا، وانقاهم سريرة.. فبحسب محمد مصطفى رمضان فخرا، ان يكون المسجد هو المكان الذي يعرف اعداؤه انه لا يتخلف عنه.. فيخططون لارتكاب جريمتهم فيه.
ويضيف نفس البيان..
لقد كانت كتاباته تنم عن تصور واضح للفكرة الاسلامية، وإيمان عميق بها، واقتناع كامل بأن التخبط الذي تعانيه المنطقة العربية على صعيد الفكر او الحضارة او السياسة، لابد ان ينتهي بالعودة الى الاسلام واتخاذه منهاجا للحياة.
وفي مقال بعنوان “كلمات اخيرة”، موقع باسم “مسلمو ليبيا في المهجر”، جاء فيه:
قُتل الشهيد داخل بيت الله يوم الجمعة، اعظم ايام الله، بعد اداء شعائر الله، وعلى مرأى من عباد الله المصلين، ورغم حرمة المكان وعظمة اليوم بالاضافة الى عدم الاكتراث بالمؤمنين، الذين وحد الله بينهم وآخاهم في الدين، آتين من كل صوب، برغم هذا كله، جاءعملاء الجلاد الديكتاتور معمر القذافي، عدو الله، ومحرف القرآن، ومانع السنة، وصوبوا نارهم على شهيد الاسلام “محمد مصطفى رمضان”.
أما اللجنة التنفيذية للحركة الوطنية الديمقراطية الليبية، فقد تناولت الحدث عبر صفحات مجلتها “صوت ليبيا”، صوت الحركة الوطنية الديمقراطية الليبية، في مقال بعنوان “الشهيد الاخر”، قالت فيه:
يبدوا ان السفاح القذافي مصمم على المضي في طريق جرائمه الدموية الى نهاية الشوط، متحديا بذلك كل القيم الانسانية.. وجريمة اليوم ذهب ضحيتها مواطن ليبي مسالم، وكفاءة ليبية اذاعية، كانت موضع الاعتزاز والفخر لدى كل ابناء وطنه.
وتضيف مجلة “الجهاد”، لسان حال “الحركة الوطنية الليبية”19، في مقال تحت عنوان “الشهيد محمد مصطفى رمضان”:
كان محمد مصطفى رمضان رجلاً مسلماً بمعنى الكلمة.. مسلما قولا وعملا.. لقد عاش محمد فقيرا.. إلا في اسلامه وراحة ضميره وتضحياته في سبيل إعلاء كلمة الحق.. فقد كان ثرياً بهذه المعاني السامية شديد التعلق بها.. وكان مسلما ثائرا.. وكان عنصرا وطنيا صادقا، ونصيرا دائما للحق والخير.
ويرثي فؤاد حداد الشهيد، في قصيدة نُشرت في مجلة “العرب”20اخترت منها هذه الابيات:
الله تخشى لست تخشى غيره كم كنت تهزأ بالذي يتشدق
ناداك ربك للساء ولم تزل تسعى الى رب السماء وتسبق
هذي الشهادة قد بلغـت حياضها فأهنا فثمة كوثر يتدفق
ويقول جمال شطا، في مقال بعنوان “محمد مصطفى رمضان.. كيف اغتالوه ولماذا ؟:
لقد هزمصرع الاستاذ محمد مصطفى رمضان مشاعر المسلمين في بريطانيا هزا عنيفا، وآلمت هذه الجريمة كل محبيه ومستمعيه، ممن عرفوا صوته الصادق النبرات، يبث على موجات الاثير لسنوات عديدة من لندن.. كما جزع كل مصل ان يرى مصرع ذلك الرجل الطيب المخلص، في بيت من بيوت الله، حيث تلجأ المئات من النفوس المؤمنة، لتجد الراحة والسكينة، ولتتقرب الى خالقها بالعبادة والعمل الصالح. لقد ابلى محمد مصطفى رمضان بلاءا حسناً في شرح قضايا الاسلام، وحاول ان يُبرز، بقلمه ولسانه، بعض الجوانب العظيمة في هذا الدين الحنيف.
وتحت عنوان “شهيد الجمعة”، يقول محمد الادريسي، في مجلة ” النور” بالمغرب22:
لقد كان، غفر الله له، الاخ الكبير، والصديق الحميم، والمسلم الطيب، والمؤمن الصادق والمجاهد الصامد بلسانه وقلمه، لم يرضخ لعقود، ولم يرضخ لعروض ولم يخش تهديدات، ان الاسلام كان رؤيته ودعوته، وكم كان يعتز بانتسابه لامة القرآن، وكم كان يرى تميز هذه الامة واضحا.
ويتسأل محمد صلاح الدين، في مقال نشرته صحيفة “المدينة” بجدة، بعنوان”هل يمكن تصديق هؤلاء”، يتسأل قائلا:
كيف نصدق هؤلاء القتلة، وهم يتحدثون عن مقاومة الاستعمار، وعن كرامة الانسان، ويتشدقون بتحرير فلسطين، ويزعمون انهم قد حلوا قضايا المصير، وهم يغتالون افضل رجال هذه الامة.
ويقول ابوفلسطين، في مقال نُشر في مجلة “البلاغ” بالكويت، بعنوان “لقد انتصرت على قاتليك”:
كانت شهادته انتصارا لكلماته.. لقد سقطت.. يا محمد.. في ميدان الكلمة والدعوة.. فارعبت كلماتك الصادقة قاتليك.. عرفناك كاتبا حرا واعيا.. ومفكرا اسلاميا نقيا مخلصا.. حاول اعداؤك شراءك او تشويه صورتك.. وسلطوا كلابهم النابحة عليك.. ولكنك لم تتراجع عن الحق.. الذي ذقت صدقه وحلاوته.. ولم تجبن عن كشف انحراف المنحرفين.. وتبعية الساقطين.. ان كتابك “الشعوبية الجديدة” سيظل صفعة على وجه كل طاغية دجال مزور. وجاء في مجلة “الامان” من بيروت25، في مقال بعنوان “مصرع رجل الكلمة”: ان الكلمة عند محمد مصطفى رمضان كالقنبلة، ان لم يفجرها عبر قلمه، انفجرت في صدره.
وتقول مجلة “الدعوة”26 التي تصدر من القاهرة:
ان محمد مصطفى رمضان، واحد من المع الاعلاميين الاسلاميين على مستوى العالم، استمر يجاهد بقلمه وصوته ضد القوى المعادية للاسلام، صليبية ويهودية وشيوعية، وضد عملائهم من الاقزام الذين يتسلطون بالقهر على رقاب الشعوب الاسلامية، حتى سقط شهيدا، تقبله الله عنده في الشهداء، وجعل دمه لعنة على كل حاكم مستبد عميل.
اما “عبلة حماش” فتأخذنا، الى بُعد اخر، تزيد به احزاننا، فتقول في مقالها “حنان صديقتي الصغيرة”، الذي نُشرته في “الشرق الاوسط” بلندن: مضى شهر ونصف على مصرعه.. والصغيرة حنان.. مازالت كما يخيل الي.. تنتظر عودته يوميا.. فمحمد.. والدها.. ورفيقها كل يوم جمعة.. كانت تقف الى جانبه بين جموع المصلين في المسجد.. فمن عادتها ان تبقى معه اثناء الصلاة.. لا ان تكون مع امها في قسم النساء.. اللهم الا في ذلك اليوم.. وكأن الله اراد ان يحميها ويحفظها من اي سوء.. وان يقي عينيها البريئتين المتطلعتين الى الحياة، من رؤية ابيها يقتل امامها غيلة وغدرا.. وهو لم يؤذ في حياته احد.
لم تدرك الصغيرة يومها ما حصل.. ولكنها دون شك.. شعرت بالجو الغريب الذي يحيط بها.. هذه امها تجهش بالبكاء.. فلماذا تأخر بابا في العمل.. ولم يات بعد ليهديء من روعها.. لابد من الاتصال به في الاذاعة واخباره.. غريب ألا تجده في البيت صباحا حين تستيقظ .. وان تجد امها فقط مريضة من البكاء.
ويقول بكرعويضة، في مقال نشره في مجلة الوطن العربي، تحت عنوان “أيها المثقفون العرب.. احملوا المسدسات”:
ان هناك سببا واحدا يقف وراء الاغتيال.. لقد كان محمد مثقفا.. واذاعيا ناجحا.. وكان كاتبا يعرف كيف يوظف قلمه وكلماته للدفاع عما يؤمن به.. الجريمة استهدفت محمد كرمز.. فقد كان شاب عربي يتعاطى التفكير.
ويواصل، بكرعويضة، قائلاً..
كان محمد مصطفى رمضان يرى انه لا صلاح للشعوب الاسلامية ولا انتصار لقضاياها، الا بعودتها الى دينها بكل ما يفرضه عليها من حدود، وواجبات، والتزامات، وكان يؤمن بان هذا الدين ليس مجرد طقوس وشعائر، بل هو منهاج كامل للتعامل مع الحياة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا.
اما ابو ياسر من مجلة ” النور” بالمغرب، فيقول في مقال بعنوان” هنيئا لك لقاء الله.. “:
هنيئا لك الشهادة في سبيل الله يا أخي محمد، فقد فزت بها ورب الكعبة، جزاء ما قدمته في ميدان الكلمة، من اعمال فكرية، إيمانية تُشرف الاسلام والمسلم، فقد فضحت الفكر اليهودي.. والفكر القومي.. والمتسترين وراء الواجهات المصطنعة الموسومة بالتقدمية الاصلاحية.. والانقلابية الثائرة.. والجماهيرية المبشرة.. قمت بهذا يوم كان الطغاة في قمة نشوتهم.. والظلمة في اوج عزهم.. هنيئا لك الشهادة يا اخي، لانك قتلت في يوم عظيم عند الله هو خير يوم طلعت فيه الشمس.. وسحقا للطغاة الجبناء الذين ترعبهم صيحات الايمان الملتزمة المتزنة.. ويرهبهم صرير الاقلام المجاهدة التي تأبى الركوع والاستجداء.. وترفض الانحناء والاحتواء.. وتأنف من احراق بخور التبعية والتملق.. آخذة على نفسها ألا تكتب كلمة تكون حجة عليها يوم يقوم الناس لرب العباد.
تلك كانت باقة من اراء واقوال ونظرات الصحفيين والكتاب الليبيين وغير الليبيين،عن الشهيد، ولعل الوقت قد حان للاستماع الى وصايا الشهيد، بعد ان رفض الطغاة الاستماع اليها، فالشهيد يوصي الليبيين والعرب والمسلمين.. جيلنا.. والاجيال القادمة.. يوصينا.. قائلاً:
إن إصلاح الامر كله يكمن في اشاعة الحرية بين الناس، حتى يعودوا كما خلقهم الله بشرا مكرمين “.. ولقد كرمنا بني ادم.. الاسراء/75″، ثم في التمكين للاسلام، كما جاء به رسول البشرية الاكبر محمد صلى الله عليه وسلم. اننا في حاجة الى مجتمع، تسوده الحرية، وتحكمه الشورى، ويأمن فيه الناس على انفسهم واموالهم، وتتوفر فيه عوامل الاطعام من الجوع والامن من الخوف (الرسالة الثانية).
وتحت عنوان “شهيد الجمعة”، يقول محمد الادريسي، في مجلة ” النور” بالمغرب:
لقد كان، غفر الله له، الاخ الكبير، والصديق الحميم، والمسلم الطيب، والمؤمن الصادق والمجاهد الصامد بلسانه وقلمه، لم يرضخ لعقود، ولم يرضخ لعروض ولم يخش تهديدات، ان الاسلام كان رؤيته ودعوته، وكم كان يعتز بانتسابه لامة القرآن، وكم كان يرى تميز هذه الامة واضحا.
ويتسأل محمد صلاح الدين، في مقال نشرته صحيفة “المدينة” بجدة، بعنوان”هل يمكن تصديق هؤلاء”، يتسأل قائلا:
كيف نصدق هؤلاء القتلة، وهم يتحدثون عن مقاومة الاستعمار، وعن كرامة الانسان، ويتشدقون بتحرير فلسطين، ويزعمون انهم قد حلوا قضايا المصير، وهم يغتالون افضل رجال هذه الامة.
ويقول ابوفلسطين، في مقال نُشر في مجلة “البلاغ” بالكويت، بعنوان “لقد انتصرت على قاتليك”:
كانت شهادته انتصارا لكلماته.. لقد سقطت.. يا محمد.. في ميدان الكلمة والدعوة.. فارعبت كلماتك الصادقة قاتليك.. عرفناك كاتبا حرا واعيا.. ومفكرا اسلاميا نقيا مخلصا.. حاول اعداؤك شراءك او تشويه صورتك.. وسلطوا كلابهم النابحة عليك.. ولكنك لم تتراجع عن الحق.. الذي ذقت صدقه وحلاوته.. ولم تجبن عن كشف انحراف المنحرفين.. وتبعية الساقطين.. ان كتابك “الشعوبية الجديدة” سيظل صفعة على وجه كل طاغية دجال مزور. وجاء في مجلة “الامان” من بيروت25، في مقال بعنوان “مصرع رجل الكلمة”: ان الكلمة عند محمد مصطفى رمضان كالقنبلة، ان لم يفجرها عبر قلمه، انفجرت في صدره.
وتقول مجلة “الدعوة”26 التي تصدر من القاهرة:
ان محمد مصطفى رمضان، واحد من المع الاعلاميين الاسلاميين على مستوى العالم، استمر يجاهد بقلمه وصوته ضد القوى المعادية للاسلام، صليبية ويهودية وشيوعية، وضد عملائهم من الاقزام الذين يتسلطون بالقهر على رقاب الشعوب الاسلامية، حتى سقط شهيدا، تقبله الله عنده في الشهداء، وجعل دمه لعنة على كل حاكم مستبد عميل.
اما “عبلة حماش” فتأخذنا، الى بُعد اخر، تزيد به احزاننا، فتقول في مقالها “حنان صديقتي الصغيرة”27، الذي نُشرته في “الشرق الاوسط” بلندن: مضى شهر ونصف على مصرعه.. والصغيرة حنان.. مازالت كما يخيل الي.. تنتظر عودته يوميا.. فمحمد.. والدها.. ورفيقها كل يوم جمعة.. كانت تقف الى جانبه بين جموع المصلين في المسجد.. فمن عادتها ان تبقى معه اثناء الصلاة.. لا ان تكون مع امها في قسم النساء.. اللهم الا في ذلك اليوم.. وكأن الله اراد ان يحميها ويحفظها من اي سوء.. وان يقي عينيها البريئتين المتطلعتين الى الحياة، من رؤية ابيها يقتل امامها غيلة وغدرا.. وهو لم يؤذ في حياته احد.
لم تدرك الصغيرة يومها ما حصل.. ولكنها دون شك.. شعرت بالجو الغريب الذي يحيط بها.. هذه امها تجهش بالبكاء.. فلماذا تأخر بابا في العمل.. ولم يات بعد ليهديء من روعها.. لابد من الاتصال به في الاذاعة واخباره.. غريب ألا تجده في البيت صباحا حين تستيقظ .. وان تجد امها فقط مريضة من البكاء.
ويقول بكرعويضة، في مقال نشره في مجلة الوطن العربي، تحت عنوان “أيها المثقفون العرب.. احملوا المسدسات”:
ان هناك سببا واحدا يقف وراء الاغتيال.. لقد كان محمد مثقفا.. واذاعيا ناجحا.. وكان كاتبا يعرف كيف يوظف قلمه وكلماته للدفاع عما يؤمن به.. الجريمة استهدفت محمد كرمز.. فقد كان شاب عربي يتعاطى التفكير.
ويواصل، بكرعويضة، قائلاً..
كان محمد مصطفى رمضان يرى انه لا صلاح للشعوب الاسلامية ولا انتصار لقضاياها، الا بعودتها الى دينها بكل ما يفرضه عليها من حدود، وواجبات، والتزامات، وكان يؤمن بان هذا الدين ليس مجرد طقوس وشعائر، بل هو منهاج كامل للتعامل مع الحياة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا.
اما ابو ياسر من مجلة ” النور” بالمغرب، فيقول في مقال بعنوان” هنيئا لك لقاء الله.. “:
هنيئا لك الشهادة في سبيل الله يا أخي محمد، فقد فزت بها ورب الكعبة، جزاء ما قدمته في ميدان الكلمة، من اعمال فكرية، إيمانية تُشرف الاسلام والمسلم، فقد فضحت الفكر اليهودي.. والفكر القومي.. والمتسترين وراء الواجهات المصطنعة الموسومة بالتقدمية الاصلاحية.. والانقلابية الثائرة.. والجماهيرية المبشرة.. قمت بهذا يوم كان الطغاة في قمة نشوتهم.. والظلمة في اوج عزهم.. هنيئا لك الشهادة يا اخي، لانك قتلت في يوم عظيم عند الله هو خير يوم طلعت فيه الشمس.. وسحقا للطغاة الجبناء الذين ترعبهم صيحات الايمان الملتزمة المتزنة.. ويرهبهم صرير الاقلام المجاهدة التي تأبى الركوع والاستجداء.. وترفض الانحناء والاحتواء.. وتأنف من احراق بخور التبعية والتملق.. آخذة على نفسها ألا تكتب كلمة تكون حجة عليها يوم يقوم الناس لرب العباد.
تلك كانت باقة من اراء واقوال ونظرات الصحفيين والكتاب الليبيين وغير الليبيين،عن الشهيد، ولعل الوقت قد حان للاستماع الى وصايا الشهيد، بعد ان رفض الطغاة الاستماع اليها، فالشهيد يوصي الليبيين والعرب والمسلمين.. جيلنا.. والاجيال القادمة.. يوصينا.. قائلاً:
إن إصلاح الامر كله يكمن في اشاعة الحرية بين الناس، حتى يعودوا كما خلقهم الله بشرا مكرمين “.. ولقد كرمنا بني ادم.. الاسراء/75″، ثم في التمكين للاسلام، كما جاء به رسول البشرية الاكبر محمد صلى الله عليه وسلم. اننا في حاجة الى مجتمع، تسوده الحرية، وتحكمه الشورى، ويأمن فيه الناس على انفسهم واموالهم، وتتوفر فيه عوامل الاطعام من الجوع والامن من الخوف (الرسالة الثانية).
ويقول ايضا..
الاسلام هو بداية ونهاية.. هو عقيدة خاصة.. ونظام حياة خاص.. ونحن مطالبون بان نقيم حياتنا كلها على ركائز الايمان بالله وشريعته.. كما اننا مطالبون بالدعوة الى دين الله في المشارق والمغارب.. إن دور المسلم، ان يخرج الناس من الظلمات الى النور.. ليفيء الجميع الى حكم الله (الرسالة الثانية)
ويقول شهيد الكلمة.. والفكرة..
ارجو بالحاح أن تولوا كل اهتمامكم لصياغة مناهج التعليم صياغة اسلامية، فعدونا لم يتمكن منا الا حين استعبدنا فكرا وثقافة، وازاح الاسلام من عقولنا كعقيدة ومنهج حياة، وأبقاه فى مجتمعاتنا صورا باهتة من طقوس واعياد، فصياغة مناهج التعليم هي الركيزة الاساسية، بل هي الركيزة الاولى التى لن يقوم المجتمع الاسلامي الذى ننشده جميعا إلا بها ( الرسالة الاولى).
كانت تلك الكلمات.. بعض روائع الشهيد.. وبعض وصاياه.. وامانيه.. وطموحاته.. وما اظنه قُتل إلا بسببها.
و قبل ان اختم هذا العرض، احب ان اعود الى الفترة التي سبقت الجريمة، واقول: هل كانت المجموعة التي تتصل بالاستاذ محمد مصطفى رمضان لاقناعه بالعودة الى ليبيا (موسى كوسا، وسيد قذاف الدم، واحمد المقصبي، والمسماري، وغيرهم) وهم اصحاب مناصب ومهام وواجبات حساسة، في النظام الليبي.. في ذلك الوقت.. وبعضهم حتى يومنا هذا.. هل كانت هذه المجموعة.. على علم.. بان الشهيد كان على قائمة الاغتيال!؟
اظن ان رائحة الغدر والخيانة كانتا تملأن المكان والزمان.. فقد كانوا يتحدثون مع الشهيد عن العودة الى ليبيا.. وتوقيت تلك العودة “الفخ”.. وطبيعة المهام والواجبات والوظائف وعن سعة “الجنة” التي تنتظر الشهيد في ليبيا.. كانوا يتحدثون مع الشهيد في مثل هذه الامور.. وكانوا يعلمون.. في نفس الوقت.. ان هناك مجرمان ينتظران الاوامر.. منهم.. ومن سيدهم.. ليجهزا على رجل.. لم يفارق المسجد.. ولم تفارق الابتسامة محياه.. ولم تفارق الكلمات الطيبة لسانه.
لقد صرح موسى كوسا، الذي كان يجلس، قبل الجريمة بيومين، مع الاستاذ محمد مصطفى رمضان، صرح بعد شهرين تقريبا من الجريمة (في 10 يونيو 1980م) لجريدة الصنداي تايمز اللندنية قائلاً: ان اللجان الثورية هي التي قامت بعمليات الاغتيال، وانه هو شخصيا موافق على ذلك.
ليس ذلك فحسب.. بل اُعيدت جثة الشهيد الى لندن.. بعد ان اُخرجت من القبر الذي دُفنت فيه في ليبيا.. ولا ندري.. حتى يومنا هذا.. ما هي الجريمة التي اقترفها المواطن الليبي المسالم محمد مصطفى رمضان.. واستحق من اجلها.. ان تتأمرعليه دولة كاملة.. بسفرائها وممثليها واعوانها وقائدها ومخابراتها.. ثم استحق.. فوق ذلك.. ان يحرم من الجنازة في بلده.. وألا تُدفن جثته في التراب الذي عاش وتكلم وكتب وعمل من اجل تحريره . ما هي الجريمة التي اقترفها هذا الرجل.. واي ارهاب بعد هذا!.. مواطن.. مفخرة لليبيا والاسلام والليبيين.. مسالم.. صالح.. دمث الاخلاق.. يهتم بامر بلاده.. وامته.. وفلذة كبده.. واسلامه.. واسرته.. يُقتل.. هذا المواطن.. بمثل هذه القتلة.. ويُحرم من الدفن في ارض ابائه واجداده.. فلا تركوه حيا.. ولا تركوه ميتا.
فما هي طبيعة هؤلاء الجبناء، الذين خططوا لهذه الجريمة البشعة.. ونفذوها.. من اية طينة هم.. واية دوافع تدفعهم.. واهواء.. ونوايا.. تتنازع نفوسهم الخبيثة . ثم هل هم.. السيد منهم والمسود.. من المسلمين حقا.. ومن الليبيين حقاً.. إن مثل هذا العبث بالارواح.. لا يقوم به إلا أعداء ليبيا والاسلام والليبيين.
ثم.. كيف يقومون بمثل هذا العمل.. بدلا من ان ينهمكوا في بناء الدولة ومؤسساتها التعليمية والصحية والثقافية.. وبدلا من ان يوجهوا رصاصهم الى اعداء هذه الامة.. وهم يتشدقون ليلا ونهارا بتحطيم الصهيونية والاستعمار والامبريالية والارهاب.. ويتشدقون بقيادة العرب والمسلمين والافارقة.. وبتحرير الليبيين من العبودية.. وبغير ذلك.. من ثرثرة الجبناء.
اما نحن فلا نقول الا ما يرضي الله..
إنا لله وإنا اليه راجعون.. ثم.. نسأله سبحانه وتعالى.. أن يُلهم اهل الشهيد.. وأن يلهم ليبيا والعالم العربي والاسلامي.. الصبر والسلوان.. في فقيد الامة.. الشهيد محمد مصطفى رمضان.. وان يسكنه فسيح جناته.. مع الصديقين والشهداء.. انه سميع مجيب الدعوات. وسندفن رفاتك.. يا محمد.. باذن الله تعالى في ليبيا.. وستحمل ان شاء الله.. اكبر الميادين في بلادنا.. إسمك.. كغيرك من الرموز.. فقد اديت.. وابدعت.. ووفيت.. واصبحت “رمزا” اسلاميا الى ان يرث الله الارض وما عليها.
وان كان كبرعلى الطغاة ان يردوا عليك التحية.. بمثلها او احسن منها.. فردوا عليها.. بدلا من ذلك.. بالغدر والجبن والخيانة.. فالملايين.. في الوطن.. والملايين من مستمعيك في العالم العربي.. والملايين من المسلمين.. يقولون لك.. كل يوم.. تشرق فيه الشمس.. سلام من الله عليك يا محمد مصطفى رمضان ورحمة منه وبركات.. سلام من الله عليك ورحمة منه وبركات.. سلام من الله عليك.. ورحمة منه وبركات.
_______________