عبد السلام جلود: أتقن القذافي استخدام قبيلة ضد أخرى ومارس هذا مع أبنائه
قدّمت استقالتي من منصبي عام 1981، وذلك رفضًا للممارسات القمعية التي كانت تقوم بها اللجان الثورية. عارضت بشدة الممارسات السلطوية والقمعية، كما عارضت بقوة مطاردة الليبيين في الخارج، وطالبت بوقفها فورًا، وقلت: “هذا إنهاء للثورة. وعندما تنتهي الثورة أخلاقيًا فسوف تنتهي سياسيًا؛ إذْ لا يمكن لثورة أن تطارد أبناءها وتصفيهم في شوارع أوروبا”. كان موقفي هذا صارمًا، حتى إنني قررت الاستقالة من قيادة الثورة، والبقاء في منزلي، ما لم يوقف هذا العمل المشين. ثم قلت للأخ معمّر: “هذا ليس عملًا ثوريًا، بل هو إجرام يقوم به جنود مكلفون منك ومن جماعتك، ليبرهنوا لك أنهم قادرون على تنفيذ ما تطلبه منهم، حتى تكون لهم حظوة عندك”.
بعد ستة أشهر، اتصل بي الأخ معمّر في منزلي، وطلب مني إجراء حوار، فوافقت. وحدث، حين كنت في طريقي لمقابلته في مقر اللجان الثورية، أن استوقفني شخص أسمر البشرة اسمه إمحمد الحضيري، وكان رئيسًا لتحرير صحيفة الزحف الأخضر. بدا لي متورّم الوجه والعينين وأثر اللكمات والضرب واضحة على وجهه. قال لي وهو يبكي: “منذ يومين اتصل بي أحمد رمضان وقال لي إن القائد يطلب منك أن تكتب مقالًا ضد الضابط عبد السلام الزادمة وإخوته، وأعطاني عناصر المقال التي وضعها الأخ معمّر، وفيه وصف لهم بأنهم “فاسدون ومرتشون”. وحينما صدر عدد الجريدة وهو يحمل المقال، هاجمني عبد السلام الزادمة وإخوته في مقر الصحيفة، وانهالوا عليّ بالضرب المبرح، وكانوا ملثمين، ولم أكن أعرفهم أو قد التقيت بهم من قبل”. وعلى الفور طلبت إحضار الضابط عبد السلام الزادمة. كان موسى كوسا (الأمين المساعد لأمانة الخارجية في ما بعد) قربي، وهو يقول لي: “أخ جلود، القائد ينتظرك”، فقلت له: “لا يمكنني مواصلة طريقي للقاء به حتى يتمّ إحضار هذا الضابط”. حينما حضر سألته: “هل أنت وإخوتك قمتم بضرب إمحمد الحضيري؟”، فقال لي: “نعم سيدي”، وعلى الفور صفعته على وجهه عدة مرات وأرسلته إلى السجن. ثم ذهبت للقاء الأخ معمّر، وما إن دخلت عليه حتى قال لي متهكمًا: “إذا بقيت في بيتك واستقلت، منْ سيكون معك؟ إلا علي فضيل (وهو يقصد مدير مكتبي) حتى قبيلتك معي”، فقلت له: “أنا لا أملك سوى ثوريتي وصدقيتي، وليس لي قبيلة. قبيلتي هي الثورة والعروبة والأمة، لكن
يا أخ معمّر، خوفي أن يأتي يوم ولا يكون فيه أحد معك إلا أحمد إبراهيم”.
خلال هذا اللقاء، بقيت مصرًّا على موقفي بضرورة وقف “مطاردة الليبيين في الخارج” وتصفيتهم، فوافق وطلب مني أن نذهب معًا إلى خيمته في باب العزيزية. وهناك وجدت المجموعة التي كانت مكلفة بمطاردة الليبيين في الخارج، وأتذكّر من بينهم محمد المجذوب وسعيد راشد. فقال لهم الأخ معمّر: “يجب أن تتوقف على الفور أي عمليات مطاردة لليبيين في الخارج”. شعرت بسعادة بالغة بهذا القرار، فقلت للأخ معمّر: “أنا منذ الغد سأعود للعمل. يجب أن توجه إلى المعارضين نداء بالعودة إلى ليبيا، وتعطيهم الضمانات بأن لا يتعرضوا لأي مساءلة، والعفو عمّن هو محكوم، أما الذين لا يرغبون في العودة ولهم أعمال ووظائف في الخارج، فعلينا أن نبلغهم بأن المكاتب الشعبية في خدمتهم، وأنهم سوف يحصلون على الرعاية وأي تسهيلات أو خدمات يحتاجون إليها، ثم تصرف لهم جوازات سفر بحيث يتمّ تجديدها تلقائيًا”.
بدأ التحوّل من “الصدق الثوري” والوضوح في الخطاب إلى “الدجل والنفاق”، والتحوّل من “الثورة” إلى “حكم الفرد والقبيلة وحكم الأجهزة”
منذ نهاية السبعينيات حتى نهاية الثمانينيات (1979-1989)، بدأت الحقيقة في ليبيا تتراجع لصالح التزييف، وبدأ التحوّل من “الصدق الثوري” والوضوح في الخطاب إلى “الدجل والنفاق”، والتحوّل من “الثورة” إلى “حكم الفرد والقبيلة وحكم الأجهزة”. كان عمر المحيشي، عضو مجلس قيادة الثورة، مثقفًا ثوريًا، وكانت لديه ميول يسارية، وكان غير راضٍ عن هيمنة معمّر ومحاولة انفراده بالسلطة؛ ولذلك حاول القيام بانقلاب عام 1975 لإطاحة القذافي. كنت أعرف المحيشي منذ أن كنّا في التنظيم المدني، وأعرف طباعه الشخصية. كان من أسرة غنية ومثقفًا، لكنه كان يتصف بالتعالي وافتقاد القدرة على التواصل مع الآخرين. حينما بدأ بالتخطيط لمحاولة الانقلاب، تمكن من إقناع عضوين في مجلس قيادة الثورة، أحدهما عوض حمزة، وبعض ضباط الحرس الجمهوري وخاصة ضباط مصراتة، بالمشاركة في الخطة. كان معمّر محبًّا لمصراتة وأهلها منذ دراسته في مدرستها الثانوية، لأن الكثير منهم كان يعطف عليه ويساعده، حتى إنهم ساعدوه في الحصول على موافقة للدراسة في ثانوية مصراتة، وأن يقيم في القسم الداخلي، وفي ذلك الوقت كانت فرص السكن في القسم الداخلي صعبة. كان عمر المحيشي رافضًا لممارسات معمّر السلطوية وهيمنته وطغيانه وانحرافه عن مبادئ الثورة. لكن هذه المحاولة سرعان ما كُشفت قبل أن تبدأ، حين تمكنت عناصر القذافي من معرفتها والإبلاغ عنها. كانت محاولة الانقلاب من أخطر المؤامرات التي تعرضت لها الثورة، لأنها من قلب قيادة الثورة، ولمشاركة ضباط من الحرس الجمهوري فيها. فهذه القوة كانت مهمتها في الأصل حماية الثورة وحماية معمّر شخصيًا. كان معمّر، حتى لحظة تنفيذ هذه المؤامرة، ثوريًا يثق بالضباط الأحرار والضباط الذين التحقوا بالقوات المسلحة بعد الثورة. كان ضباط الحرس الجمهوري وقوات الردع من مختلف المدن الليبية، وليس بينهم أي ضابط من قبيلته القذاذفة، وأذكر أن من بين المشاركين في محاولة الانقلاب ضابطًا شجاعًا من أهالي مصراتة يدعى أبو ليفة، وآخر يدعى محمد عبد الوهاب.
قُتل أبو ليفة في أثناء مطاردته بعد فشل محاولة الانقلاب، وهو يتجه نحو الحدود التونسية. قبل فرار المحيشي إلى تونس، جاء إلى مقر قيادة الثورة في باب العزيزية، وكان متوترًا، وأنا لا أعرف إذا ما كان سبب مجيئه قصد اغتيال بعض أعضاء القيادة وعلى رأسهم معمّر، أم أنه جاء للتأكد من أنّ الأمور كلها هادئة وطبيعية في القيادة، بما يسمح له بالفرار نحو الحدود التونسية، وأنا أرجح الفرضية الأخيرة. حينما وصل إلى مبنى القيادة، كنت في هذا الوقت في حي قرجي ألقي محاضرة عن الثورة في شقة شعبية تابعة لفرع الاتحاد الاشتراكي في الحيّ. صحيح أن هذه المحاولة الانقلابية فشلت، لكنها أسست لانقلاب معمّر على الثورة؛ ولذا قاد معمّر انقلابًا “ناعمًا” وماكرًا، ومخادعًا وشيطانيًا، استغرق تنفيذه حوالى تسع سنوات، عاد في نهايته ليصبح “شيخ قبيلة” بامتياز، وحاكمًا وطاغية مطلق الصلاحيات؛ فقد شن حملة شعواء على قيادة الثورة، وشكّك فيها وفي قدراتها، قصد ضرب صدقيتها في أعين الجماهير، كما عمل على “تفسيخ” حركة الضباط الأحرار، وكان يقول لي: “يا عبد السلام، الضباط الأحرار لا يفيدوننا الآن. إنهم سيتعاملون معنا على أساس أنهم شركاء في الثورة. نحن في حاجة إلى ضباط وناس جدد، يكون لنا عليهم جميل”. فقلت له: “لا يمكن أن أوافق على هذا التفكير، الضباط الأحرار إخوة وشركاء لنا، ولا يجب أن يشعروا أننا تخلينا عنهم وأبعدناهم وتخلصنا منهم بعد نجاح الثورة ووصولنا إلى السلطة. يجب أن نبحث عن شركاء وأصحاب رأي جدد؛ لأن هؤلاء سيكونون معنا في السراء والضرّاء، أما الأتباع والانتهازيون فسوف يتوارون عن الأنظار ويتبخرون”. لكنه، مثل أي طاغية، أخذ يبحث عن الانتهازيين وأنصاف الرجال.
في هذا الوقت، أمر إدارات التعليم بتزوير الشهادات الدراسية لأقاربه من أجل تمكينهم من دخول الكليات والمدارس العسكرية، وأقام تحالفًا قبليًا بين قبيلته وقبيلة ورفلة، وشرع في تفريغ الحرس الجمهوري وقوات الردع من الضباط الأحرار والضباط الوطنيين، وإحلال أقاربه محلهم. وعيّن أقاربه والأتباع والانتهازيين في مراكز حساسة في أجهزة الأمن والمخابرات. في نهاية عام 1985 وبداية العام التالي، أعلن عن نفسه “شيخ قبيلة”، حين بدأ يحكم ليبيا بهذه العقلية، متعطشًا وجائعًا ونهمًا للمال والسلطة؛ فبعد أن كان يعيش في دارة بسيطة ملاصقة لباب العزيزية – كانت سكنًا لرئيس الأركان في العهد الملكي – ويحاسب نفسه، ويحاسب أعضاء القيادة، على “النفقات الشخصية والعائلية”، أصبح يبني القصور والفيلات الفخمة؛ بدءًا من باب العزيزية، وفي أهم المدن، بل حتى في بعض الوديان، وصار ينفق الأموال بلا حساب على نفسه وعلى أولاده، وانتهى به الأمر أن يعلن عن نفسه “ملك ملوك أفريقيا”، يضع التاج على رأسه والقلائد في رقبته والخواتم في أصابع يديه. كان منظره محزنًا ومبكيًا وفي الآن نفسه مضحكًا. وأنا اليوم أعترف أنه استطاع خداعي، فقد ظننت أن إجراءاته تلك كانت بغرض تأمين الثورة إثر هذه المؤامرة الخطيرة.
أمر القذافي إدارات التعليم بتزوير الشهادات الدراسية لأقاربه من أجل تمكينهم من دخول الكليات والمدارس العسكرية
منذ مطلع عام 1974، بدأ الأخ معمّر رحلة “الدجل” والظهور في مظهر الزاهد في السلطة، حين شرع في “مسلسل استقالات زائفة”، واحدة تلو الأخرى. وكان مع كل استقالة يطلب من الانتهازيين من حوله، وأجهزة القمع، أن يفرضوا على الجماهير الخروج لمطالبته بالعدول عن استقالته. لقد كانت تسيطر عليه فكرة مفادها أنه كلما أوغل في قمع الجماهير، وعندما تخرج هذه الجماهير إلى الشارع احتجاجًا على تصرفاته، فإنه سيقول لها: “أنا كنت غير راغب في السلطة ورافضًا لها وأنتم أجبرتموني على العودة. إقبلوني كما أنا”.
كانت هناك مجموعة من المنافقين والأتباع وموظفي الأجهزة، تقود هذا التلاعب بالجماهير، وكان الغرض من إعلان الاستقالة الزائفة في كل مرة هو أن يقول الأخ معمّر للشعب الليبي: “إمّا أنا، وإمّا أعضاء مجلس قيادة الثورة”.
أذكر في إحدى استقالاته أنه كان قد سلّم الاستقالة إلى أبو زيد دوردة، وطلب منه أن يسلمها بنفسه إلى الإذاعة، فاجتمعت غالبية أعضاء مجلس قيادة الثورة وقبلت الاستقالة. اتصل بي الأخ معمّر وقال لي: “لقد ظهرتم على حقيقتكم بأنكم تتآمرون عليّ”، ثم أوعز إلى المحيطين به بسحب الاستقالة قبل أن تصل إلى الإذاعة.
لقد بدأ انحراف الثورة منذ لحظة “عسكرتها”. في هذا الوقت، كانت الأوضاع المعيشية للشعب الليبي تزداد سوءًا، والناس يشعرون بالحسرة على أيام الرخاء والرفاهية التي شهدتها ليبيا من 1970 حتى بداية عام 1983. وفي هذا الوقت أيضًا، كانت حقبة حكم الرئيس الأميركي ريغن من أصعب الحقب والفترات التي مرّت بها ليبيا وثورة الفاتح، حيث اشتدّت المواجهة مع الولايات المتحدة، وكانت الحرب في تشاد تشتد ضراوة، بينما كانت المواجهة في الشمال مع القوات الأميركية – بسبب القانون الذي أصدرناه والذي تمّ بموجبه اعتبار خليج سرت جزءًا من اليابسة – فقد أصبحت أكثر فأكثر مواجهةً عسكرية، واتخذت واشنطن من هذا القانون ذريعة لتصعيد مواجهتها السياسية والدعائية والعسكرية والاقتصادية.
كان القذافي مع كل استقالة يطلب من الانتهازيين من حوله، وأجهزة القمع، أن يفرضوا على الجماهير الخروج لمطالبته بالعدول عن استقالته
ابتداءً من عام 1983، تدهورت أسعار النفط حتى وصلت إلى 7 دولارات، بينما كانت تكلفة إنتاج البرميل الواحد 3 دولارات، فأصبح الأمر أكثر صعوبة، حتى إننا واجهنا أزمة اقتصادية كبيرة؛ لأن عائدات النفط تدهورت على نحوٍ حادّ، فعجزنا عن استيراد المواد الضرورية وقطع الغيار والقيام بأعمال الصيانة. وبدأت احتياطاتنا تنضب، ولم نكن بطبيعة الحال مستعدين لهذا الأمر. كان قرار خفض أسعار النفط قرارًا سياسيًا اتخذته الولايات المتحدة مع دول الخليج وخاصة السعودية، لإسقاط الأنظمة الثورية في ليبيا والجزائر وإيران وفنزويلا، وقد نُشرت في هذا النطاق تقارير عن المؤسسات المالية العالمية تتساءل فيها باستغراب “كيف استطاعت هذه الدول مواجهة الأزمات والخروج منها؟”. وتؤكد هذه التقارير، صراحةً، أن الهدف من تخفيض الأسعار، بل انهيارها، كان هدفًا سياسيًا تآمريًا؛ وحمدًا لله، فقد تمكنا في ليبيا من مواجهة هذه الأوضاع باتخاذ إجراءات صارمة وقاسية، مكنتنا من التغلب عليها. بيد أن اقتصادنا وبنيتنا التحتية تعرضا لضربات مؤلمة وموجعة، ومع ذلك أشادت المؤسسات المالية الدولية بهذه التدابير، ودعت بقية البلدان إلى أن تحذو حذو ليبيا، وأنا أعترف بأن الإجراءات والتدابير التي اتخذناها كانت قاسية، مع أنها كانت ضرورية، أدّت إلى ضرر بالغ في مستوى معيشة الشعب، وتسبّبت في تصاعد مشاعر التذمر، وذلك مع تزايد أعمال القمع التي كانت اللجان الثورية تمارسها، فضلًا عن تفشي حالات التسيّب وضعف الإدارة وعدم الالتزام بالقوانين. وكل ذلك كشف عن بداية انهيار الإدارة والهياكل العامة، وبدء “مرحلة التجربة والخطأ” التي آمن بها الأخ معمّر، وكنت أعارضها بشدّة، فضلًا عن تصاعد المواجهات العسكرية في الجنوب، والمواجهات السياسية والاقتصادية والعسكرية في الشمال. وأدّى كل ذلك، منذ نهاية عام 1981، إلى “ظهور عبادة الفرد” التي تمّ الترويج لها على نحوٍ صارخ وسافر ومن دون أي لبس؛ فقد بدأت مرحلة “حكم الفرد والقبيلة” والاعتماد على الأقارب والأتباع من الانتهازيين والمنافقين والدجالين، وتمّ التنكر للقيادة الثورية ولسلطة الشعب.
تبدت “سلطة الشعب” كما لو أنها كانت عملًا تكتيكيًا للتخلص من قيادة الثورة ولإخفاء مشروع حكم الفرد والقبيلة وحكم الأجهزة القمعية، ولسحب البساط من تحت أي إمكانية لظهور معارضة، ومن يعارض معمّر سيقال له أنت تعارض “سلطة الشعب”؛ أي إنّ التهمة جاهزة! لقد شكلت سلطة الشعب حاجزًا نفسيًا في وجه أي معارضة جادة وصادقة، وكل هذا أدّى إلى ابتعاد الجماهير الشعبية عن الثورة. ثم بدأت مظاهر التململ والتذمر، بل حتى مشاعر السخط على الثورة. ومن هنا بدأت رحلة القطيعة شبه الكاملة بين الثورة وجماهيرها، وأخذت الثورة تخسر صدقيتها وشرعيتها وتفقد بريقها. لقد سحبت الجماهير فعليًا ثقتها بالثورة، بعد أن منحتها كاملةً يوم الفاتح من أيلول/سبتمبر.
كانت الإدارة الأميركية منذ الثمانينيات ترصد وضع احتياطياتنا من العملات الصعبة، ولاحظت أنها وصلت إلى أدنى مستوى لها. حاولت واشنطن ممارسة مزيد من الضغوط علينا، فبدأت بالضغط على أوروبا الغربية لمقاطعة النفط الليبي؛ نظرًا إلى وجود فائض نفطي في الأسواق العالمية. ونظرًا إلى التوترات في الخليج، وصعود الثورة الإسلامية في إيران، ثم الحرب مع العراق، باءت كل هذه المحاولات بالفشل. لكن واشنطن واصلت ضغوطها على إيطاليا، وخصوصًا على شركة “فيات”، للتخلص من مساهمة ليبيا.
كانت مساهمة ليبيا 14.5 في المئة، وكنت قد اتخذت قرارً ثوريًا أواخر عام 1972 بشراء نحو 9 في المئة من أسهم الشركة بقيمة 138 مليون دينار، فبدأت الشائعات الرامية إلى التشكيك في أهمية هذه الصفقة. خلال فترة ولاية ريغن الثانية، كنت أستمع إلى خبر من إذاعة بي بي سي يقول إن إدارة ريغن طلبت من إيطاليا وشركة “فيات” التخلص من مساهمة ليبيا. ويقول الخبر إنّ الخبراء الاقتصاديين يقدرون قيمة مساهمة ليبيا من مليارين إلى مليارين ونصف مليار دولار؛ فقررت على الفور بيع حصتنا في الشركة، واتصلت بالأخ معمّر وأبلغته بالقرار وقلت له إنني سأطلب 3 مليارات دولار، فقال لي: “لا يمكن تحقيق هذا الرقم. أنت تحلم”.
وعلى الفور، شكلت فريقًا من المختصين، منهم رجب المسلاتي ومحمد عبد الجواد ومحمد سيالة وعبد الله السعودي. وطلبت من المسلاتي، الذي كان مديرًا للمصرف العربي الخارجي، أن يتصل بعبد الله السعودي، وكان في زيارة للبحرين، أن يعود على وجه السرعة إلى طرابلس. وبالفعل، حضر السعودي، واجتمعت بأعضاء الفريق كله، وأبلغتهم بالقرار، ثم سألتهم: “لقد سمعت بالخبر والسعر الذي يقدره الخبراء من إذاعة لندن، لكنني قررت أن يكون السعر
3 مليارات؟”، فقالوا جميعًا: “السعر لن يتجاوز المليارين”، ومع ذلك أصررت على قراري، ثم طلبوا أن ينضمّ إليهم المحامي كامل المقهور بصفته مستشارًا قانونيًا، فوافقت وقلت لهم: “يجب أن نحصل على سعر 3 مليارات دولار صافيًا”. كانت المشكلة التي واجهتنا هي كيفية تحويل هذا المبلغ الضخم خارج إيطاليا وبالدولار؛ ذلك أن الإدارة الأميركية كانت قد اتخذت قرارًا بالحجز على أي مبالغ بالدولار تعود إلينا، وكانت مسألة تحويل المبلغ خارج إيطاليا تبدو صعبة جدًّا لا يحتملها إلا الاقتصاد الألماني أو الياباني.
سافر الوفد إلى إيطاليا وبدأ المفاوضات مع كبار مديري شركة “فيات”. وبالفعل، تحقق الرقم الذي طلبته وحدّدته. وقبل توقيع العقد بقليل، اتصل بي الوفد لطلب الموافقة على التوقيع النهائي. في هذ الوقت، كنت في منزلي بالمصيف الذي يقع بين السندباد وعين الزرقاء. فاستدعيت على الفور جاد الله عزوز الطلحي، وكان أمينًا للاتصال الخارجي، ومعه قاسم شرلالة أمين الخزانة، ومحمد الزروق رجب محافظ مصرف ليبيا، وفوزي الشكشوكي أمين النفط، وعرضت عليهم الأمر، وكان الفريق الذي يتولى المفاوضات معي على الخط الهاتفي، فرحب الأمناء بالاتفاق واعتبروا أنه إنجاز تاريخي. لكنني لاحظت أن جاد الله كان متحفظًا، ويرى أن في الأمر خدعة نظرًا إلى ضخامة حجم الصفقة. ومع ذلك أعطيت الفريق موافقتي لإتمام الصفقة وإبرام الاتفاق. وبالفعل، تمّ التوقيع على أساس أن يحوّل المبلغ بـ “المارك” الألماني لمصارف ألمانية. اتضح لي أن موقف الإدارة الأميركية ومحاولتها الضغط على الحكومة الإيطالية وشركة “فيات”، كان موقفًا غبيًّا، فقد تمكنّا من “عقد صفقة القرن”؛ إذ لم يسبق لأي دولة في العالم، خلال 150 سنة سابقة، أن حققت عائدًا بهذه الضخامة من استثمار خارجي، وتأكد لنا ذلك، حين تعالت الأصوات الناقدة في الولايات المتحدة التي اعتبرت أن الضغط الأميركي على الحكومة الإيطالية وشركة “فيات” كان خطأً كبيرًا. لقد مكننا قرار بيع حصتنا في “فيات” في هذا الوقت من تحقيق عدّة أهداف، واكتشفت الإدارة الأميركية بعد فوات الأوان الخطأ الذي ارتكبته، فقد تمكنّا من الحصول على عملة صعبة في أحلك الأوقات. كان هدف الاستثمار الليبي في “فيات” الحصول على عائد اقتصادي، والضغط الأميركي على إيطاليا للتخلص منه مكّن ليبيا، على غير توقّع من واشنطن، من تحقيق “العائد الاقتصادي” لليبيا حين حصلنا على احتياطيات جديدة من العملة الصعبة. وبفضل هذا النجاح، تمكنّا من إضافة 3 مليارات دولار لاحتياطاتنا من العملة الصعبة، وهذا ما عزّز قدرتنا على الصمود.
في عام 1986، طلبت من الأخ رجب المسلاتي ومحمد سيالة ومحمد عبد الجواد وكامل المقهور، رفع دعوى قضائية في المحاكم البريطانية ضد السلطات الأميركية وضد قراراتها وقوانينها التي تبيح لها تجميد أموال أي دولة في العالم خارج الولايات المتحدة. وقد ربحنا هذه القضية وحكمت المحكمة البريطانية بأن القوانين الأميركية لا يجوز أن تطبق ضد سيادة الدول، وهكذا أنهت ليبيا مرحلة طويلة من “قدرة” واشنطن على تجميد أموال أي دولة بالدولار، ومثّل هذا الحكم انتصارًا لكل دول العالم. في هذا الوقت كانت أسعار النفط تتهاوى.
اتخذت بنفسي قرار المساهمة في شركة “فيات”، حينما كنت رئيسًا للوزراء، على الرغم من أجواء الشائعات والتشكيك في جدوى هذا النوع من الاستثمار، وحرصت على أن تتم في سرية تامّة، وهذا ما أكدته وسائل الإعلام الغربية آنذاك. وبالفعل، تمّت عملية البيع.
في هذا الوقت، أي في عام 1986، كان الوضع الاقتصادي في ليبيا قد بلغ مرحلة من التدهور، ووصلت الحالة النفسية للمواطنين في عموم البلاد مستوى من التدني يفوق كل وصف، وتفاقمت الممارسات التي تنتهك حقوق الليبيين وكراماتهم، وشاعت عبادة الفرد. لقد غدت الجماهير في وضع نفسي سيئ مع تدهور مستوى المعيشة، وشيوع “النفاق” والتملق وبطش ما سُمي “حركة اللجان الثورية” وغيرها من الأجهزة القمعية. ونظرًا إلى أن الانضمام إلى هذه الحركة كان مفتوحًا أمام الجميع، فقد دخلها كل مَن هبّ ودبّ: الانتهازيون، والفاشلون، والقبليّون، والمنافقون، وأصبحوا هم كل أعضاء الحركة. ونظرًا إلى هذا الوضع أيضًا، أصبحت الحركة حركة تهريج. لقد انحرفت عن أهدافها وتحولت إلى ميليشيا مسلحة وقمعية، مارست التسلط على الجماهير الشعبية، ثم بدأت مرحة “القوانين الشخصانية”، وانهارت القوانين وحلت محلّها المزاجية والمحسوبية. لقد اكتشفت أن الأخ معمّر لا يريد حركة ثورية؛ وإنما “حركة تصفيق” يقوم كل نشاطها على تكريس عبادة الفرد وممارسة عملية تخويف للجماهير وتوجيهها لاإراديًا.
شاع “النفاق” والتملق وبطش ما سُمي “حركة اللجان الثورية” وغيرها من الأجهزة القمعية
كان شغله الشاغل أن تقبّل الجماهير جبهته وأنفه ويده، تمامًا كما هو الحال في المغرب والسعودية، أي إنه كان يرغب في رؤية “حركة” تتملق له وتمارس التزييف والخداع والتهريج. كانت استراتيجية الأخ معمّر هي “الأمن ثم الأمن”. وعلى سبيل المثال، حين تتقدم أعداد من الطلبة للدراسة في الكليات والمدارس العسكرية، كانت الأجهزة الأمنية تحيل إليه مباشرة قوائم بأسماء هؤلاء، ليتولى بنفسه مراجعة ملفاتهم، اسمًا، اسمًا، وكان يولي عناية خاصة لمعرفة الانتساب القبلي لهؤلاء، وكان يشطب بنفسه كل أسماء الذين يظن مجرد ظن أن ولاءهم غير مضمون. وأذكر أنه طلب من رئاسة الأركان ترشيح مجموعة من الضباط لنقلهم إلى جهاز الأمن الداخلي، ومن هؤلاء أخي جلود. لمّا علم أخي بقرار الأخ معمّر نقله من الجيش بصفته ضابط إلى جهاز الأمن الداخلي، شعر باستياء شديد فجاء لزيارتي. قال لي: “أريد لقاء الأخ معمّر. اتصلْ به ورتبْ لي موعدًا”، فاتصلت به.
حين التقى أخي جلود بالأخ معمّر قال له: “يا أخ القائد. نحن عائلة بيت جلود لم نشتغل في الأمن؛ لا في عهد الأتراك، ولا في عهد الطليان، ولا في العهد الملكي، ولن نشتغل فيه في عهدك أيضًا”، فردّ عليه الأخ معمّر: “وماذا تريد؟”، فقال أخي جلود: “أنا مواطن وأنت الحاكم، لا يمكن لي أن أقول ما أريد أنت تقرر”، فقال له الأخ معمّر: “ما رأيك في الإحالة للتقاعد؟” فردّ عليه: “موافق”.
لقد تحدّثت خلال كل اجتماعاتي مع الأخ معمّر، بقوة وصراحة ووضوح، وتناولت بالنقد الوضع الذي تعيشه الثورة والجماهير، ووضعته أمام أحد خيارين: إمّا أن نقف وقفة جادة ونبدأ في إحداث تغييرات جذريّة، وإمّا أن أقدم استقالتي، فقال لي إنه يوافقني الرأي بضرورة إجراء التغييرات الجذرية. وبالفعل، بدأنا حوارات معمّقة في مدينة سرت على امتداد أحد عشر يومًا كانت تستغرق ساعات طويلة من الصباح إلى المساء، وكان العقيد مسعود عبد الحفيظ، والمقدم خليفة إحنيش، والرائد عبد الله السنوسي، والرائد أحمد قذاف الدم، والنقيب عبد السلام الزادمة، يقومون بواجب خدمتنا. بدأت هذه الحوارات في أول حزيران/ يونيو 1986 واتفقت أنا والأخ معمّر على أسس ومرتكزات التغيير، وأن أقوم بإعداد التصورات والحلول العملية. ونظرًا إلى أهمية النتائج التي توصلنا إليها، فقد أطلق العقيد مسعود عبد الحفيظ والمقدم خليفة إحنيش على أيام هذه الحوارات “الأيام المباركة”. في 11 حزيران/ يونيو، انتهت الحوارات، وتوجهت بالسيارة أنا والأخ معمّر إلى قاعدة رأس لانوف، للاحتفال بذكرى طرد القوات الأميركية، وكان الأخ معمّر يقود السيارة بنفسه. وصلنا إلى رأس لانوف حوالى الساعة الخامسة مساء، فلم نجد إلا عددًا قليلًا جدًّا من الجماهير في موقع الاحتفال، فأدركت أن الثورة فقدت بالفعل جماهيرها، بل إن الجماهير في الواقع أدارت ظهرها للثورة. وكان يحضر الاحتفال الأخ أحمد جبريل والأخ أبو موسى.
في اليوم التالي، توجهت أنا والأخ معمّر بسيارة إلى منطقة هراوة، حيث تقيم قبيلة أولاد سليمان الذين استقبلونا بحفاوة رجالًا ونساء وأطفالًا، فتناولنا معهم طعام الغداء، ثم عقدنا اجتماعًا مع قيادات القبيلة. في هذا الاجتماع، قال لنا رجال القبيلة بصراحة ووضوح وصدق: “لا نرغب في الذهاب إلى الأسواق العامة، ونفضل الموت على أن نذهب إليها، لأن هناك من يعامل المواطنين كـ”كلاب”. ثم أضافوا بمرارة: “هناك تحْدث الكثير من الممارسات غير الأخلاقية. الناس تتشاجر، تتدافع في زحام شديد على بضائع شحيحة، والعاملون في هذه الأسواق يتصرفون مع الناس بوحشية ويفرضون علينا شراء سلع لا نرغب فيها”. وقالوا لنا أيضًا: “يا أخ معمّر،
يا أخ عبد السلام إذا قلنا لكم إن 15 في المئة من الشعب مع الثورة، فهذا يعني أننا نكذب عليكم. جِدَا حلًّا سريعًا للأوضاع. رغم كل شيء فإننا نفضل الموت على أن نرفع السلاح ضدكم”. في هذه الأثناء، جاءت طفلة صغيرة عمرها 6 سنوات تقريبًا، توقفت أمام الأخ معمّر وقالت: “بابا معمّر من عامين لم أتناول شكولاتة أو حلوى أو تفاحة”، فقال الأخ معمّر مخاطبًا الحاضرين: “أحضرت الأخ عبد السلام معي لتحدثوه عن مشكلاتكم لأن أمور الدولة كلها عنده”. ثم واصلنا رحلتنا واتجهنا إلى مدينة البيضاء. كان هناك مكان غالبًا ما يستريح فيه الأخ معمّر في هذه المنطقة، فتوقفنا فيه وتناولنا الطعام.
الأوراق الثلاث
قرر الأخ معمّر أن يواصل الرحلة إلى البيضاء، بينما قررت الذهاب إلى بنغازي لأسافر منها بالطائرة إلى طرابلس. ثم شرعت في اليوم التالي في إعداد أوراق العمل لإعادة الثورة إلى مسارها الصحيح، بناء على الأفكار التي طرحتها في حواراتي مع الأخ معمّر في سرت. في هذا الوقت من عام 1986، وبينما كنت منغمسًا في كتابة “برنامج التغيير، فوجئت بوصول الصديق الكاتب الليبي المعروف، الصادق النيهوموهو يطرق باب منزلي في المصيف. حين استقبلته، طلبت منه أن يقرأ ما كتبت، وأن يطلع بنفسه على أفكار برنامج التغيير الذي أعده، وما إن انتهى الأخ النيهوم من قراءة مسودة البرنامج، حتى هبّ من مقعده وقال لي بصوت بدويّ: “صبيّ يا بطل”، أي قم يا بطل لأعانقك. ثم عانقني وقال لي: “لو تحقق هذا البرنامج فسوف أعود غدًا من سويسرا لأتولى إصدار صحيفة”. في اليوم التالي، التقيت بالأخ المقدم يوسف الدبري، وكان صديقًا مقرّبًا لصادق النيهوم، فقال لي: “أمس وحوالى الساعة الثانية ليلًا طرق باب منزلي الأخ صادق النيهوم وهو يقول لي مازحًا: افتح يا عبد (لأن يوسف الدبري رجل من ذوي البشرة السمراء)، أريد أن احتفل ببرنامج عبد السلام جلود على طريقتي”. وفي هذا الوقت، كان يزورنا الدكتور جورج حبش، الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. بعد اجتماعي به طلبت منه أن يقرأ البرنامج، وما إن انتهى من قراءته، حتى قال لي: ” أهنئك يا أخ عبد السلام. لم يحصل أن تكون هناك ثورة منتصرة وتمسك بزمام السلطة، تملك الشجاعة وتقوم بهذا النقد الجريء، وتقدم حلولًا أكثر جرأة”، وقال لي: “نحن في فصائل الثورة الفلسطينية، حينما خرجنا من لبنان نتيجة لأخطائنا وتصرفاتنا وفقدنا ساحة لبنان، قام كل فصيل في مؤتمره بنقد تصرفاتنا وأخطائنا، لكن للحقيقة لم نملك الجرأة لننقد أسباب خسارتنا لساحة لبنان مثلك”. كانت لدي ثلاث أوراق عمل:
الورقة الأولى: تضمنت “نقد حركة اللجان الثورية” وممارساتها القمعية، وكذلك “نقد الأجهزة الأمنية” و”الممارسات اللاثورية والتزييف والنفاق، وانعدام الممارسة الديمقراطية” و”غياب النقد” بوصفه “أوكسجين الحياة” لأي ثورة أو حركة سياسية. وفي هذه الورقة، ركزت على أهم الأفكار، ومنها أن الثورة تقوم على الحب والصراحة والوضوح مع الجماهير؛ فإذا ما نجحنا نقول إننا نجحنا، وإن فشلنا فعلينا أن نصارح الجماهير بالفشل وبأسبابه. الثورة ليست توجيهًا “لاإراديًا”.
الثورة تقوم على الحب والصراحة والوضوح مع الجماهير؛ فإذا ما نجحنا نقول إننا نجحنا، وإن فشلنا فعلينا أن نصارح الجماهير بالفشل وبأسبابه
ومن هذا المنطلق، على حركة اللجان الثورية أن تعتمد الحوار مع الشعب، وأن تسعى للإقناع لا للتخويف والتزييف. كما أكدت الورقة الأولى على الفكرة الجوهرية التالية: إذا انتهت الثورة أخلاقيًا، فستكون قد انتهت سياسيًا وأيديولوجيا؛ ولذلك لا بد من احترام الرأي والرأي الآخر، سواء داخل الحركة أو في المؤتمرات الشعبية.
الورقة الثانية: تضمنت هذه الورقة شرحًا للمفاهيم والسياسات الاقتصادية، وقد حللت فيها مقولات الكتاب الأخضر، وبيّنتُ أن هناك مسافة بين النظرية والتطبيق، وأشرت إلى أن فهم المقولات اتسم بكثير من الأخطاء التي قادت إلى التطبيق المجزَّأ والخاطئ للمقولات نفسها. لذا، وضعت رؤية عملية للتطبيق تقوم على الفهم العلمي الجماعي، وأكدت أن الأسئلة التي واجهت كارل ماركس وفريدريك إنغلز، ليست الأسئلة نفسها التي واجهت فلاديمير لينين. وفي هذه الورقة، اعترضت على الشرح الذي قدمه الأخ معمّر للكتاب الأخضر، وقلت: “من الخطأ أن نقدّم الشروح لما جاء في الكتاب”؛ لأن ذلك يعني أن “الكتب أقفلت والأقلام جفت”، وقلت: “يجب ألَّا تكون هناك مرجعية وفتاوى لشخص – وكنت أقصد الأخ معمّر – بل إن المرجعية هي النصوص النظرية ضمن قراءة جماعية، وضمن التسليم بالحقيقة القائلة إن هناك بالفعل مسافة بين النظرية والتطبيق”.
الورقة الثالثة: تضمنت مقترحات تتعلق بإعادة تنظيم القوات المسلحة التي كانت تضمّ نحو 350 ألف منتسب، يمثلون فعليًا أكثر من ثلث القوة العاملة في البلاد. كانت هذه القوة معطلة لأنها خارج العملية الإنتاجية، وهي تشكل عبئًا ماليًا يكلف الخزينة مبالغ هائلة. لذا، اقترحت تقليص القوات المسلحة إلى 150 ألفًا، كما اقترحت إيقاف شراء الأسلحة، وإقفال بعض القواعد الجوية، ووضع خطط لتخزين الأسلحة على مدى طويل، كما اقترحت تقليص أعداد الطلبة الذين يتوجهون إلى الانتساب إلى القوات المسلحة.
وهكذا، توجهت إلى بنغازي لمناقشة الأوراق الثلاث مع الأخ معمّر. لمّا وصلت إلى المدينة، اكتشفت أنه توجه إلى مدينة البيضاء؛ فلحقت به على وجه السرعة. وسرعان ما التقيت به في منطقة تفصل بين المرج والبيضاء. وحين قرأ الأوراق، قال لي إنه يوافق على ما ورد فيها من تصورات، ثم قال لي: “كيف يمكن إقرار هذه الأوراق؟”، فقلت: “نعرضها على المؤتمرات الشعبية”، فردّ قائلًا: “يُستحسن أن تُعرض على ملتقى اللجان الثورية أولًا، ولكن يجب ألَّا تعرض على أنها صادرة عن القيادة حتى لا يؤثر ذلك في قناعاتهم”.
في هذه اللحظات، شعرت بالريبة مما سمعت، وانتابني شعور حقيقي بأن الأخ معمّر لم يكن جادًّا في الموافقة على الأوراق المقدمة، بل شعرت أنه غير جادّ في إحداث أي تغيير جذري. ومع ذلك وافقت على مضض، ثم اتفقت معه على موعد عقد الملتقى العاشر لحركة اللجان الثورية، في يوليو/ تموز 1986، في جامعة الفاتح. حين عقد الملتقى في الموعد والمكان المتفق عليهما، وكنّا قد اتفقنا أن تُعرض الورقتان الأولى والثانية على الملتقى، لاحظت أن جدول الأعمال يتضمن مناقشة هاتين الورقتين، وكنت قد فهمت أن الأخ معمّر سرّب إلى أعضاء الحركة خبرًا يقول إن “الأخ عبد السلام جلود أعدّ هاتين الورقتين وهما تعبّران عن رأيه هو”.
في اليوم الأول للملتقى، بدأت “الكولسة” ومقاومة عملية التغيير، وكانت مشاعر الخوف بادية على وجوه أعضاء الملتقى، الذين نظروا إلى عملية التغيير هذه على أنها مسّ بمصالحهم، وأن الأفكار المطروحة توجه النقد الشديد إليهم. في افتتاح الملتقى، ألقى الأخ معمّر كلمة، وكان عدد المشاركين يناهز 30 ألفًا، قال فيها حرفيًّا: “نحن قدّمنا نموذجًا سيئًا ودمرنا أنفسنا. المهم أننا قدمنا نموذجًا ولا نريد أن نتراجع”، فصفق أعضاء الملتقى، وهتفوا: “دوم معمّر هو القايد، الفاتح، الفاتح ثورة شعبية”. كانت تلك لحظات صادمة لي. لقد صعقت مما يجري ومن كلام الأخ معمّر وتأييد أعضاء الملتقى له، وهذا دليل آخر على السلوك الانتهازي والمنافق، فتوجهت على الفور نحو الميكرفون وقلت مخاطبًا الأخ معمّر: “لا يا أخ معمّر. الشيء السيئ لا يشكل نموذجًا. الشيء الجيد هو الذي يشكل نموذجًا”. أصابت كلماتي الحاضرين بالذهول وبدا واضحًا أن الخلاف بيني وبين الأخ معمّر هو خلاف عميق.
أصبحت المؤتمرات الشعبية بلا جماهير بعد أن تكشف لها الزيف، وأن دورها هو إضفاء “مظهر ديمقراطي” شكلي يغطي على حكم القبيلة وحكم الفرد
كانت الورقة الثالثة من “مشروع برنامج التغيير الجذري” الذي قدمته، تتضمن تصورات لإصلاح العجز في الميزانية، خصوصًا بعد انهيار أسعار النفط التي وصلت إلى 7 دولارات، بتوجيه مئتي ألف من أفراد القوات المسلحة نحو سوق العمل، وهكذا يمكننا أن نعالج الخلل في الموازنة. لكن دُفنت “محاولة التغيير الجذري” في مهدها، وانتهى الملتقى.
أصبحت المؤتمرات الشعبية بلا جماهير بعد أن تكشف لها الزيف، وأن دورها هو إضفاء “مظهر ديمقراطي” شكلي يغطي على حكم القبيلة وحكم الفرد. وهكذا، باتت المؤتمرات الشعبية مهجورة من الجماهير، بحيث إنّ عدد الحضور في كل مؤتمر لا يتجاوز ثلاثين أو خمسين شخصًا من كبار السن والمتقاعدين والأتباع، بعد أن كانت الجماهير تحضر بكثافة.
في اليوم التالي، فوجئت بأن الإذاعة المرئية تذيع نصّ ما سمي “وثيقة الشرعية الثورية”، وهي وثيقة تُمكن معمّر من حصر السلطة كلها في يده، التفافًا على سلطة الشعب وعلى صلاحيات المؤتمرات الشعبية، بحيث تسمح له باتخاذ أي قرارات باسم “الشرعية الثورية كقائد للثورة”. وهي تتضمن ما يلي:
– الشرعية الثورية يجسّدها معمّر.
– إن ما يقوله أو يعمله هو “قانون”.
– يكلف أعضاء القيادة التاريخية بالمهمات التي يراها.
فاتصلت بالأخ معمّر هاتفيًّا، وكنت في حالة من الغضب الشديد وقلت له: “ما هذا الكلام الفارغ الذي يذاع؟”. ثم أضفت: “هذا فراق بيني وبينك، أنت اخترت هذا الطريق، وأنا اخترت طريقي”.
ثم قلت: “سبق لي أن أعلنت بوضوح أنه لا يوجد اليوم أيّ فصل بين الثورة والسلطة. الثورة ممارسة لقرار سياسي، والسلطة كذلك ممارسة لقرار سياسي. وجود القيادة التاريخية شرّ لا بد منه؛ لأن وجودها عمليًا سيكون متناقضًا مع سلطة الشعب، بحيث إنّ الناس سوف يشعرون بالخوف منّا وهم يجاملوننا أو يثقون بنا ويقبلون أي شيء نقوله ونعمله. وبذلك لن يكونوا قادرين على التفكير المستقل. لكن لن يكون هناك نظام وطني ولا تقدمي ولا سلطة شعبية ما إن تختفي القيادة التاريخية، بل ستكون ليبيا أقل تأثيرًا من غامبيا. وإذا افترضنا أن هناك شرعية ثورية، فإن هذه الشرعية ستكون للقيادة مجتمعة وليست حكرًا عليك”. وحينما أدرك الأخ معمّر شدة غضبي، وكان يسيطر من منزله ومكتبه على الإرسال التلفزيوني (المرئي) وهو يتحكم في البث، أوقف البث المباشر، ثم قال لي هاتفيًّا: “اكتب الصيغة التي تقترحها للشرعية الثورية”. في البداية وافقت، لكنني شعرت بعد لحظات أنه غير جادّ. فاتصلت به وقلت له: “يا أخ معمّر ليس المهم ما أكتب، المهم ماذا في ذهنك؟”.
ومع ذلك كتبت صيغة تؤكد على “جماعية الشرعية الثورية”، وهي صيغة تعيد الاعتبار للقيادة التاريخية، فوافق على الصيغة تحت الضغط والإلحاح، ولكن – ويا للأسف – سرعان ما علمت أنه تراجع عن الاتفاق، وقام بتحريف مضمون الصيغة؛ فقد جسّدها في شخصه. وبالطبع، لم يكن الأمر مفاجئًا بالنسبة إلي، فهو شخص لا يؤمن بسلطة الشعب، بل يؤمن بحكم الفرد و”عبادة الفرد”، كما أنه يؤمن بحكم العائلة وحكم القبيلة. كانت سلطة الشعب بالنسبة إليه أكذوبة، قنبلة دخان الغرض منها التغطية على الحقيقة، أي التخلص من “مجلس قيادة الثورة” ومنع ظهور أي معارضة، بحيث يتمكن من البقاء في الحكم طوال حياته ومن بعده أولاده، فهذا الوضع لا يسمح بظهور أي معارضة، ويصبح كل معارض متآمرًا على سلطة الشعب.
في أواخر عام 1989، كنت أمارس لعبة كرة القدم في ملعب تابع لمركز التربية العقائدية في طرابلس. بعد أن غادرت الملعب، وركبت سيارتي، إذا بمجموعة من الشباب يقفون في انتظاري عند الباب، وصاحوا بأعلى أصواتهم: “يا أخ عبد السلام، يا أخ عبد السلام، نريد أن نتحدث معك؟”. فنزلت من سيارتي واستمعت لما يريدون قوله. قالوا لي: “نحن طلبة من اتحاد طلبة الجامعات، ونريد أن نخبرك أن أعضاء الاتحاد اجتمعوا في طرابلس لمدة يومين لاختيار قيادة جديدة للاتحاد، لكن عمر أشكال، أمين شؤون المؤتمرات الشعبية، ومحمد المجذوب، وصالح إبراهيم المبروك، فرضوا علينا نقيبًا؛ هو الطالب عبد الله عثمان، وهو من أقرباء القذافي، وقالوا لنا، إن القائد يريده في هذا الموقع”. ثم سلموني شريط فيديو للاجتماع. وحينما عدت إلى المنزل، شاهدت الفيديو، وكيف أن هذه المجموعة زورت إرادة الطلبة، وفرضت عليهم الطالب عبد الله عثمان.
في الصباح، استدعيت بشير حويج أمين شؤون المؤتمرات المهنية، كما استدعيت المجذوب وإبراهيم وأشكال، وقلت لهم جميعًا: “ما هذا التزوير لإرادة الطلبة وتخويفهم وتهديدهم؟”، فقالوا: “إن القائد، بحسب تعبيرهم، يرغب في أن يستمر عبد الله عثمان في موقعه على الأقل أربع سنوات أخرى”، فقلت لهم: “لا، لا يمكن أن أوافق على هذا التزوير. أوافق على إرادة الطلبة فقط”. وهكذا وضعت حدًّا لمحاولة تزوير إرادة الطلبة، وطلبت منهم دعوة الطلبة للاجتماع من جديد، وأن يختاروا من يريدون من دون تهديد أو خوف، كما كلفت بشير حويج وصالح والمجذوب أن يشرفوا بأنفسهم على هذا الاجتماع. في اليوم ذاته مساء، جاءني بشير، وقال لي: “هناك مجموعة من أعضاء اللجان الثورية لا يريدون تمكين الطلبة من حرية الاختيار”؛ فذهبت بنفسي، على الفور إلى الاجتماع. ما إن وصلت إلى المكان، حتى خاطبتهم بقولي: “لا بديل من حق الطلبة في الاختيار الحر لقيادتهم، وأنا مستعد لقتالكم من شارع إلى شارع”. وهكذا أوقفت هذا التزييف. في نهاية الاجتماع قال لي الطلبة: “هذه هي المرة الأولى التي نختار فيها قيادتنا بأنفسنا”، ثم عانقوني وهتفوا “الفاتح، الفاتح”.
في عام 1989، استدعى الأخ معمّر أخي سالم، وكان رئيسًا لاتحاد نقابات العمال، وطلب مني حضور اللقاء. في بداية اللقاء، قال الأخ معمّر لأخي سالم: “يا سالم، أنا لست ضدك. يجب أن تعرف أن أعدى أعدائي هم العمال والطلبة. وعندما تمشي أنت (أي عندما تستقيل) فلن يكون هناك اتحاد عمال”. ثم توجه نحوي قائلًا: “يا عبد السلام، أليندي في تشيلي لم تسقطه المخابرات الأميركية عمليًا، وإنما أسقطه العمال حينما أغلقوا الطرق والساحات والميادين بالشاحنات والحافلات وشلّوا الحركة”. ثم طلب من سالم أن يقدم استقالته، فقال له سالم: “لا يمكن أن أقدم استقالتي لأنك يا أخ معمّر لم تعيّني. أنا كنت مدة 17 عامًا نائبًا لرئيس اتحاد عمال ليبيا في العهد الملكي الذي كان رئيسه سالم شيتةعضو مجلس النواب”. ثم قال سالم: “والآن في عهدك العمال هم من اختاروني. يمكنك عزلي ولكن لن أقدم استقالتي”. في إثر ذلك مباشرة، شكّل معمّر لجنة برئاسة نقيب الأدباء والكتاب الليبيين أمين مازن،
دعت اتحاد العمال لعقد اجتماع في سرت. أشرفت هذه اللجنة على الاجتماع، فقرر اتحاد العمال إقالة سالم، وذلك تنفيذًا لأوامر معمّر. عاد سالم إلى الفندق في مدينة سرت، فأبلغه مدير الفندق قائلًا: “إن سكرتارية الأخ معمّر طلبت مني أن أبلغك ألا تعود إلى طرابلس، لأن القائد يريد الاجتماع بك غدًا في الساعة 12”. فقال سالم: “ماذا يريد مني؟ لقد فعل ما أراد”، ثم عاد سالم ليلًا إلى طرابلس. في الصباح اتصلت السكرتارية بالفندق وطلبت التحدث مع سالم، فكان الرد أنه غادر الفندق إلى طرابلس، فغضب الأخ معمّر غضبًا شديدًا، واتصل بأحمد رمضان في طرابلس وطلب منه أن يرسل سالم على متن طائرة صغيرة فورًا إلى سرت. عاد سالم إلى سرت والتقى معمّر، فقال له: “يا سالم، كيف أطلب منك البقاء في سرت للاجتماع بك، ومع ذلك تعود إلى طرابلس. أنت غير معترف بي كرئيس لهذا البلد”، فرد عليه سالم: “ماذا تريد مني يا أخ معمّر. أنت فعلت ما كنت تريده”، فنهره معمّر ووبخه.
أواخر عام 1990، توفي عمي علي، فأقمنا له عزاء في صالة رياضية كبيرة في حي قرقارش بطرابلس بالقرب من نادي الرمال، ولا أبالغ إن قلت إن معظم أهالي طرابلس جاؤوا للتعزية. في اليوم الأول للعزاء، كان إلى جانبي بعض الضباط الأحرار، من بينهم العقيد يوسف الدبري، فقالوا لي: “اليوم حضرت كل طرابلس لتعزيتك”. في الواقع جاءت الوفود من كل المدن والقرى والقبائل. ويبدو أن التنابلة وعناصر السوء كانوا ينقلون هذه الصورة للأخ معمّر. وذلك ما زاد في غضبه وحقده على الليبيين؛ لأنه وجد في هذه الصورة شخصًا ينازعه الشعبية. في اليوم الثاني للعزاء، كنت مرهقًا فلم أتمكن من الذهاب إلى مكان العزاء. اتصل بي عبد الله السنوسي وقال لي: “إن القائد سيذهب الليلة لتعزيتك وتعزية عائلة جلود”. وبالفعل، بعد صلاة العشاء وصل القذافي إلى مكان العزاء فلم يجدني. اتصل بي السنوسي وآخرون وقالوا لي: “القائد ينتظرك في مكان العزاء”. ومع ذلك لم أذهب، وكان هذا الموقف محل استغراب واستهجان منه.
في عام 1990، حاول الأخ معمّر مرة أخرى أن يلتقي بي، حينما علم أن أسرة أخي عمر تريد أن تقيم عرسًا لأحد أبنائها. أرسل سعيد راشد أحد المقربين منه إلى منزل أخي عمر ليخبره أن القذافي سيحضر العرس بنفسه. حين علمت بالأمر، اتصلت بأخي سالم وأبلغته أنني لن أحضر حفل الزواج، وقلت له لن يحضر عندما يعرف أنني لن أحضر. إنه ليس مهتمًا بمشاركة الأسرة أفراحها، بل إن كل همه أن يلتقي بي. وهذا ما حدث بالفعل. وفي أواخر عام 1992، اتخذت قراري النهائي: إمّا التغيير الجذريّ وإمّا الاستقالة.
لكنني قرّرت خوض سلسلة من الحوارات الصريحة والعميقة مع الأخ معمّر، وأبلغته أن الوضع وصل مرحلة اللامعقول، وأنه بلغ مرحلة خطيرة، وأن حالة الجماهير غاية في السلبية، وأنها تعيش ظروفًا اقتصادية واجتماعية وسياسية لا تحتمل، وأن النفاق السياسي والتملق للسلطة ينخران كالسوس في جسد الشعب، وقلت له: “هناك مسلسل تلفزيوني، عنوانه السوس، تمّ بثه في الثمانينيات، وأشعر اليوم أنه سبق زمنه بكثير، وهذه هي مرحلته، المسلسل يعبّر عن هذه المرحلة. هذه مرحلة السوس الذي ينخر في كل شيء”.
في نهاية خريف هذا العام، أجريت مع الأخ معمّر حوارًا في منطقة العثعث، خارج مدينة سرت، على امتداد ثلاثة أيام متواصلة، قدمت خلالها تحليلًا مفصلًا وجريئًا، لأنني أعلم أن التحليل الجريء يقود إلى استنتاجات جريئة. في اليوم الأخير من الحوارات اجتمعنا لبلورة الأفكار. وفي نهاية الاجتماع، قال لي، كعادته، إنه يتفق معي؛ ولذا اقترحت عليه آلية لمتابعة إعداد البرنامج:
– أن ننظم دورة يشترك فيها بعض الثوريين من الحركة، وعدد من الكتّاب والأدباء والمفكرين والمثقفين.
– عقد ندوات في الإذاعتين المرئية والمسموعة، تقودها وتديرها القيادات الفكرية والثقافية، وأن يتمكن المواطنون من إبداء آرائهم مباشرة والتعليق عليها.
– أن نعقد ندوات تخصّصية في مجالات الحياة المختلفة (السياسية والاقتصادية والاجتماعية والشبابية …إلخ).
في أعقاب هذه الحوارات الطويلة، عدنا إلى سرت، وكان معنا المقدم عبد السلام الزادمة يقود السيارة، فقال الزادمة: “يا أخ القائد، أنت دائمًا توافق على التغيير ثم تتراجع، وأنا في هذه المرة شاهد عليك”، فربّت على كتفه وقال له مازحًا: “يا تحفة … استمر في قيادة السيارة”. في اليوم التالي، عدت إلى طرابلس وشرعت في وضع “تصوراتي عن التغيير الجذري”. ثم نظمت ندوة اشترك فيها أكثر من سبعين مثقفًا ومفكرًا، وكانت ندوة مغلقة، ثم انتقلت إلى تنظيم ندوة تبث مباشرة على الهواء في الإذاعتين المرئية والمسموعة. رشحت لهذه الندوة كلًّا من: عمر الحامدي، والدكتور شعيب المنصوري، والدكتور صبحي قنوص، والأستاذ أمين مازن، وعلي إخشيم، ومصطفى التير. وحين اجتمعت معهم، تلقيت منهم سؤالًا دقيقًا وواضحًا: “ما هي حدود الحرية؟”، فقلت “الحرية لا حدود لها إلا الضمير والقيم الأساسية في المجتمع”.
في اليوم التالي للندوة، بينما كانت تُنقَل مباشرة على الهواء – وكانت ندوة جادة ومسؤولة وصريحة وتشكل بداية مرحلة جديدة في التفكير بصوت عالٍ – اتصل الأخ معمّر هاتفيًّا بالإخوة المشاركين في الندوة، وقال لهم بغضب: “هذه مؤامرة أميركية وخيانة وتشكيك في سلطة الشعب”، وقطع البث. اتصلت به هاتفيًّا وقلت له: “يا أخ معمّر، هل نحن ضعفاء إلى هذه الدرجة، بحيث إنّ بيتنا أصبح من زجاج؟ ولم نعد نحتمل أي رأي آخر؟”. ثم أضفت: “مداخلتك الهاتفية تؤكد أنك لا ترغب في التغيير، وأنك ماضٍ في طريقك، ومن الواضح أنك تريد أن تحكم كشيخ قبيلة”، فقال لي: “يا عبد السلام، الإعلام أخطر شيء. عندما تمكن ليخ فاونسا في بولندا من الحصول على ترخيص لإصدار صحيفة التضامن، استطاع أن يروج لأفكاره ويصبح رئيسًا للجمهورية”.
ثم جاء إليّ المشاركون في الندوة وقد بدا الخوف على وجوههم، وقالوا لي بحرج شديد: “ماذا فعلت بنا؟ كنّا نعتقد أنكما متفقان على هذه النقلة النوعية؟”.
لقد تأكد لي من جديد أن الأخ معمّر لم يكن راغبًا ولا جادًّا في إحداث التغيير الجذري المطلوب. وهكذا، أُجهضت المحاولة الثانية لإحداث التغيير في مهدها وقُبرت.
وعلمت في ما بعد أنه أمر بالتحقيق مع المجموعة التي أدارت الندوة، ولذلك كتبت ثلاثة مقالات في صحيفتَي الجماهيرية والزحف الأخضر، تتضمن نقدًا وتشريحًا للواقع. كانت سلسلة مقالات جريئة، جاء المقال الأول منها بعنوان “لا للقرارات والقوانين الثورية”، والمقال الثاني جاء بعنوان “دعوة لإعادة قراءة الكتاب الأخضر من جديد”، أما المقال الثالث فكان بعنوان: “كومونات مع وقف التنفيذ”. وكانت كلها باسم مستعار (مواطن). ما قصدته من وراء نشر هذه المقالات كان له هدف محدد، هو تحفيز كوادرنا ومثقفينا على “التفكير الجسور”، والمساهمة في خلق الجرأة في التحليل، وبكل تأكيد كنت أريد لها أن تشكل منهجًا متكاملًا في التفكير. وفي هذا السياق، أذكر أن الأخ معمّر قال لي حين عاد من زيارته للقاهرة، وكان قد التقى خلالها بالصحافيين والمثقفين والمفكرين المصريين: “إن الإخوة في مصر سألوني: هل أنت من كتب هذه المقالات؟ وقالوا إذا ما طبقتم الأفكار التي جاءت فيها، فأنتم تقومون بالفعل بثورة أقوى من ثورة الدبابات والمدفعية، ويمكن لمثل هذه الأفكار أن تشكل بداية منعطف جديد في ثورتكم وأن تشكل نموذجًا للأمة العربية. إنها بالفعل ثورة أخطر بكثير من ثورة الدبابات؟ فقلت لهم: لا، أنا لم أكتبها منْ كتبها عبد السلام جلود”. كان الهمّ الوحيد للأخ معمّر، كيف يعمل، باستخدام كل الوسائل المتاحة، لإلهاء الجماهير وإشغالها عن أهدافها الحقيقية، بل أنْ يعيد توجيه إرادتها بواسطة الميليشيات والمحسوبين عليه، وتفضيل القرابات القبلية والأسرية على حساب معايير الكفاءة. وبدا هذا الأمر جليًّا ساطعًا منذ عام 1983، بعد أن تمكن من تزييف إرادة كل منطقة أو قرية أو قبيلة، حين نصّب عليها أرذل من فيها. لقد كان الأخ معمّر يجيد، ببراعة، هذا الأسلوب في التلاعب بإرادة الجماهير، معتمدًا ما يدعى في المثل الشعبي سياسة “هزّ اشكارة” أي “هزّ كيس الفئران”. كان يقصد من هذه السياسة إشغال الجماهير وإلهاءها، بحيث يفرض عليها تغييرات متسارعة ومتزاحمة، وتصبح في وضع نفسي لا يسمح لها بالتفكير.
في هذا السياق، اقترح أن تقوم جماهير النقابات والعاملين في المرافق العامة والمصانع والمصالح باختيار “اللجان الشعبية” على مستوى فرع البلدية والبلدية والمحافظة، بعد أن كانت الجماهير في وقت سابق، بحسب الكتاب الأخضر، تقوم باختيار اللجان مباشرة. لقد عارضت هذا الاقتراح لسببين: الأول أنه يخالف سلطة الشعب، والثاني أنه سوف يقود إلى ظهور لجان ضعيفة لأن العاملين في هذه المرافق سوف يختارون من يجاملونهم ويجارونهم على حساب المصلحة العامة. وكنت أقول له: “لا يجوز لجزء من الشعب أن يشكل هذه اللجان، هؤلاء جزء من الشعب؛ ولذا لا يحق لهم أن يشكلوا لجانًا شعبية باسم الشعب، وفضلًا عن ذلك سيكون تشكيل اللجان الشعبية شيئًا، والإدارة بصفتها عملية فنية تخصصية شيئًا آخر، وإن العاملين في هذه المرافق سوف يختارون الشخص الأضعف؛ وبذا سوف تصبح اللجنة عمليًا في خدمة العاملين وليست في خدمة الجماهير التي توجد فيها هذه المرافق والمصالح”، كان يقول لي “هذا صحيح، ولكن المهم أن يلهوا بأنفسهم بدلًا من أن يلهوا بنا”.
وحينما كنت أخطب في الجماهير، كنت في الواقع أتحدث إلى الشعب الليبي كله، وأشدّد على أهمية الشباب والكوادر في صياغة وعي ثوري جماهيري، لكن الأخ معمّر غالبًا ما كان يقول لي: “يا عبد السلام، لماذا تميّز الشباب والكوادر عن بقية الشعب؟ هذا الأمر يشجعهم على الشعور بأهميتهم”. ثم قال لي باللهجة المصرية: “ياخدوا قلم في أنفسهم”؛ أي دعنا لا نعطيهم دورًا أكبر في المجتمع.
كان الأخ معمّر يمارس سياسة “الشو” (Show)، ويفتعل البرامج والسيناريوهات للضحك على الجماهير والاستخفاف بوعيها
كان الأخ معمّر يمارس سياسة “الشو” (Show)، ويفتعل البرامج والسيناريوهات للضحك على الجماهير والاستخفاف بوعيها. بكلامٍ آخر، كان الأخ معمّر يعتقد في أعماق نفسه أنه أذكى من الجميع، وأنه يستطيع مواصلة التلاعب بالجماهير، وأنها ستردّد كل ما يقوله بلا قناعة، وذلك باستخدام المهرجين والمنافقين. هكذا أصبح أي شخص يمكن أن يعارضه، أمام تهمة جاهزة: خائن، معادٍ للثورة، مرتد، عميل.
في هذه الفترة، ابتداء من عام 1975، عمل الأخ معمّر على تدمير الجيش؛ فهو أعلن “قيام الشعب المسلح” لتنظيم الشعب في “كتائب”، وشكّل أيضًا لجانًا ثورية في قطاعات الجيش المختلفة، وهذه العناصر هي العناصر الفاشلة في الجيش ومن الفوضويين وغير المنضبطين، وبذلك قضى على أهم أعمدة الجيش النظامي، وهي الانضباط والنظام والربط، والذي هو أساس أي مؤسسة عسكرية. و”فسّخ” الجيش، ونشر الخوف والرعب في قلوب الضباط، وأفرغ الجيش من القيادات العسكرية، وأحلّ محلها أقرباءه وأزلامه والمقرّبين منه. وهمّش دور الضباط الأحرار، وأحل محلهم مجموعات من الموالين له في الأجهزة الأمنية. وقضى على أي إمكانية لوجود عقل جماعي؛ فأنهى دور النقابات والاتحادات والجمعيات والنوادي، فلم يترك لأي شخص فرصة تكوين، أو تشكيل، رأي جماعي منظّم. كان الأخ معمّر يرى في ذلك خطرًا داهمًا عليه شخصيًا؛ ولذا خلق حالة من الرعب والإرهاب والخوف إلى درجة أصبح فيها كل فرد مذعورًا وخائفًا حتى من زوجته أو أخيه أو صديقه. لقد خلق مناخًا مخابراتيًا مقيتًا.
في عام 1986، كشف الأخ معمّر عن حقيقته فعليًا، بصفته شخصًا قبَليًّا متألهًا ورجلًا فاشيًّا معاديًا للشعب، لا يحب سوى المديح لنفسه والتطبيل له. وأظهر أيضًا بجلاء أنه يحبّ الألقاب وأن يُمجده الشعب كإمبراطور من القرون الوسطى، يقبلون أنفه وجبينه ويده، وكان يكره الرجال، ويحبّ أشباه الرجال والسذج والطبّالين والمادحين. ببساطة، لم يكن يريد شركاء. ومع أن أعمال التزييف والانحراف، التي وصلت إلى حدّ الجريمة، بدأت فعليًا عام 1981، فإن الأخ معمّر كشف عن حقيقته على نحوٍ ساطع عام 1986. وسأقول بصدق إنّ الرأي الوحيد الذي كان يصغي إليه هو رأيي، وكان يقول لي: “إن الرجل الوحيد في هذه البلاد الذي احترمه هو أنت”، وفي كل الحوارات كان يكرر ذلك، وكنت أقول له: “إذا أردت أن تحترمني، احترم الشعب”، حتى إنني في إحدى المرات، قلت له: “أَهِنِّي، لكن احترم الشعب”.
في 1986، كشف الأخ معمّر عن حقيقته فعليًا، بصفته شخصًا قبَليًّا متألهًا ورجلًا فاشيًّا معاديًا للشعب، لا يحب سوى المديح لنفسه والتطبيل له
وأخطر هذه الانحرافات كانت تتجلىّ في تسليح قبائل ضد قبائل أخرى. وأذكر أن أخي عمر فاجأني بحضوره إلى منزلي وقت الإفطار في رمضان، وكان يغلي غضبًا. قلت له: “هيا نتناول الإفطار”، لكنه رفض وقال لي: “أريد أن أقابل العقيد متاعك”، وكان يقصد الأخ معمّر، فقلت له: “سأتصل به الآن”. وبالفعل، اتصلت بالأخ معمّر وقلت له: “أخي عمر في حالة هستيريا، جنون، ويريد أن يلتقي بك ورفض تناول الإفطار”، فقال لي: “قلْ له يفطر، وبعد الإفطار يأتي لمقابلتي”، فقلت له: “أخ معمّر، أخي عمر لا يريد أن يحضر أي أحد هذا اللقاء حتى الشخص الذي يقدم لك الشاي”. وبالفعل ذهب عمر بعد الإفطار للقاء الأخ معمّر. أخبرني عمر أنه في هذا اللقاء قال للأخ معمّر: “يا الأخ القائد، أنت تعلم أن عائلة سيف النصر حاربتنا من خلال قبيلة إرياح، وهي من القبائل العربية الهلالية التي دخلت إلى شمال أفريقيا في القرن الخامس الهجري، في منطقة الأحيمر، واليوم أنت تريد أن تحاربنا بقبيلة الحساونة، فقد قمت بتسليحهم، ونحن سئمنا من القتال المقزز والخسيس، أي حين يأتي أحد أفراد القبيلتين ليقتل الآخر وهو في سيارته أو في منزله. أعطيك اقتراحين: إمّا أن نخرج إلى الصحراء نحن والحساونة لنتقاتل، وإمّا أن نهاجر ونترك لك ليبيا”.
في اليوم التالي، أرسل الأخ معمّر مدير الشرطة العسكرية خيري خالد إلى سبها وقام بسحب السلاح من قبيلة الحساونة؛ فانتهت بذلك أكبر فتنة بين القبيلتين، وتنفس الجميع الصّعداء، لأنهم كانوا يعلمون عواقب مثل هذه الفتنة التي دبرها الأخ معمّر.
في بداية عام 1993، قررت القيام بمحاولة أخرى مع الأخ معمّر من أجل إحداث تغيير جذريّ، بعد أن وصلت الأمور إلى مرحلة فظيعة من السوء والتدهور في كل مجالات الحياة بليبيا. في هذا العام، أجريت مع الأخ معمّر حوارًا معمقًا وطويلًا وصريحًا وصادقًا، ومارست ضغطًا شديدًا من أجل إقناعه بضرورة التغيير، وعرضت عليه ملامح الحل وأسسه، ثم اتفقت معه على تقديم تحليل جريء للوضع الراهن، يتسم بالقدرة على تشريح الواقع بجسارة، وبالقدرة على وضع حلول عملية وجذرية. وبالفعل، عكفت على وضع ورقة تحليلية جريئة عن الواقع الراهن قدّمت فيها حلولًا شجاعة. في هذا الوقت، صادف أنّ أحمد قذاف الدم التقى الأخ معمّر، وقال له: “أنا كنت لسنوات خارج ليبيا. وحينما عدت إلى ليبيا والتقيت بالناس هنا، وتعرّفت على الواقع، فإنني مضطر إلى أن أقول لك إن الوضع خطير جدًّا، فالنفاق والتزييف لا يمكنهما أن يخفيا حقيقة الوضع النفسي والمعيشي. الناس هنا تعيش ظروفًا اقتصادية ونفسية مروّعة، وما لم تبادروا إلى مراجعة الأوضاع الراهنة، فإن الجماهير لن تستطيع تحمل هذه الأوضاع”. جاء لقاء الأخ أحمد قذاف الدم بالأخ معمّر، بعد حواري معه؛ ولذا طلب الأخ معمّر من أحمد قذاف الدم أن يلتقي معي ويحدثني عن رأيه في الأوضاع الراهنة. وبالفعل، وصل الأخ أحمد قذاف الدم ووجدني في مكتبي عاكفًا على إعداد ورقة التصورات.
أخطر انحرافات القذافي كانت تتجلىّ في تسليح قبائل ضد قبائل أخرى
قرأ أحمد الأفكار والحلول المقترحة في هذه الأوراق، فعبّر عن إعجابه بها، وحين عاد للقاء الأخ معمّر قال له حرفيًّا، وهذا ما أخبرني به الأخ معمّر شخصيًا: “الرائد عبد السلام جلود هو الشخص الوحيد الذي يفهم الواقع أكثر من أي شخص آخر، والورقة التي أعدّها واطلعت على جزء منها هي ورقة إنقاذ لليبيا”. في هذه الأثناء، وبعد حواري مع الأخ معمّر حين شرعت في وضع أسس التغيير المطلوب وقواعده، اتصل عبد السلام الزادمة بعبد الله السنوسي وببعض المقرّبين منه، وقال لهم حرفيًّا: “كلموا الأخ القائد إذا لم يبادر إلى التغيير راكم بتريحوا في داهية (أي سوف تنتهي الثورة)”. فلما علم الأخ معمّر بأمر هذه المكالمة، قال لعبد الله السنوسي وبعض معاونيه “إسألوا عبد السلام الزادمة، هل قابل عبد السلام جلود أو تحدث معه على الهاتف؟”. وحين سئل عبد السلام الزادمة عن أمر هذه المعلومة، ردّ قائلًا: “منذ أكثر من أربعة أشهر لم أقابل الرائد عبد السلام جلود ولم أتصل به بالهاتف”. كان الأخ معمّر يظن أن ما قاله الزادمة هو ترداد لكلامي، وذلك ما يبيّن بجلاء ساطع الحالة النفسية التي بلغها، إلى الحدّ الذي باتت فيه البطانة في حالة ذعر تام، فأخذت تكشف عن مخاوفها من أن تسوء الأمور أكثر فأكثر؛ بما يفقدها امتيازاتها ومكاسبها.
بعد أن أنهيت إعداد الورقة، ذهبت إلى الاجتماع بالأخ معمّر، وعرضت عليه الأفكار والحلول والمقترحات. وبعد أن قمنا باستعراض أهم الأفكار قال لي: “هذا رأي الثورة وليس رأيك الخاص، وأنا أوافق عليه تمامًا”، ثم بادر على الفور بقرع الجرس، وطلب استدعاء السكرتارية طالبًا طباعة الورقة. وحين اطلع الأخوان أحمد رمضان وعبد السلام غيث على الورقة خلال طباعتها، تأثرا بها، وحين أحضراها، له قالا: “يا قائد، هذا ما يريده الشعب، والرائد عبد السلام جلود رجل قريب من الشعب ويعرف الواقع بعمق ويدرك خطورة ما يجري في الشارع”.
في اليوم التالي في مطلع أيار/ مايو 1993، غادرنا طرابلس برًا عبر بني وليد، في طريقنا إلى سرت لحضور مؤتمر الشعب العام. في هذا الوقت، اطلع بعض ضباط الحرس الخاص على الورقة – وأذكر أن المقدم منصور ضوّ كان من بينهم – فقالوا للأخ معمّر: “هذه الورقة تشكل ورقة إنقاذ ويجب تطبيقها بالكامل من الصفحة الأولى حتى الأخيرة”.
وكان هذا، بالنسبة إلي، دليلًا إضافيًا على أن الوضع قد بلغ مداه المأساوي بالفعل، فحتى المستفيدون والأقرباء والمحاسيب باتوا يشعرون بخطورة الأوضاع، وارتعدت فرائصهم من الخوف على امتيازاتهم ومكاسبهم. توقفنا في منطقة السدادة ببني وليد لتناول طعام الغداء، فلحق بنا جاد الله عزوز الطلحي.
قال القذافي: “يا عبد السلام لا بد من الاعتراف بإسرائيل”
بعد الغداء، جرى نقاش بيني وبين الأخ معمّر، فقال لي حرفيًّا: “يا عبد السلام لا بد من الاعتراف بإسرائيل”. كان وقع الكلمات التي سمعتها من الأخ معمّر كالصاعقة. ثم أردف قائلًا: “الأميركيون لن يسمحوا لنا بإنجاز الوحدة ما دمنا نحن معادين لليهود ولم نعترف بهم”، فقلت بغضب: “ما هذا الكلام يا أخ معمّر؟ أكاد لا أصدّق ما تقول، ما فائدة الوحدة العربية إذا ما كانت ستقودنا إلى الاستسلام للعدو؟ أنا أرفض هذه الوحدة”، فردّ قائلًا: “نعترف بإسرائيل لكي تسمح لنا أميركا بإنجاز الوحدة ثم نحارب اليهود”، فقلت له: “أنا أرفض هذا المنطق كليًّا. إنه منطق غريب عجيب”، فقال لي: “أنت تتصرّف بعقلية الطالب، ليس لديك ما يكفي من المرونة السياسية”، ثم أردف قائلًا: “أنت مَن يقف في وجهي وفي طريقي. لولاك لاعترفت بإسرائيل”. عند هذا الحدّ انتهى الحوار الصاخب بيننا، ثم توجهنا إلى سرت.
في اليوم التالي، عقدنا اجتماعًا آخر؛ أنا والأخ معمّر وأبو زيد دوردة، وكان أمين اللجنة الشعبية العامة وجاد الله عزوز الطلحي وعبد الله البدري أمين النفط ومحافظ مصرف ليبيا المركزي وعبد الحفيظ الزليطني وأمين الاقتصاد والخزانة. كان موضوع الاجتماع مناقشة اقتراح الأخ معمّر “توزيع عائد ثروة النفط على الشعب”.
في هذا السياق، أريد أن أعود إلى الوراء قليلًا؛ فقبل ستة أشهر من هذا الاجتماع، اقترح الأخ معمّر اقتراحًا غريبًا هو “أن نقوم بتوزيع عائد ثروة النفط على الليبيين”. في هذا الوقت، أبديت اعتراضًا شديدًا وساجلت ضد الفكرة من أساسها، وقلت للأخ معمّر: “الحركات الإصلاحية والثورية التي قامت في العالم، وجدت أوضاعًا ينعدم فيها التوازن الاقتصادي على المستويين الاجتماعي والجغرافي؛ ولذا دعت إلى إصلاح هذا الخلل وعملت على إعادة توزيع الثروة بصفة عادلة، وسعت بذلك إلى القضاء على التفاوت الاجتماعي بين فئات الشعب، وجغرافيًا بين المناطق المختلفة، ثم رصدت الأموال واعتمدت الخطط”. شخصيًا كنت مع إعادة توزيع الثروة اجتماعيًا وجغرافيًا بتوجيه نسبة من دخل النفط إلى هذه الفئات والمناطق الجغرافية في شكل خطط وبرامج تنموية خاصة بها، وتقديم القروض والتسهيلات الميسرة والحوافز من أجل الاستثمار في هذه المناطق، والعمل على أن تكون المداخيل متقاربة قدر الإمكان، وأن يكون التفاوت قائمًا على أساس الجهد والقدرة على المثابرة. أمّا “فكرة توزيع الثروة” على الشعب، فهي “دعوة إلى الفقر” ودعوة إلى الكسل، ثم إنّ عائدات النفط انخفضت بسبب انهيار أسعار النفط عالميًا، ونحن لم نتمكن من تسديد الرواتب، ولم نتمكن من “إدامة البنية الأساسية”، كما أننا لم ننجح في توفير مستلزمات الإنتاج أو توفير الاستثمارات الضرورية. الفكرة في جوهرها خاطئة، وعمليًا لا تتوافر لدينا الأموال لتوزيعها على الشعب.
في نهاية الحوار، اتفقنا على أن الفكرة غير قابلة للتنفيذ، لا من حيث المبدأ، ولا من حيث الإمكانيات. ومع ذلك، واصل الأخ معمّر التمسك بفكرته، وأخذ يناقشها مع محافظ المصرف المركزي الدكتور عبد الحفيظ الزليطني وعبد الله البدري أمين النفط، وطلب منهما ألا يخبراني بأمر هذا النقاش أو أن القذافي يواصل مناقشة الفكرة خلافًا لما اتفقنا عليه؛ وهكذا وصلت إلى قناعة أن الأخ معمّر لا يزال مصرًا على توزيع الثروة؛ ولذا ذهبت للقائه وأنا في حالة غضب شديد، فقلت له: “يا أخ معمّر لقد اتفقنا على توزيع الثروة بطريقة علمية، وكنت أعتقد أننا صرفنا النظر عن مقترحك”، فقال لي: “من أخبرك أنني ما زلت مصرًا على رأيي؟”، فقلت له: “لا الزليطني ولا عبد الله البدري من الذين يمكن اعتبارهم منحازين إلى الشعب. أنا يا أخ معمّر المنحاز إلى الشعب. هؤلاء منافقون ومجرد موظفين مهمتهم أن يقولوا لك حاضر، نعم. لو كانت الفكرة في مصلحة الشعب ويمكن عمليًا تطبيقها لوافقت عليها فورًا. بالنسبة إلي هؤلاء جهلة ومنافقون”.
ثم أردفت غاضبًا: “أنا يا أخ معمّر عندما أتحدث في مجال الاقتصاد، فإنني من الناحية العلمية أتحدث عن معرفة. الكثير من المختصين يثقون برأيي وبسلامة تحليلاتي، بمن فيهم الاختصاصيون في أوروبا”. فردّ علي: “ما هذا الغرور؟”، فقلت له: “أنا لا أعرف الغرور. هذا تعبير عن ثقتي بنفسي ومعرفتي لإمكانياتي في مجال التحليل الاقتصادي”.
كان الأخ معمّر قد عرض فكرة توزيع الثروة على المؤتمرات الشعبية، وفي أثناء عقدها، ذهبت لحضور أحد اجتماعاتها في طرابلس وتكلمت في المؤتمر، فأعدت تكرار رأيي أمامهم. ونظرًا إلى أن المؤتمر كان يُبث على الهواء مسموعًا ومرئيًا، فقد وصلت كلمتي إلى معظم الليبيين والليبيات. وهكذا استوعبت المؤتمرات الشعبية بشكل مباشر رأيي وتبنّته وقال كثير من المشاركين: “نحن لا نريد توزيع الثروة مباشرة، بل نريد تنمية صناعية وزراعية وإسكانًا وتعليمًا وبحثًا علميًا وتخصيص ميزانيات لرفع مستوى الفئات الفقيرة اجتماعيًا وجغرافيًا”. وباستثناء ثلاثة مؤتمرات شعبية تبنت رأي الأخ معمّر، فإنّ كل المؤتمرات الأخرى قد تبنت رأيي ومقترحاتي والحلول التي طرحتها. وحدث، خلال كلمتي في المؤتمر، أن الأخ أحمد قذاف الدم جاء للقاء الأخ معمّر في خيمته وقال له: “يا قائد، المؤتمرات الشعبية أعطتك مخرجًا من هذا المأزق، حين تبنّت أفكار عبد السلام جلود. لو كانت هناك قوى سياسية معارضة لاستغلت هذا الأمر لتوريطك ولوضعوك في حرج شديد”.
في رمضان 1993، استدعى الأخ معمّر بعض الخبراء إلى ندوة في الإذاعة المرئية تبث مباشرة. حينما شاهدت الندوة ورأيت وجوه الخبراء والتقنيين المشاركين فيها، لاحظت أن الخوف يسيطر عليهم جميعًا؛ فظهروا كأنهم مجرد طلبة في فصل دراسي، وتبدى ذلك واضحًا من كلماتهم المنافقة التي تردد أفكار القذافي. كانت الندوة غير جادّة، رغم خطورة المواضيع المطروحة، فبادرت بالاتصال بالأخ معمّر وقلت له: “أريد أن أشارك في الندوة”، فوافق.
أعطى حضوري هذا ديناميكية للندوة، أدت إلى تغيير جذري في مسارها، وبات هناك رأيان، رأي الأخ معمّر ورأيي، وهكذا بدت الندوة أكثر جدية وحيوية، حين استند الخبراء والاقتصاديون والتقنيون إلى آرائي العلمية، وشعروا بنوع من التشجيع، وكانوا ينهون كلماتهم بالقول: “كما يقول الأخ الرائد عبد السلام جلود”. كانت المواضيع المدرجة في جدول أعمال الندوة تتضمن أربع نقاط:
1 – توزيع الثروة على الشعب.
2 – تهجير الليبيين إلى مصر والسودان وتشاد، حيث عرض الأخ معمّر فكرة أن ليبيا بإمكانياتها الاقتصادية المتدهورة وتفاقم مشكلة مصادر المياه، لا تحتمل بقاء هذا العدد الكبير من السكان، ويكفي ليبيا أن يعيش فيها مليون أو مليونان.
3 – استثمار جزء كبير من دخل النفط في هذه البلدان.
4 – حل مشكلة نقص المياه والبحث عن حلول للقيام بعمليات تحلية المياه.
في الليلة التي شاركت فيها، طلبت الكلمة من الأخ معمّر وقلت ما يلي: “بالنسبة إلى موضوع توزيع عائدات ثروة النفط على الشعب، فقد سبق لي أن أكدت أن الفكرة من الناحية المبدئية هي دعوة إلى الفقر والكسل، فضلًا عن أن ثروة النفط ليست ملكًا لهذا الجيل وحده، بل هي ملك الأجيال المقبلة ولا ينبغي أن يكون هذا الجيل أنانيًّا إلى درجة عدم التفكير في مستقبل الأجيال المقبلة. يجب علينا إطالة عمر هذه الثروة بتصدير كميات أقل ووفقًا للحاجات الضرورية ومستلزمات التنمية. كما يتعيّن علينا أن نعمل بخطى ثابتة من أجل تنويع مصادر الدخل واستغلال مصادر أخرى باستعمال أحدث التقنيات لاكتشاف المزيد من الثروات، بما فيها النفط والغاز، وتحسين عمليات الاستخراج الإضافي”. ثم قلت: “على الأقل كل برميل نقوم بتصديره يجب أن نكتشف برميلًا يعوضه”، وقلت: “إن توزيع ثروة النفط من حيث جوهر الفكرة، نقديًا، على الشعب في شكل مبالغ مالية هو أمر يخالف الروح الوطنية لأنه إهدار للثروة من دون معنى. يجب أن نوزع ثروة النفط في صورة خطط تنموية تستهدف تطوير البلاد واقتصادها ورفع مستوى الفئات الفقيرة والمحرومة من خلال مشاريع تنموية، بقروض ميسّرة، وخصوصًا الفئات التي لم تحصل على نصيبها من عائدات النفط. يجب علينا أن نتوجه نحو تطوير التعليم والمؤسسات الصحية والثقافية والرياضية والإسكان. من الناحية العملية ليست لدينا أموال يمكن توزيعها. نحن نعاني عجزًا في الميزانية، كما عجزنا عن دفع الرواتب ولم نتمكن من إدامة البنية الأساسية في قطاعَي التعليم والصحة والمرافق الأخرى، وعجزنا أيضًا عن توفير مستلزمات الإنتاج. نحن الآن نواجه أزمة اقتصادية حادة مماثلة لأزمة عام 1986 نظرًا إلى انهيار أسعار النفط”، فردّ الأخ معمّر على مداخلتي بالقول: “نوزع عليهم وكل واحد يدبر رأسه هو يدفع مصاريف التعليم والصحة”.
كان واضحًا من الردّ أن الأخ معمّر كان يريد التخلص من كل التزامات الدولة تجاه المواطنين، بحيث تتحول السلطة إلى “شرطي” للقمع. كان يريد أن يتمّ ذلك من خلال: مسرحية توزيع الثروة.
كان الأخ معمر يريد التخلص من كل التزامات الدولة تجاه المواطنين، بحيث تتحول السلطة إلى “شرطي” للقمع. كان يريد أن يتمّ ذلك من خلال: مسرحية توزيع الثروة
وحين تسنّى لي مناقشة فكرة “تهجير الليبيين إلى الدول المجاورة”، قلت للأخ معمّر أمام الجميع: “يا أخ معمّر، كيف نقول لليبيين هاجروا؟ هذا أمر غير معقول ولا يجوز قوله، الارتباط بليبيا ليس مجرد ارتباط مصالح. ليبيا وطن، هواء، ماء، شجرة، خالة، عمّة. أنا ضد هذه الفكرة. هناك نظرية الطرد والجذب وهي التي تتحكم في حركة البشر، مثلًا في السبعينيات حينما كانت هناك حركة تنمية هائلة جذبت إلى ليبيا ما بين أربعة إلى خمسة ملايين عربي، وما بين مليونين إلى ثلاثة ملايين أجنبي، لكن لمّا تراجعت برامج التنمية وتوقفت الخطط الاقتصادية والاجتماعية بسبب انهيار أسعار النفط، عاد معظم هؤلاء إلى بلدانهم. مالطا مثلًا، مواردها لا تحتمل، ولا مساحتها كذلك، أكثر من 350-400 ألف نسمة، وما زاد على ذلك يهاجر بصفة تلقائية. إذا كان هناك شخص ليبي وبصفة فردية يرغب في الهجرة والعيش خارج ليبيا، فهذا أمر ممكن وجائز. أما أن يكون هناك قرار سياسي بتهجير الليبيين بالجملة، فهذا مخالف لكل منطق وأنا ضده. أما بخصوص توجيه جزء كبير من أموال النفط للاستثمار في هذه الدول، فأنا ضد هذه الفكرة لسبب بسيط؛ أننا نحتاج إلى كل دولار لاستثماره في ليبيا، فضلًا عن أننا في حالة عجز شبه تام عن توفير مستلزمات الإنتاج وصيانة البنى التحتية أو إدامتها. أمّا مشكلة المياه، فهي ليست مشكلة ليبية، بل هي مشكلة عربية وحتى عالمية، وباستثناء مصر والعراق وسورية والسودان، فإن الزراعة في بقية بلدان الوطن العربي هي زراعة سياسية أي إنها تقوم على أسس غير اقتصادية. إذًا، المشكلة لا تكمن فقط في مشكلة المياه، بل في أسلوب الزراعة”.
ثم تحدّث الأخ معمّر ردًّا على ما قلت: “لن يهنأ لي عيش ولن يهدأ لي بال ولن تنام عيناي إلا بعد أن تنضب المياه في ليبيا”، ثم قال حرفيًّا: “احفروا ما بين كل بئر وبئر، بئرًا. استنزفوا المياه”. كان كلام الأخ معمّر صاعقًا، فنهضت وتوليت الرّد عليه وقلت: “هذا كلام غير مقبول. أنا أدعو لسياسة صارمة للتحكم في مخزون المياه، وخاصة في المنطقة الممتدّة من مصراتة حتى صبراتة، أي كامل منطقة سهل الجفارة. يجب ردم ما بين 60 و70 في المئة من الآبار في هذه المنطقة، والتوقف عن الزراعات التي تستهلك كميات كبيرة من المياه، والتركيز على الزراعة الرأسية باستخدام التقنيات، ويمكن زيادة الإنتاج الزراعي في المساحات نفسها حتى 70 في المئة”.
كانت الندوة تُبث في الإذاعتين المرئية والمسموعة، وقد استمع الليبيون إلى كل ما قلت. من المثير للاهتمام أن الأخ معمّر طرح خلال الندوة وشاركه في ذلك بعض الخبراء مسألة تحلية المياه، فعارضت هذه الفكرة، وقلت: “تحلية المياه لا تزال مكلفة الثمن، مثلًا تحلية المتر المكعب تكلّف ما بين 3 و6 دولارات، ويمكن تخفيض المساحة المزروعة إلى 35 ألف هكتار لتوفير مياه الشرب، أو جلب المياه من الأحواض في الجنوب، حيث تكلفة المتر المكعب الواحد ما بين 6 و12 قرشًا”. ثم أضفت: “إن أكثر محطات التحلية اليوم متوقفة عن العمل، نظرًا إلى أننا لم نتمكن من تشغيلها بسبب ضعف وقلة عدد الكوادر المطلوبة للتشغيل والصيانة، فكيف يمكننا أن نوافق على إقامة محطات جديدة للتحلية؟ إنني أدعو إلى تأسيس مركز أبحاث في مجال تحلية المياه، وأن يقوم بالتواصل مع مراكز أبحاث وجامعات في أميركا وكندا وأوروبا، وأن تقوم ليبيا بدعم هذه الأبحاث، وأن ترتبط جامعاتنا بها لتحقيق هذا الهدف. كما دعوت إلى تأسيس مركز أبحاث للنباتات والزراعات المقاومة للعطش”.
ولأن الندوة كانت تبث على الهواء، نقلت إذاعة بي بي سي هذا الخلاف بيني وبين الأخ معمّر، وقالت في تعليقها على النبأ: “إن العالم الثالث لم يعتد هذا النوع من الخلافات داخل القيادة الواحدة أو أن تكون هناك وجهتا نظر تعلنان بهذه الطريقة”، ثم قالت: “قد يكون هذا النوع من الخلافات أمرًا متفقًا عليه”. ونظرًا إلى خلافاتنا الشديدة، فقد قرر الأخ معمّر دعوة المؤتمرات للانعقاد من جديد، وعرض عليها ثانية “فكرة توزيع الثروة نقدًا”، وقال “كل أسرة يحق لها عشرة آلاف دولار سنويًا”. بيد أن المؤتمرات الشعبية تأثرت بآرائي ومواقفي وعارضت الفكرة مرة أخرى، وطالبت بضمان التعليم والصحة وتحسين مستواهما، ومنح القروض لأجل الاستثمارات والتنمية والسكن والبحث العلمي، وكذلك زيادة المرتبات الشهرية ومرتبات الضمان الاجتماعي ووضع الخطط والبرامج ورصد الأموال اللازمة لتحسين ظروف الفئات والمناطق الفقيرة. ولأن المؤتمرات عارضت قراره، ردّ غاضبًا: “أنا لا يمكن أن أُهزم أمام الجماهير. من الأفضل لي أن أخرج من البلاد”، فقلت له: “لا يا أخ معمّر. من يُهزم أمام الشعب فهو ينتصر في مواجهة العدو، والذي يهزم الشعب سوف يُهزم أمام العدو، وأنا لا أوافقك على ما تقول، فحينما يكون الشعب واعيًا ويتخلص من الخوف سوف يرفض القرارات الخاطئة من حيث المبدأ، ثم إنّنا من الناحية العملية لا نملك ما يكفي من المال لتوزيعه على الشعب”. وأردفت قائلًا: “يا أخ معمّر الحكام العرب انتصروا على شعوبهم فانهزموا أمام العدو لأنهم لم يحاربوا بواسطة الشعب؛ وفي أفضل الظروف حاربوا بشعوب مهزومة من الداخل”.
في اليوم التالي، سارعت إلى عقد اجتماع ضمّ أمانة مؤتمر الشعب العام، وأمين اللجنة الشعبية العامة أبو زيد دوردة، وجاد الله عزوز الطلحي، وعبد الله البدري أمين النفط، وعبد الحفيظ الزليطني محافظ المصرف المركزي، وأمين الخزانة سالم محمد بيت المال، وطرحت عليهم فكرة الأخ معمّر بخصوص توزيع الثروة، فقال محافظ المصرف المركزي: “ماذا توزعون؟ هل توزعون 18 دينارًا على كل أسرة؟ ليس لدينا مال يكفي”، فردّ عليه الأخ جاد الله عزوز الطلحي قائلًا: “سلمك أنت، لماذا إذًا تكذب على الأخ معمّر وتقول له أنه يستطيع أن يوزع ثروة النفط على الليبيين بمعدل عشرة آلاف دولار لكل أسرة؟”. فور انتهاء الاجتماع، عدنا إلى لقاء الأخ معمّر وعقدنا معه اجتماعًا مطولًا لإعادة دراسة الفكرة، وكان الجميع يتفقون معي في الرأي، لكنهم جميعًا كانوا يخشون المجاهرة بالحقيقة باستثناء الأخوين أبو زيد دوردة وجاد الله عزوز الطلحي.
وهكذا، طرح محافظ المصرف المركزي اقتراحًا جديدًا يقضي بأن يتم توزيع الثروة على الفقراء والذين يتقاضون مرتبات الضمان الاجتماعي فقط، وكان ذلك اقتراحًا مليئًا بالرياء والنفاق، ومكرّسًا لإيجاد مخرج للأخ معمّر، وربما لتوريطه أكثر؛ فعبّرت عن غضبي وسخطي العارم على هذا الاقتراح المرائي، وقلت للأخ معمّر: “كيف تسمح لهذا المنافق أن يستمر في دجله؟” ثم غادرت الاجتماع من دون استئذان؛ ولذلك شعر الأخ معمّر بغضب شديد من مغادرتي الاجتماع. وبعد عودتنا إلى مقر الإقامة ليلًا، استرحنا قليلًا، ثم طلبت اللقاء به، فأرسلت النقيب عبد السلام الزادمة حاملًا له رغبتي باللقاء به الليلة وقلت: “إذا لم نلتق الليلة سأعود حالًا إلى طرابلس”. ونظرًا إلى أن الأخ معمّر كان منشغلًا بسهراته، فقد اقترح أن نلتقي في الغد. ولمّا علم أنّ قراري هو العودة إلى طرابلس الليلة، أمر بإغلاق باب السور، فبعثت له عبد السلام الزادمة مرة أخرى، وقلت: “إذا لم تفتح باب السور فسوف أقفز من [فوق]السور”. عندها أمر بفتح الباب، وطلب من عبد السلام الزادمة أن يقود السيارة بي عائدين إلى طرابلس.
لقد تأكدت تمامًا من أن الأخ معمّر غير مستعد – ولم يكن جادًّا بطبيعة الحال – لأي عملية تغيير حقيقية، وأنه يتجه نحو تحويل ليبيا إلى “إقطاعية” سياسية، وأنه لا قيمة للإنسان الليبي في نظره، فلا أهمية لحالته أو مشاعره، وأنّ هذا الإنسان له وظيفة واحدة هي “التطبيل” وممارسة “الرياء” العلني بكيل المديح لشخص “القائد” وترديد قول: “كل شيء على ما يرام”. كان الأخ معمّر يتصرّف مع الشعب الليبي كسلطان من القرون الوسطى: الجميع يجب أن يسبّحوا بحمده ويكيلوا له المديح. في هذا السياق، سأروي بعض الوقائع الشخصية المهمة جدًّا والتي توضّح عمق الخلاف بيننا:
في منتصف الثمانينيات، طلب مني الأخ معمّر يد كريمتي الكبيرة لابنه سيف الإسلام. ولأننا من عقليتين مختلفتين، وحفاظًا على مشاعر الأخوّة بيننا، فقد رفضت المصاهرة بطريقة لبقة، حين طلبت من صلاح ابن أخي عمر، وكانت له علاقة شخصية بسيف الإسلام، أن يقول له إنه “خطيب ابنة عمه عبد السلام جلود”. ولأنني لا أؤمن بزواج الأقارب، فقد تزوج صلاح بابنة أخي جلود، ولما علم الأخ معمّر، اتصل بي وقال: “صلاح لم يتزوج ابنتك؟”، فقلت له: “يا أخ معمّر. لقد حاولت أن أرفض المصاهرة بطريقة لا تجرح مشاعرك. ولكنني الآن أقول لك بصراحة لا أرغب في هذه المصاهرة”.
قلت للقذافي: “يا أخ معمّر. لقد حاولت أن أرفض المصاهرة بطريقة لا تجرح مشاعرك. ولكنني الآن أقول لك بصراحة لا أرغب في هذه المصاهرة”.
ثم تكرّر الأمر ذاته في التسعينيات، حين طلبت عائلة القذافي يد ابنتي الثانية لابنه الساعدي. جاءت السيدة صفية زوجة القذافي بنفسها ومعها بعض الأقارب إلى منزلي في مصيف عين الزرقاء، وكان معي الأخ راسم بن عثمان والدكتور يوسف المريمي، وهما عديلان لي، فاستأذنت منهما وتركتهما في الصالة ودخلت المنزل لاستقبل السيدة صفية. قالت لي: “جئنا نخطب ابنتك لابننا الساعدي”، فقلت لها: “لا أعرف لماذا كل هذا الإصرار على مصاهرتي، أنتم تعرفون أنني لا أريد هذه المصاهرة. أرجوك يا سيدة صفية، لا تحاولي معي مرة أخرى”.
ما إن عدت إلى الصالة بعد أن غادرت السيدة صفية، حتى سألني عديلي راسم بن عثمان: “ماذا كان جوابك؟”، فقلت: “بالطبع رفضت”، فنهض راسم ووضع أصبعه في أذنه وصاح بأعلى صوته: “الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر على منْ طغى وتجبّر”.
عندما بدأ معمّر بتهيئة ابنه سيف خليفةً أولَ له، وأخذ يقدمه لليبيين والعالم، والقذافي واقع تحت وهم أنه يملك الذكاء والدهاء ليخدع الجميع، وتحديدًا الولايات المتحدة الأميركية والغرب، صار يطلق “بالونات الاختبار”؛ فكان يقرر إصدار تصريحات على لسان ابنه سيف ليعرف كيف تفكر الولايات المتحدة والغرب تجاهه، وقد كان يطلق المواقف والشعارات التي لا يعنيها ولا يؤمن بها؛ مثل ليبيا الغد، الانفتاح، وهكذا.
وفي الوقت نفسه كان يغلق إقطاعيته أكثر ويدمر البلد أكثر فأكثر، وفي إحدى الفترات شعر سيف بالإحراج؛ لأن والده لم ينفذ هذه الشعارات والسياسات، فغضب وذهب إلى أوروبا وتحديدًا إلى لندن.
في إحدى الفترات شعر سيف الإسلام القذافي بالإحراج؛ لأن والده لم ينفذ الشعارات والسياسات، فغضب وذهب إلى لندن
في اليوم الأول لعيد الأضحى ذهبت إلى منزل الأخ معمّر لتقديم التهاني بمناسبة العيد. وبينما كنّا نجلس معًا، رنّ جرس الهاتف، وإذ بالمتصل سيف. وبعد أن هنأ والده بالعيد، قال له والده خذ عمك عبد السلام وهنئه بالعيد. وفعلًا فعل، ثم واصل الحديث مع والده الذي حاول إقناعه بالعودة إلى ليبيا. وقال له: “يا سيف إذا لم تعد إلى ليبيا فإن المعتصم سيأخذ مكانك”. وأنا أعرف أنّ معمّر يؤمن بسياسة “فرّق تسد” حتى النخاع، ويجيد ويتقن أساليب استخدام الواحد ضد الآخر، واستخدام جماعة ضد أخرى، واستخدام قبيلة ضد أخرى. وقد استخدم هذه السياسة وهذه الأساليب ضد أعضاء مجلس قيادة الثورة والضباط الوحدويين الأحرار، ولكن أن يستخدم هذه السياسة وهذه الأساليب مع أبنائه فقد كانت هذه مفاجأة محزنة لي.
في الحقيقة، لم يكن الأخ معمّر مهتمًا بالثورة أو الشعب الليبي. همّه الوحيد كيف يخرج سالمًا هو ونظامه من أزمة “لوكربي”، لأنه اعتبر أنها أكبر تهديد لحكمه. كان معمّر يخطط لحكم ليبيا مدى الحياة ومن بعده أولاده، وبدا مستعدًا لأن يعطي ويتنازل عن كل شيء، لكن من المؤكد أنه قبل أزمة “لوكربي” نجح في “رشوة” الكثير من القيادات الحزبية والسياسية والبرلمانية في أوروبا الغربية، لتسكت على جرائمه، بل إنه تمكن من ضمان “سكوت” منظمات حقوق الإنسان في العالم، وكذلك منظمة العفو الدولية. والسؤال المحيّر الذي كان يواجهني أن هذه المنظمات كانت تقيم الدنيا ولا تقعدها؛ إذا ما اعتقل أو أُعدم مناضل في مصر أو تونس أو العراق مثلًا، بينما ظل الصمت مطبقًا على جرائم القذافي. وأذكر، على سبيل المثال، أن أحد أصدقائي، اسمه يوسف المريمي، وهو دكتور متميز في الهندسة المدنية درس الماجستير والدكتوراه في الولايات المتحدة، ثم قرر العمل والعيش فيها، لكنني نجحت في إقناعه بالعودة إلى ليبيا، كما فعلت مع الكثير من الكوادر، ثم أصبح صهرًا لي. اتصل في إحدى الليالي من عام 1989، في الساعة العاشرة مساءً، وسألني: “هل أنت في المنزل. أريد أن ألتقي بك؟”، فقلت له: “مرحبا بك”. وبالفعل، جاء يوسف إلى منزلي وهو في حالة غضب شديد، وسألني: “هل شاهدت نشرة أخبار الساعة التاسعة والنصف؟”، فقلت: “لا”، قال لي وهو يشتم الولايات المتحدة والنظام الأميركي: “هل يخطر في ذهنك في أي لحظة أن نواب من الكونغرس الأميركي، أي نواب أكبر دولة في العالم، ينحنون أمام معمّر ويقبّلون رأسه؟”، وكان يوسف يشير بذلك إلى وفد من الكونغرس استقبله الأخ معمّر. ثم قال لي ساخرًا: “من المؤكد أن معمّر أعطاهم رشوة، ربما 4 إلى 5 ملايين دولار”. وأنا أرجح أن ضعف المعارضة في الداخل، وضعف منظمات حقوق الإنسان في ليبيا، قد ساهما في عدم تزويد المنظمات الدولية بمعطيات دقيقة عن جرائم القذافي.
وأذكر أنني في خريف عام 1994 ذهبت لزيارة صديق عزيز عليّ هو العقيد في البحرية أنور العزابي، كان قد دعاني إلى العشاء مع مجموعة من الأصدقاء، وكان يسكن في حي قرقارش في فيلا جميلة.
لم يكن الأخ معمّر مهتمًا بالثورة أو الشعب الليبي. همّه الوحيد كيف يخرج سالمًا هو ونظامه من أزمة “لوكربي”، لأنه اعتبر أنها أكبر تهديد لحكمه
وحدث أنني التقيت في بيت العزابي الرسام الليبي العالمي الكبير محمد علي سيالة، وكان هذا أول لقاء لي به. كان سيالة قد درس الرسم في فلورنسا بإيطاليا، واشتهر برسم جسد المرأة، ثم أصبح من كبار رسامي الطوابع البريدية، وحصل على العديد من الميداليات الذهبية في العالم. خلال السهرة تحدث معي، وكان غاضبًا من الوضع الذي وصلت إليه البلاد. قال: “هذه البلاد لا أستطيع العيش فيها، سوف أهاجر إلى أوروبا”، فقلت له: “وكيف تهاجر يا محمد وأنت ثروة ليبيا. أنت أهم من ثروة النفط”، فردّ قائلًا: “لقد سحرني كلامك وإكرامًا لك سأبقى في ليبيا”. وحين ساءت الأوضاع أكثر فأكثر، كان سيالة حينما يلتقي بي، يقول لي: “لماذا قلت لي أنت أهم من ثروة النفط؟ الآن أنا نادم لأنني أصغيت إلى نصيحتك بالبقاء في البلاد”. كان سيالة قبل عودته إلى ليبيا، يعيش متنقلًا بين بريطانيا والسويد وفنلندا. في لندن تزوج بامرأة أرستقراطية وأنجب منها ولدين ثم افترقا، لكنه ظل على علاقة ود وصداقة مع أسرتها حتى إنه دعا والدة طليقته إلى زيارته في طرابلس، وهذه المرأة كانت تجيد قراءة “الطالع”. ذات يوم من خريف هذا العام، كنت أتناول العشاء في منزله وكان معي يوسف الدبري وأنور العزابي. بعد العشاء، طلب منها أن تقرأ لنا الطالع بواسطة “ورق الكوتشينة”، وسألها: “متى تزول هذه المصيبة (يقصد القذافي) عنّا؟”. رمت الورق على الطاولة وحركته، ثم قالت لنا: “لا تزال أسهم القذافي في تصاعد، ولم يحن بعد موعد سقوطه”، فانزعج سيالة من نبوءتها، وقال لها: “فال الله ولا فالك”. وأذكر أنه كان في إسبانيا، حينما تعرض لوعكة صحية، فاتصل به صديق مشترك ليطمئن عليه فقال له: “لا تخف لن أموت قبل أن أرى القذافي يموت”. وبالفعل، لا يزال سيالة حيًّا يرزق رغم كبر سنه.
في عام 2001، تعرضت لوعكة صحية دخلت على إثرها المستشفى، ثم طلب الأطباء أن أقضي فترة نقاهة في جبال الألب الجميلة في القسم السويسري، حيث تعلمت رياضة التزحلق على الجليد. غادرت على وجه السرعة، وتوجهت مباشرة من المطار إلى مستشفى “لا تور”، وبدأ الأطباء في عمليات الفحص والكشف، وإثر ذلك خضعت للعلاج، ثم طلبوا مني قضاء فترة نقاهة في جبال الألب الجميلة، القسم السويسري، لكنني قبل ذهابي للنقاهة، أمضيت عشرة أيام في جنيف. حجزت لي السفارة جناحًا كبيرًا في فندق “إنتركونتننتال”. بعد أربعة أيام، سألت السفير الليبي في جنيف: “كم يكلف هذا الجناح في الليلة الواحدة؟” فقال لي: “يكلف 22 ألف فرنك سويسري”؛ فانزعجت وطلبت أن يستبدل الجناح بغرفة تكلف 950 فرنكًا سويسريًا”. جاءني أعضاء السفارة وقالوا لي: “أنت أحق مَن يسكن في هذا الجناح. أموال النفط لا يستفيد منها الشعب الليبي، بل يصرفها القذافي على نفسه وأولاده وعلى الأفارقة”. لكنني بقيت مصرًّا على البقاء في الغرفة بدلًا من الجناح.
بعد شهر من النقاهة، سافرت إلى باريس، التي لم أزرها منذ مدة طويلة، فاتصلت سفارتنا في سويسرا بسفارتنا في فرنسا، وأعلموهم أنني سأصل باريس. كان الشخص المسؤول عن الضيافة في سفارتنا بباريس يدعى محمد بعيّو، وهو من مدينة مصراتة. اتصل بعيّو بشركة أمنية فرنسية يملكها أوليفر أنطونيو ليتولى تأمين حمايتي وحراستي، ثم طلب منه أن يذهب بنفسه إلى المطار، وقال له: “أرجوك أن تذهب لاستقبال حبيبنا وبطلنا”. كانت السفارة قد حجزت لي جناحًا كبيرًا في فندق “البريستول” فتوجهت إليه، بينما ظل أنطونيو في انتظار حقائبي. في المساء سألني السيد أنطونيو: “أين تريد أن تتناول طعام العشاء هذه الليلة؟”، فقلت له: “أنا متعب وأفضل تناول العشاء في الفندق”، فحجز لنا طاولتين في المطعم، واحدة لي، والأخرى له ولأعضاء فريق الحراسة. نزلت من الطابق الخامس واتجهت إلى الطابق الأرضي، وجدته ينتظرني أمام باب المطعم، ورافقني إلى طاولة العشاء، ثم قال لي: “أنا وبقية فريق الحماية سنتناول طعامنا في الطاولة الثانية”، فرفضت وقلت له: “تعال وتناول العشاء معي”. فبدت على وجهه علامات الدهشة، وقال لي: “لقد عملت في حماية الملوك والرؤساء والشخصيات المهمة ونجوم الفن وعلى رأسهم مايكل جاكسون، ولم يحدث أن دعاني أحد منهم لتناول العشاء معه. حين طلب مني السيد بعيّو استقبالك في المطار، ترددت كثيرًا قبل أن أوافق، لأنني لا أذهب بنفسي عادة لاستقبال أحد. والآن بدعوتك الكريمة فقد امتلكتني. وأريد أن أكون صديقًا لك وأكون إلى جوارك حينما تكون في أوروبا من دون أي أجر”.
وكما فعلت في سويسرا، فقد طلبت من السفارة استبدال الجناح بغرفة واحدة تكلفتها ألف يورو، بدلًا من 11 ألف يورو للجناح. وسمعت على لسان أعضاء سفارتنا في باريس وبالخصوص من بعيّو، الكلام نفسه الذي قاله لي أعضاء سفارتنا في سويسرا: “أنت أحق من يسكن في هذا الجناح”. كان بعيّو مريضًا بالسرطان، وكان يقول لي: “أتمنى ألَّا أموت قبل أن أرى القذافي يسقط ويُعدم”، لكن المرض لم يمهله ليرى مصير القذافي.
بقيت أتلقى العلاج في سويسرا فترة طويلة، ثم كنت أبقى في أوروبا نحو ثلاثة أو أربعة أشهر كل عام. في عام 2002 سافرت إلى لندن. كانت السفارة متعاقدة مع أخ فلسطيني يملك شركة لتأجير السيارات الفارهة. حينما استقبلني في المطار، قال لي: “لقد كونت ثروتي في ليبيا، وأنا أحب ليبيا والليبيين، وأنا مستعد لخدمتك وخدمة الليبيين من دون أجر”. خلال وجودي في لندن، تعرفت على مجموعة من الإخوة العرب، قالوا لي: “يا أخ عبد السلام، نحن نعرف الكثير من الليبيين ممن هم في المعارضة، ولم يذهبوا إلى ليبيا منذ أكثر من 30 عامًا. وهم يقولون لنا: أولاد عبد السلام جلود هم الوحيدون الذين يمشون في الشارع ولا يعرفهم أحد”.
وأذكر أنني حين كنت أتلقى العلاج في سويسرا عام 2005، أقمت بعد خروجي من المستشفى في فندق “لاريزيرف” بجنيف. وذات يوم كنت مستلقيًا على سرير شمسي مع مجموعة من نزلاء الفندق حول المسبح، وحينما نهضت وجلست على السرير، جاءني رجل كان يستلقي قربي، وبعد أن حياني قدم نفسه لي قائلًا: “أنا عقيد في المخابرات الأميركية وجئت أحمل لك رسالة. نحن في أميركا نعرف شعبيتك عند الليبيين وخاصة في أوساط الشباب، والحكومة الأميركية ترغب في التعاون معك لتخليص الشعب الليبي وتحريره من حكم القذافي”، ثم أعطاني “كارت” بأرقام هواتفه، ثم قال: “حينما تقرر اتصل بي. سأرتب لك لقاء مع وفد رفيع المستوى من الخارجية والبنتاغون”، فرميت “الكارت” في وجهه وقلت: “أنا قائد لا أتعامل مع السي آي أي”.
كان الأخ معمّر يتصرّف مع الشعب الليبي كسلطان من القرون الوسطى: الجميع يجب أن يسبّحوا بحمده ويكيلوا له المديح
في هذا السياق، أذكر أن ابني كان في عام 1997 يدرس في جامعة الفاتح في طرابلس. وذات يوم، بينما كان يغادر الجامعة وهو يقود سيارته، وجد أمامه أحد الطلبة وهو يتوقف بسيارته في منتصف الشارع ليتحدث مع زملاء له كانوا يقفون على الرصيف، فأطلق منبه السيارة ليفسح له الطريق، فما كان من هذا الطالب إلا أن نزل من سيارته وضرب ابني بلكمة على عينه، فانتفخت وتورمت. لما وصل ابني إلى المنزل سألته: “ماذا حصل لعينك؟” فسرد عليّ الحادث، ثم قال لي:
“يا أبي لا تهتم. هذا أمر يحدث كثيرًا بين الطلبة، وهو لا يعرفني مَن أكون”. بعد نحو ثلاثة أو أربعة أيام، اتصل بي مسؤول الحراسة في المنزل، وقال لي: “حضرت أسرة مؤلفة من أب وأم وأربعة أبناء يريدون مقابلتك”، فقلت له: “دعهم يدخلوا”. حينما استقبلتهم، قال لي الأب: “منذ أربعة أيام حين اعتدى ابننا على ابنك عشنا حالة رعب وخوف، وكنّا ننتظر ما نتوقعه من تنكيل وعذاب، لكن لم يداهم منزلنا أحد ولم يجر اعتقالنا. قلنا نحن لسنا في ليبيا، لو أن ابننا اعتدى على ابن أحد الضباط الأحرار أو المسؤولين الآخرين، لكان مصيرنا التعذيب والسجن وحتى القتل”، فقلت لهم: “أنتم لستم في ليبيا. أنتم في جزيرة عبد السلام جلود”، فغادروا المنزل وهم يبكون من شدة الفرح.
في عام 2008، كان هنيبعل ابن القذافي في سويسرا، وكان يسكن في فندق “لاريزيرف” في جنيف هو وزوجته. وفي إحدى الليالي، اعتدى هنيبعل على زوجته بضربها. ولما سمع مسؤولو الفندق الصراخ، اتصلوا بالشرطة التي جاءت على الفور، وألقت القبض عليه، ثم احتجزته في مركز الشرطة لمدة
48 ساعة. اعتبر القذافي هذا التصرف ضد نجله إهانة له، وحاول تصوير ذلك على أنه “عدوان سويسرا المسيحية والصليبية على ليبيا وإهانة الشعب الليبي”، وأعلن الحرب على سويسرا، ونسي أن القانون في الدول الغربية الديمقراطية هو مظلة يستظل تحتها كل إنسان من المواطن إلى الرئيس، خاصة في سويسرا التي هي قمة الديمقراطية. وإثر هذا التصعيد الخطير، شعرت بالحرج من السفر إلى سويسرا لاستكمال علاجي، واخترت المستشفى الأميركي في باريس بديلًا. في عام 2009، سافرت إلى فرنسا للعلاج، وكنت أركب طائرة الخطوط الأفريقية. قبل نحو أسبوع أو عشرة أيام من مغادرتي، اتصلت هاتفيًّا بالأخ محمد البصير مسؤول حراستي. سألته: “أين أنت؟”، قال لي: “أنا في القيادة بباب العزيزية”، فقلت: “ماذا تفعل هناك؟”، قال: “اتصل بي أحمد رمضان وطلب مني الحضور لمقابلته وأعطاني فواتير بمصاريفك في أوروبا خلال سنوات العلاج الثمانية وقال لي إن القائد يريد أن يطلع عبد السلام على الفواتير”، فاستشطت غضبًا وقلت له: “أعد الفواتير لأحمد رمضان”، ثم اتصلت بمعمّر وقلت له: “أتريد أن تحاسبني. حاسب نفسك وأولادك. وأنا أحاسب نفسي لأني أخاف الله وضميري. أنا أقيم في غرفة في فندق ومعي مجموعة حراستي ومصاريفي هي السكن والطعام والمصاريف اليومية العادية، ويمكنك التأكد من ذلك عبر السفراء”.
قبل هذا الوقت، كان القذافي قد قرر تخفيض مرتبات السفراء والدبلوماسيين والموظفين في السفارات، حتى إنهم كانوا يعانون صعوبة الحياة، إلى حدّ أن الدبلوماسيين الليبيين كانوا يتلقون مرتبات أقل من دبلوماسيي أي دولة أفريقية فقيرة؛ وهكذا، وبسبب هذا القرار الجائر، بدأ بعض موظفي السفارات الليبية في استغلال الوفود الرسمية والمرضى من خلال زيادة قيمة الفواتير لقاء نسبة محددة. حينما قررت الذهاب إلى فرنسا للعلاج طلبت من البصير أن يشتري لي تذاكر السفر على حسابي. ويوم سفري إلى باريس في الساعة التاسعة والنصف صباحًا، وبينما كنت في طريقي إلى المطار، وكان البصير يقود سيارتي، رن هاتفه النقال، وكان المتحدث مصطفى الخروبي، فقال له: “أريد أن أتحدث مع عبد السلام”. قال لي الخروبي: “كيف تسافر يا عبد السلام، وأنت أمس لطمت القائد على وجهه، في إشارة منه إلى أنني أعدت له الفواتير”، ثم قال: “القلوب ليست على بعضها بين معمّر وبينك”، فقلت له يا مصطفى: “أنا أشعر بالأسى لحالك. أنت مغرم بلعب دور المراسل. أقول لك ولمعمّر من خلالك، إذا وصلت إلى المطار ولم أتمكن من المغادرة؛ فإنني لن أعود إلى منزلي، بل سأذهب إلى السجن”.
لمّا وصلت المطار اتجه السائق مباشرة إلى المدرج. قال لي الطيّارون: “الركاب لم يصلوا بعد. نقترح ألَّا تظل في سيارتك. انتظر في الطائرة وتناول الشاي والقهوة”. كان من الواضح أن معمّر أمر ببقاء الركاب في صالة المطار حتى يبت في الأمر. بعد برهة من الوقت اتصل الخروبي بمحمد البصير، وقال له: “يقول لكم القائد. زينة، توكلوا على الله (أي سافروا)”. عند عودتي إلى طرابلس بعد أشهر، طلبت لقاء معمّر، وذهبت إليه في خيمته بباب العزيزية، وكان معه مجموعة من أقاربه. قلت له: “أنا أعطيت طفولتي وشبابي لليبيا والشعب الليبي. كنت رئيس تحرير جريدة الشمس يوم كنّا طلبة ولست أنت. وأنا الذي كنت أعلق على مسرحية فولتير وهو يزدري الملكية ولست أنت. أتريد أن تحاسبني؟ أنا من يحاسب نفسي لأني أخاف الله وضميري”. ثم أضفت: “أريد منك أن تتصل بأحمد رمضان وتعطيه التعليمات بأن مصاريف عبد السلام وأسرته في الداخل والخارج تتكفل بها القيادة، ولا حاجة لأخذ الإذن مني”. وقد فعل ذلك.
_______________