بقلم الشهيد أحمد ابراهيم احواس
تختلف وجهات نظر الِلّيبيّين عند التطرق للحديث عَن مُسْتقبل بلادنا الحبيبة ليبَيا بعْد إسقاط فوضى القذّافي باختلاف التجربة الشخصيّة، واختلاف الدّور، واختلاف الموقع والمسئوليّة، والاهتمام لكل متهم. وإذا حاولنا أن نحدد هذه الرؤى فيمكن تقسيمها إِلى اتجاهات ثلاث:
* أحداها يمثل النظرة المتفائلة، وهي التي تعطي أهميّة كبيرة لرصيد تجربة الشّعب الِلّيبيّ مِن خلال مُمارسات القذّافي المنحرفة عبر سنوات حكمه المُنهار، ومَا تخللها مِن ظلم، وفساد، وطغيان، وهَذا الاتجاه يعتبر كلَّ ذلك محنة ولكل محنة نتائج إيجابيّة.
* الاتجاه الآخر يمثل النظرة المتشائمة، وهي التي تستند فِي رأيها هَذا على واقع المنطقة الآني بصفةِ عامّة، وعلى واقع الشّعب الِلّيبيّ فِي ظروفه الحاليّة بصفةِ خاصّة.
* الاتجاه الثالث فيمثل النظرة السطحيّة الاستسلاميّة التي تنتظر زمن المعجزات، وتردد فِي يأس (المُسْتقبل بيد الله)، غير آخذة فِي الاعتبار سنن الله سبحانه وتعالى فِي هَذا الكون.
إنَّ التحليل المنطقي لما يمكن أن يكون عليه مُسْتقبل بلادنا الحبيبة لابُدَّ أن يأخذ فِي الاعتبار وجهات النظر هذه، ولكنها يجب أن تؤخذ فِي إطارها الصحيح، والتفاؤل والتشاؤم أمران يقومان على معطيات نسبية يختلف تقديرها مِن شخص لآخر، أمّا النظرة السطحيّة فليس لها فِي التحليل الموضوعي مكان يذكر.
مِن هذه المُقدّمة الضروريّة أحاول تسليط الضّوء على الدّور الّذِي يجب أن يقوم به أهمّ العوامل الرّئيسيّة المؤثرة على مُسْتقبل بلادنا، وهُو الشّعب الِلّيبيّ لنعي هَذا الدّور ونحدد دورنا فيه…
نعم إنَّ المُسْتقبل بيد الله وإرادته نافذة، وأمره صائر، ولا راد لقضائه، فقدرته سبحانه وتعالى مطلقة، ومشيئته غير محدودة، وحكمته بالغة، ولله سبحانه وتعالى سنن فِي هَذا الكون، ونواميس فِي هذه الحيَاة، فمن سنن الله الجارية:
الأخذ بالأسباب، فإذا لم نساهم بفاعلية فِي صنع مُسْتقبلنا مِن خلال حاضرنا نكون قد تخلينا عَن دورنا الخيّر، وهُو لا يعني إلاّ الاستسلام لأية قوَّة مِن قوى الشّر والتسلط والطغيان والظلم، كمَا هُو حادث الآن على أرض الواقع. وَمِن سنن الله الجارية:
الصّراع الأزلي بين قوى الخير وقوى الشّر.. وفِي ليبَيا إمّا أن تتغلب القوى الخيّرة والمتمثلة فِي عموم شعبنا الطيب الصّابر بكلِّ خصائصه الإيمانيّة، وقيمه، وتاريخه، وحضارته، وإمّا أن تتسلط قوى أخرى دخيلة على أمتنا ببرامجها، وممارساتها، غريبة عَن مجتمعنا بأهدافها ومراميها، كمَا هُو واقع الوضع الحالي الممقوت.
إنَّ الِلّيبيّين هم مِن أهمّ العوامل المؤثرة فِي صنع مُسْتقبل ليبَيا، وإذا كانت مرحلة النَّضال بطبيعتها لا يساهم فيها إلاّ البعض، فإن مساهمة الكل فِي صنع المُسْتقبل واجب وحق، وهذا مَا دعى الجبهة الوطنيّة لإنقاذ ليبَيا، إِلى التأكيد على هّذا الدّور مِن قبل كلّ الشّعب الِلّيبيّ فِي تحديد معالم مُسْتقبل ليبَيا بعْد إسقاط القذّافي، وحتَّى لا تتكرر المأساة..
مأساة غياب الشّعب عَن ممارسة دوره الإيجابي، ومأساة تسلط طغمة فاسدة على مقاليد الأمور أعطت لنفسها حق الحكم المطلق بأهوائها المنحرفة، وسمحت لنفسها بالوصايّة الجائرة على الشّعب لتدمره باسمه، وتحقق لها ذلك إِلى حدٍ كبير.
وحيث إنَّ الِلّيبيّين هم العامل الرئيسي المؤثر فِي صنع مُسْتقبل ليبَيا، فإن دورهم قائم ومستمر لا ينتهي عند نقطة معينة، فإذا تمكنت مجموعة مِن إحداث التغيير، وإسقاط حكم القذّافي – وهُو قريب بإذن الله – فليس لهذه المجموعة أن تتولى السّلطة نيابة عن الشّعب، وليس لها أن تختار إلاّ مَا يختاره الشّعب، إذ الأمّة مصدر السّلطات، أمّا إذا حاولت تلك المجموعة أو غيرها أن تحيد عّن هذا المبدأ فمن حق الشّعب الِلّيبيّ، بل مِن واجبه أن يقف فِي وجهها، ويسترد حقه فِي اختيار أسلوب الحيَاة الّذِي يحقق له الكرامة والعزة، والاستقرار وبكلِّ الوسائل.
ولا يقف دور الشّعب عند هّذا الحد بل يتعداه إِلى المراقبة، والمتابعة، والمحاسبة، فقد ترضخ السّلطة فِي فترة ما لضغوط، وقد تلبي مطالب بشكل مؤقت، بل قد ترفع شعارات براقة تدغدغ بها مشاعر النَّاس، وتكسب بها ثقتهم إِلى حين، ثمّ تتبرم، وقد تتنكر لتلك الشعارات بمجرَّد أن تتوطد اقدامها فِي السّلطة، ويستتب لها الأمر فِي الحكم.
ففي تجربة الشّعب الِلّيبيّ مع الطاغية القذّافي لعبرة إذ جاء بشعارات جوفاء خدع بها النَّاس، وضرب على أوتار حساسة دجلاً ونفاقاً، وظهر بصورة تخالف حقيقته البشعة حتَّى تمكن مِن السّلطة، فبدأ فِي ممارسة الشّر، والفساد، والطغيان بطريقة تدريجيّة خادعة لم ينتبه شعبنا الطيب إِلى نتائجها إلاّ بعْد فوات الأوان.
إذن لابُدَّ مِن الانتباه والوعي، فلا يلدغ المؤمن من جحر مرتين كمَا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم، وحيث أن الحق يُنتزع ولا يُوهب، فلابُدَّ للحق مِن قوَّة تحميه وتدافع عنه، وتصر على إحقاقه..
هذه المبادئ لا جدال حولها، فلا يتوقع إذن بعْد هذه التجربة المريرة التي عاشها شعبنا فِي ظلّ فوضى القذّافي، وسلطانه الجائر، وعهده الزائف أن يظل النَّاس فِي موقع المتفرجين، أو السلبيين، ولا يحق لهم أن يتوقعوا مِن أحد أن يحكمهم كمَا يحبون مَا لم يمارسوا حقهم الطبيعي فِي الرقابة عليه، ويحاسبوه محاسبة دقيقة، ويصروا على تصحيح الخطّوات أولاً بأوَّل، وبدون تجاوز.
إنَّ قيام الشّعب بواجبه بقوَّة وعزم فِي وضع الأمور فِي نصابها، وتصحيح المسار بجدية ووعي هُو خير الضمانات وهُو الأسلوب الأجدى لمنع الانحراف، ولعلّ فِي الطرح المنطقي الّذِي ورد فِي البيان التأسيسي للجبهة الوطنيّة لإنقاذ ليبَيا حول البديل المنشود لعهد القذّافي المنهار مَا يعبر عَن أماني وتطلعات شعبنا الغاليّة، وهُو أن يقوم فِي بلادنا الحبيبة حكم وطني دستوري ديمقراطي يستلهم عقيدة الشّعب، وتراثه، وتاريخه.
إنَّ صفة الوطنيّ – فِي فهمي – جاءت هُنا لتأكيد إرتباط الحكم بأماني شعبنا الِلّيبيّ، وآماله، وواقعه، وليس حكماً تبعياً لأيّة جهة أخرى مهما كانت.
وصفة الدستوري جاءت لتأكيد معنى الاستقرار، والنَّظام، والأمن، وسيادة القانون، والفصل بين السّلطات، واحترام التخصصات وغير ذلك من المعاني الحضاريّة التي يجب السّعي الجاد لترسيخها.
وصفة الديمقراطي جاءت لترسيخ مفهم الحريّة وأولها حرية الاختيار، وحريّة القرار، وحق الجميع فِي ممارسة الحريّة، بحيث يكون الدستور مقراً مِن قبل الأمّة بعمومها، وبالأساليب المتعارف عليها، والتي لابُدَّ أن تقرها الأمّة بنفسها، وليس تلبية لرغبة فرد، أو جماعة مهما كان دورهم، ومهما كانت تضحياتهم.
ومَا التأكيد على استلهام عقيدة الشّعب، وتراثه، وتاريخه، إلاّ لتأكيد الانتماء إِلى خير أمّة أخرجت للنَّاس، ولتأكيد الارتباط بتاريخها الحافل المضيء، وبدورها الحضاري البناء، ولتأكيد الارتباط بالمنطقة، وتطلعاتها، وأمانيها فِي الرقي والتقدم.
أعود للحديث عَن الرؤى المختلفة التي ذكرتها فِي المُقدِّمَة، والتي اعتبرها محصلة طبيعيّة للظروف التي يمر بها شعبنا فِي ظلّ حكم الإرهاب، والتسلط القذّافي.
فالمتفائلون مِن الِلّيبيّين يعتقدون بأن رصيد تجربة الشّعب الِلّيبيّ فِي مرحلة حكم المجرم القذّافي كاف لقيام بديل ناضج، ويأتي هَذا التفاؤل مِن:
* إحسان الظن بالِلّيبيّين دون تقدير لاعتبارات ضعف التّجربة السّياسيّة الحديثة للشّعب الِلّيبيّ، وحاجته إِلى الكوادر السّياسيّة المجربة، والتي يمكن أن تقود الشّعب مباشرة إِلى مرحلة البناء…
* أيْضاَ مِن عدم التقدير الصحيح للآثار السلبيّة الناتجة عَن ممارسات القذّافي، والمراحل التي مرَّ بها مُنذ سبتمبر / أيلول 1969م حتَّى الآن، وأساليب المكر والخداع التي ابتدعها، أو اتبعها.
* ومِن عدم التقدير لما أحدثه الدجّال القذّافي مِن تخريب فِي البنية الاجتماعيّة، والثقافيّة، ومِن تدمير لأخلاق النَّاس وعلاقاتهم، بل حتَّى أذواقهم، ومِن بذر للشكوك، وعدم الثقة فضلاً عَن التردد، وعدم الحزم.
كلَّ ذلك – فِي نظري – يجعل استفادة الشّعب الِلّيبيّ مباشرة مِن تجربته المريرة أمراً صعباً وليس بالسهولة التي يتصورها بعض المتفائلين.
أمّا المتشائمون، وهم الّذِين فقدوا كلّ أمل فِي شعبنا، وفِي إمكانياته، وفِي قدراته مستندين على مَا يلاحظ مِن: * تصرفات الِلّيبيّين الّذِين ارتبطوا بطريقة، أو بأخرى بنظام القذّافي الجائر، وممارساتهم المنحرفة، فساهموا فِي مسيرة الخراب…
* المواقف السّلبيّة التي آثر كثير مِن الِلّيبيّين الركون إليها، ولم يذودوا عَن عقيدتهم، وأموالهم، وأعراضهم، التي عبث بها الدجّال القذّافي… لقد أغفل هؤلاء..
* محدودية التّجربة السّياسيّة لشعبنا الطيب، والسّياسة الماكرة التي انتهجها الطاغيّة مُنذ البدايّة لتشويه القيادات الشّعبيّة، وعزلها، وتفريغ المجتمع منها بطرق مختلفة حتَّى خلا له الميدان، وانفسح له المجال.
* وتجاهل هؤلاء أساليب الترغيب، والترهيب التي اتبعها القذّافي، والتي لم ينج منها إلاّ مَنْ رحم الله. ومع كلِّ ذلك فالصورة ليست قاتمة، بل إنّ قوى الخير كامنة فِي شعبنا، وهي قوى عريقة أصلية (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا).. وإنّ قوى الشّر غريبة دخيلة معزولة (كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ..).
وختاماً.. فإنّ مَا بين التفاؤل المفرط، والتشاؤم القانط، لنظرة واقعيّة يجدر بنا أن ننطلق منها لصنع المُسْتقبل الّذِي سيصبح يوماً ما مِن التّاريخ، ولا تصح المقارنة بين مَنْ يكتفي بقراءة التّاريخ، ومَنْ يصنع التّاريخ.. فصنع التّاريخ مهمّة جسيمة عظمى لا يضطلع بها إلاّ العاملون المخلصون، وبالمثل فلا تصح لصنع التّاريخ تلك الشّعوب الخائرة المغلوبة على أمرها، الغائبة عَن الممارسة الإيجابيّة فِي الحيَاة.
______________
المصدر: مجلة الإنقاذ