عمر الكدي
في مطلع الثمانينيات سألت أحد أقاربي وكان قد ناهز الخامسة والثمانين عاما، إن كان حضر معركة جندوبة، فأكد أنه حضرها وكان صبيا، وأن المعركة كانت قصيرة، وقال إنهم هاجموهم حتى أوصلوهم إلى قصرهم، ثم تركوهم وعادوا أدراجهم، فسألته قصر من؟
فأجاب قصر الأصابعة، فقلت له أسألك عن معركة جندوبة ضد القوات الإيطالية، فنفى أنه حضر هذه المعركة، لأنه كان لا يزال طفلا، وعندها اكتشفت أن ذاكرة الليبيين لا تحتفظ بالمعارك الكبرى مع الغزاة، وإنما بالمعارك بين القبائل، مثلما كانت تفعل القبائل العربية قبل وبعد الإسلام، وأن ما يبقى هو التاريخ الشفوي الذي يرويه كل طرف وفقا لمصالحه، فيعلي من شأن قبيلته ويحط من شأن القبائل الأخرى.
هل لدينا وثائق حول تجريدة حبيب باستثناء قصيدة حبيب العبيدي؟
وهل لدينا وثائق حول تاريخ الباندات خلال الاحتلال الإيطالي؟
وهل لدينا وثائق عن عبد الغني الككلي، باستثناء ما نقرأه على صفحات «الفيس بوك» بأنه من مواليد بنغازي، وعمل فرانا في أحد المخابز قبل أن يسجن، ويطلق سراحه خلال ثورة فبراير ليقود مليشيا بوسليم، ويصعد سلم السلطة والنفوذ حتى ينتهي جثة دون حراك؟
هذا ما واجهه المؤرخ والقنصل الفرنسي في طرابلس في أواخر القرن التاسع عشر شارل فيرو، عندما قرر كتابة كتابه «الحوليات الليبية»، ولأنه من أقطاب مدرسة الحوليات الفرنسية كان لا بد من أن يعتمد على الوثيقة، وفي كل طرابلس لم يجد إلا عائلة واحدة لديها نسخة واحدة من مخطوط جدها المؤرخ الليبي ابن غلبون.
يقول فيرو في كتابه «إن الطرابلسيين يعيشون تحت عسف أسيادهم الأتراك الجهلاء، ذوي الجشع والعسف، والذين حكموا بلدان الشمال الأفريقي زهاء ثلاثة قرون، وقد أثر تحكم الأتراك فيهم أكثر ما أثر الإنتاج الفكري والأدبي، إذ إن الأحداث المهمة الجديرة بأن تتبوأ مكانها في سجل البلاد لا تدون، وما دون منها تلاشى بانتقاله من جيل إلى جيل، دون أن يبقى في ذاكرة الخلف سوى أشتات أخبار متواترة ومتناقضة حولها هالة من نسج الخيال».
ثم يسرد محاولاته المحمومة والمستميتة للحصول على النسخة الوحيدة من كتاب محمد بن خليل بن أحمد بن عبدالرحمن بن غلبون المصراتي الذي عاش في القرن السابع عشر، والذي ينحدر من أحد بطون بني سليم، وصاحب كتاب «التذكار فيمن ملك طرابلس وما كان بها من أخبار»، الذي ترجمه التركي محمد بهيج إلى اللغة التركية عام 1864، قبل أن تنشر النسخة العربية عام 1867، وإلى اللغة الإيطالية عام 1936.
وابن غلبون نفسه يذكر أن ما دفعه لكتابة هذا الكتاب قصيدة لأحمد عبد الدائم الأنصاري للرد على ما ذكره الرحالة المغربي أبوعبد الله محمد بن محمد العبدري، الذي هجا طرابلس وسكانها، عقب خلاف نشب بينه وبين قاضيها أبي محمد عبد الله بن عبد السيد.
ولكن ابن غلبون وهو يشرح قصيدة الأنصاري، سرد تاريخ طرابلس منذ وصول عمرو بن العاص وحتى عصر ابن غلبون الذي توفي عام 1737، أي أنه منذ الفتح الإسلامي لم يتصد أحد لكتابة تاريخ البلاد إلى أن جاء ابن غلبون، فشكرا للرحالة العبدري الذي حفز ابن غلبون على كتابة كتابه بعد قرابة خمسة قرون، فقد مر العبدري بطرابلس عام 1289. يقول العبدري في هجائه «ثم وصلنا مدينة طرابلس وهي للجهل مآتم ما للعلم بها عرس. أقفرت استولى عليها عربان البر، ونصارى العجم النفاق والكفر، وتفرقت عنها الفضائل تفرق الحجيج يوم النفر»،
وفي عام 1550 مر بطرابلس حسن الوزان فوصف أهلها بأنهم «يعيشون كالبهائم، هم بعيدون عن معرفة الأسباب جاهلون بطريقة السلوك في حياة طبيعية منتظمة، فهم غدارون فتاكون متلصصون لا يراعون دينا ولا ذمة، وإذا احتاجوا إلى شيء أو طمعوا فيه ارتكبوا كل خيانة مهما عظمت وفظعت، ولا توجد بهائم تحمل قرونا كقرون هؤلاء الأنذال، يقضون حياتهم في الإضرار والصيد والقتال فيما بينهم».
ولكن هذه الكلمات القاسية لم تحفز أحدا للرد عليها كما فعل ابن غلبون والأنصاري مع العبدري، وإلا لكان الليبيون قد تحصلوا على كتاب آخر يمجد تاريخهم، والحسن الوزان ولد في الأندلس وبالتحديد في غرناطة قبل سقوطها بيد الإسبان بعدة سنوات، وهو جغرافي معروف وله كتاب «وصف أفريقيا»، ثم تحول إلى المسيحية وأطلق على نفسه اسم ليون الافريقي.
سينتظر الليبيون حتى أواخر القرن التاسع عشر، ليترك لنا المؤرخ أحمد النائب الأنصاري كتابه «المنهل العذب في تاريخ طرابلس الغرب»، أي أن الليبيين طوال تاريخهم لم يحظوا إلا بمؤرخين اثنين بينهما قرنان من الزمان، ولو عاد العبدري أو الحسن الوزان إلى طرابلس هذه الأيام، فلن يغير شيئا مما كتب، على عكس الرحالة العربي أحمد بن فضلان الذي عاش في القرن العاشر الميلادي، وكان سفيرا للخليفة العباسي المقتدر إلى ملك الصقالبة وهم بلغار الفولغا.
وترك كتاب «رسالة ابن فضلان في وصف الرحلة إلى بلاد الترك والخزر والروس والصقالبة»، حيث قابل مجموعة من تجار الفايكنغ أي سكان إسكندنافيا حاليا فيصفهم بأنهم «أقذر مخلوقات الله لا يغتسلون بعد قضاء الحاجة، ولا بعد الجماع، ولا يغسلون أيديهم بعد الأكل، إنهم مثل الحمير الضالة»، ويستمر ابن فضلان في وصف هؤلاء بأقذع العبارات، ولكن لو عاد ابن فضلان اليوم وزار دول إسكندنافيا ماذا سيقول؟
هذا هو الفرق بين الليبيين الذين لم يهتموا بالتاريخ فتجاهلهم التاريخ، وجعلهم يدورون في حلقة جهنمية مغلقة، بينما تحررت الشعوب الأخرى من جاذبية التاريخ فتطورت، لأن اهتمامهم بالتاريخ جعلهم لا يرتكبون نفس الأخطاء التي ارتكبوها، بينما الذاكرة المثقوبة لليبيين تجعلهم يكررون نفس الأخطاء.
_____________