عمر الكدي

يوجد باب واحد لطرابلس يفتح على البحر، بينما تفتح جميع باقي أبوابها على الصحراء، فقد كانت طرابلس حتى مجيء الطليان محاطة بالكثبان الرملية من جهاتها الثلاث، وفيما يخص الأبواب والأسوار تتشابه جميع مدن المتوسط سواء في الضفة الشمالية والجنوبية.

ولكنني لاحظت أن مدينة تونس العتيقة بها أكثر من باب يفتح على البحر من بينها باب يسمى باب البحر، ويبدو أن السبب هو موقع المدينة على خليج عميق يمنح لها حصانة أكثر، وتوجد تقريبا نفس الأبراج والحصون البحرية المتقدمة للدفاع عن المدينة ضد الغزاة القادمين من البحر.

ولكن لماذا تقفل جميع الأبواب ليلا؟ وكأن المدينة تحذر من سكان ريفها وباديتها بقدر حذرها من غزاة البحر.

في عام 1832 عندما ثارت القبائل على يوسف باشا وأرغموه على التنازل، اضطر سكان طرابلس إلى غلق جميع الأبواب بالحجارة ما عدا باب البحر، الذي كانت تصل منه المؤن قادمة من مصراتة، ومنه وصل الأسطول التركي عام 1835 ليساعد علي باشا الذي حل مكان أبيه، فسيطر الأتراك مرة أخرى على المدينة وحكموها بشكل مباشر.

ثمة سبب آخر وهو تورط بحارة طرابلس في القرصنة البحرية، بينما فضلت تونس التجارة البحرية بعد أن منعت القرصنة، التي تفرض على السكان ترقب وصول السفن المحملة بالبضائع والترحيب بها، بينما تميز تاريخ طرابلس منذ وصول سنان ودرغوت باشا، بالغزوات البحرية المتبادلة بين المدينة والأساطيل الأوروبية.

هل كان لبقية المدن الساحلية أبواب على البحر وأخرى على الصحراء؟

لم أجد معلومات تؤكد ذلك أو تنفيه، وخاصة المدن الصغيرة مثل مصراتة وزوارة وطبرق، وكان لبنغازي بالإضافة إلى منارة سيدي خريبيش ثلاثة أبواب فقط أحدها يفتح على البحر، ولا نعرف عدد الأبواب في درنة ولم يبق من التسميات إلا باب طبرق، وتميزت بنغازي على طرابلس بأن معظم أحيائها سميت على أولياء صالحين.

في طرابلس بالإضافة إلى الأسواق المتخصصة توجد مهن عديدة، وهذا ما يجعل نمط إنتاجها مختلفا عما حولها.

تجد المهن في قلب السوق وحوله، وهذا ما نجده في بنغازي في سوق الظلام وسوق الجريد، وفي درنة وبشكل أقل في مصراتة، ومن بعيد تسمع صوت الطرق في سوق القزدارة، وهم الذين يصنعون الأواني النحاسية ثم يغلفونها من الداخل بالقصدير، وحرفت كلمة القصدير لتصبح القزدارة، كما توجد ورش صناعة أردية الحرير على النول، ومحلات لصناعة الفرامل والكاط ملف مع ما تحتاجه من التطريز، ومحلات لصناعة غطاء الرأس الطرابلسي «الكبّوس» و«المعرقة»، ومحلات تخصصت في الصناعات الجلدية مثل لوازم الخيل.

كما توجد صناعة الفخار وخارج الأسواق توجد محلات الحدادة، بالإضافة إلى المخابز والسنفازة، وباعة الحليب والزبادي والجبن المعصور والمخللات والجزارين، وباعة البيض والدجاج «العربي»، وحتى باعة الفول والحمص المطبوخ، والفنادق التي كان يسكنها العابرون في الغرف وخيولهم في الإسطبلات، وغيرها من مهن مثل الشرطة وعمال النظافة ومفتشي البلدية.

في هذا المكان الوقت ثمين، لذلك ارتفع برج الساعة بجانب سوق القزدارة وهو ما لا نجده في المدن الأخرى، حيث وضع علي حيدر الساعاتي أول ساعة عامة للمدينة، وفي مثل هذا التجمع لا بد من ظهور مطعم يوفر الوجبات للعاملين في الأسواق وللزبائن المقيمين والزائزين، وعندما كنت في ليبيا قبل ربع قرن احتفل مطعم البرعي بمرور قرنين على افتتاحه.

من أين جاء سكان المدينة؟

جاءوا من كل مكان. من عمق الأرياف والبوادي ومن الأندلس ومن جميع أنحاء البحر المتوسط.

هل ما زالت عائلة الريس مراد القرصان الإسكتلندي مقيمة في المدينة؟

لا أدري ولكنني أعرف عائلات جاءت من مالطا ومن جزر اليونان ومن جورجيا والقوقاز وتركيا وكردستان.

ليس المهم في هذه المدينة الأصل والمفصل. المهم هو القدرة على الاندماج، وهو المقياس الذي اعتمدته الدول الغربية التي تستقبل المهاجرين واللاجئين حتى الآن، بالإضافة إلى القدرة على إذابة الفروق بين أنماط الإنتاج.

مع وصول القذافي بدأت البيوت تفقد أرقامها حتى اختفت تلك الأرقام، ثم اختفت شركة النسر للنقل العام قبل أن تختفي شركة النظافة التي أسسها رجل أعمال عصامي يدعى عكرة، واستخدم الوافدون الجدد إلى المدينة اسم عكرة في لعب الورق «الكارطة»، وأطلقوا على الخاسر الذي يوزع الورق اسم عكرة، ثم بدأ كل شيء يختفي في المدينة.

أقفلت دور السينما والمسارح والحمامات البخارية، وتناقصت مساحة الحدائق والمتنزهات، ثم حدث هجوم يشبه هجوم الجراد على الغابات التي كانت تحيط بطرابلس.

قبل ظهور النفط تولت مؤسسات الضبط والربط الإشراف على دمج الوافدين، وهما المؤسستان اللتان جمعتا لأول مرة بين الشخصيات الخمس وأنماط الإنتاج الخمسة، بالإضافة إلى الجامعة ومعاهد المعلمين وخاصة في الأقسام الداخلية في الثانويات فمثلا جمع القسم الداخلي لمدرسة غريان الثانوية كل أبناء الجبل الغربي، وتراخت هذه القبضة بعد تصدير النفط، فمثلا سكن القادمون من الجبل الغربي في حي الفلاح وطريق السواني وطريق المطار، هناك يتجاور القادمون من غريان وككلة والزنتان والرجبان ويفرن وجادو ونالوت ومزدة وغيرها.

بينما سكن في جنوب وشرق طرابلس القادمون من مصراتة وزليتن وترهونة وورفلة وغيرها في حي الهضبة الخضراء والفرناج وعين زارة،

والقادمون من غرب المدينة تجمعوا في حي قرجي والدريبي ثم الحي الإسلامي، وبسبب عدم قدرة المدينة الصغيرة على استيعاب الجميع، ظهرت أحياء أكواخ الصفيح لتطوق المدينة من جنوبها وغربها وشرقها، في حين اختار العزاب الإقامة في الدكاكين وقضاء حاجتهم في المساجد.

وهكذا تغيرت ديموغرافيا المدينة وأصبح السؤال عن الأصل والمفصل أكثر أهمية.

كانت الأبواب التاريخية قد اختفت ولم تبق إلا أسماؤها تطلق على الأحياء الجديدة ما عدا باب البحر، الذي تحول إلى باب السلام قبل أن يطلق عليه اسم باب معمر، هذا الذي قالت عنه جيهان السادات في مذكراتها، أنه مرة دعي للعشاء في بيت السادات فطبخت لهما جمبري، وعندما شاهده القذافي نظر إليه متبرما ورفض تناوله، مندهشا من أنهم يأكلون مثل هذا الطعام.

تشترك جميع هذه الشخصيات بأنماط إنتاجها المختلفة بصفة العناد، لعل ذلك يعود إلى هشاشة هذه الأنماط في بيئة متقشفة، فكل مساس بنمط الإنتاج يشكل ضررا بأسلوب المعيشة، ولهذا عندما وصل القادمون من الريف إلى المدينة اصطحبوا معهم أعدادا صغيرة من ماشيتهم، رأيتها ترعى القمامة في طريق المطار وبوسليم وطريق السواني والهضبة الخضراء، بينما لم تتعود المدينة إلا على رؤية الخيول والحمير التي تجر عربات نقل البضائع وعربات الكروسة والكاليس لنقل السكان، والتي كانت تبيت في إسطبلات مخصصة لها.

كما تتميز الشخصية الطرابلسية بالمحافظة وبالتدين المعتدل الوسطي والتسامح مع غير المتدينين، ولا تخرج المرأة الطرابلسية من بيتها إلا للضرورات وعليها أن تستأذن زوجها، بينما كانت المرأة الريفية حرة في الخروج، لأنها هي من يحضر الحطب والماء.

ونظرا لأزمة السكن في طرابلس اضطرت عدة عائلات للإقامة في بيت واحد، وكان على كل رجل يسكن في البيت أن يتنحنح ويقول بصوت عال «الطريق»، وأن يغض بصره وينظر إلى الأرض في طريقه إلى غرفة عائلته.

كما كان سكان طرابلس مهذبين في كلامهم، ولا يستخدمون كلمات بذيئة تلك الكلمات التي انتشرت بشكل واسع فيما بعد، وإن لم تخل أمثالهم من كلمات لا تقال عادة في مجمع كبير، ولكنهم يفضلون كلمات التورية مثل «نخلة الحوش أطيح بره»، وتفشت في طرابلس وفي ريفها ظاهرة الغش في الكلام بما تحمله من معانٍ جنسية.

وهذه الظاهرة متفشية أيضا في تونس، وهي ظاهرة تظهر في جميع المجتمعات المكبوتة التي تفصل بين الجنسين بغض النظر عن عرقها وأصلها، ولهذا تستخدم التورية ويتغير معنى الكلمات من جيل إلى آخر.

يتميز أهل المدينة بالكياسة فيتحاشون نعت الناس بعاهاتهم، بل يلطفونها فيتحول الأعمى إلى البصير أو كفيف، ويتحول الأعور إلى كريم العين، والمتسول إلى وهاب.

كلما ابتعدنا عن الأسوار تصبح النعوت مباشرة وتتحول إلى ألقاب، مثل الأعور وإذا تلطفوا يسمونه عوير، والفرطاس والعايب بل حتى المريض والزحاف والبكوش والأطرش والوكواك والأفطس أو فطيس.

كما تظهر الألقاب الحيوانية فجميع الحيوانات ممثلة في العائلات الليبية، من الصيد أي الأسد والصقر والضبع والذيب وبونعامة وحتى اللفع، وفي المدينة تغلب ألقاب المهن. الحداد والكواش والخضار والسنفاز والقهوجي والطهار وغيرها.

يتبارى الليبيون في تسمية مسقط رأسهم بالمدينة، بالرغم من أنها لا تزال قرى كبيرة أو بلدات، وفي تقديري حتى طرابلس لا يمكن وصفها بالمدينة، بالرغم من أن عدد سكانها تجاوز المليونين، لأن المدينة ليست فقط عددا كبيرا من الأبراج والعمارات والبيوت، وإنما هي بالأساس طبقات وعلاقات اجتماعية بين شرائح لا تجمعها قرابة الدم، وإنما تجمعها الثروة والثقافة والفنون والرياضة، على الأقل هذا ما حدث في المدن في معظم أنحاء العالم، بينما انتقل الليبيون من قراهم وبواديهم بقضهم وقضيضهم وعلاقاتهم القبلية ليسكنوا طرابلس وبنغازي وسبها.

ولكنهم يعودون بشكل منتظم إلى قراهم حيث بنوا بيوتا لتكون حصنهم الأخير، إذا أجبرتهم الأوضاع الأمنية على الخروج من المدينة، بالضبط مثلما حدث خلال انتفاضة فبراير، وهجوم قوات حفتر على المدينة وقبل ذلك في الغارة الأميركية عام 1986.

______________

مقالات