كمال بن يونس

لماذا مدينة قفصة الحدودية مع الجزائر؟

س ـ لماذا وقع الاختيار على مدينة قفصة لانطلاق العملية دون غيرها من المدن الحدوديّة التي تشترك جميعها تقريبا في البؤس والتهميش؟

 ـ  يرى بعض الباحثين أن عامل الفقر والتهميش لم يكن العامل الأهم في الاختيار وإنما لموقعها الجغرافي القريب من الحدود الجزائرية مما سهل توفير الأسلحة والقدرة على المناورة عند التسلل أو الانسحاب.

ولعب عامل الانتماء الجهوي دورا هاما لجل العناصر المشاركة في الهجوم على المدينة، وعلى رأسهمعز الدين الشريفالقائد السياسي للعملية .

هذه العوامل كان في اعتقاد عز الدين الشريفومن خطط معه، كافية لتوفير حاضنة شعبية تيسر لهم احتلال المدينة وعزلها عن نظيراتها لتكون قاعدة لثورة شعبية قومية عربية تعم البلاد كاملةوتغير نظام الحكم.

لكن فاتهم أن الشعب التونسي مهما بلغت نقمته على النظام لا يلجأ لحمل السلاح، كما يمكن له أن يتعاطف مع مجموعة مضطهدة أو تيار معارض للسلطة لكنه لا يضحي بنفسه من أجلها.

أسلحة سوفييتية

 س ـ يتردد أنه وقع التمهيد لمدة أعوام لعمليات شن الحرب الشعبيةأو تفجير الثورة الشعبية القومية لإسقاط النظامفي محافظة قفصة؟

 ـ فعلا تكشف المعطيات، أنه منذ منتصف سنة 1978، أي بعد المواجهات الدامية في يناير بين السلطات وقيادات النقابات المدعومة سياسيا من قبل النظام الليبي، اكتشفت إحدى الدوريات للجيش الوطني في الجنوب كمية من الأسلحة على الحدود التونسية الليبية مخزنة في صناديق.
وبعد التحقيق اتضح أن هذه الأسلحة سوفييتية الصنع وأنها ليست معتمدة من قبل الجيش والأمن التونسيين.

واتضح أنها أسلحة ليبية موضوعة على ذمة عصابات التهريب والإرهاب لتخزينها في المدن التونسية واستعمالها في الوقت المناسب بعد تفجير ثورة شعبية مسلحةمدعومة من قبل الإعلام الليبي والنظامين الجزائري والليبي.

وقد قررت القيادة في الجيش الوطني على إثرها تشديد الحراسة على الحدود الجنوبية وإرسال كتيبة مراقبة شهريا من بقية الأفواج داخل البلاد لتعزيز الحراسة على الحدود الجنوبية الشرقية بالتداول لمدة أسابيع معلومة.

قد يكون الهدف من هذه الكمية من الأسلحة هو جَسّ النبض من قبل الاستخبارات الليبية للتأكد من مدى جاهزية ويقظة حراسة الحدود الصحراوية قبل الشروع في تنفيذ مخططهم، وقد يكون كذلك طعما لتحويل الأنظار عن الحدود الغربية للبلاد التونسية، للتسرب من الجنوب الغربي عبر التراب الجزائري. وهو ما تم بالفعل.

دور جزائري

س ـ تؤكد مصادر عديدة أن جناحا في السلطات الجزائرية وقتها، بزعامة الشريف مساعدية القيادي في الحزب الحاكم والعقيد سليمان هوفمان ، كان طرفا في الهجوم على قفصة التونسية مع السلطات الليبية بزعامة معمر القذافي..

 ـ فعلا تاكدت المعلومات عن التسهيلاتالتي حصل عليها الكوندوس من الجزائر سواء عند تهريب الأسلحة إلى  قفصة عبر الحدودية التونسية الجزائرية، أو عند تسريب عناصر الميليشا المسلحة .

ويعلم الجميع أنه لا يمكن المرور عبر الأراضي الجزائرية دون تواطؤ من بعض أجهزة المخابرات الجزائرية في عهد الرئيس الراحل الهواري بومدين وأوائل عهد الرئيس الشاذلي بن جديد.
وكشفت الأبحاث مع القائد السياسي لكوماندوس الهجوم على قفصة عز الدين الشريفأنه كان يعرف منذ القدم قيادات جزائرية رسمية وأنه التقى في قصر الرئاسة الجزائرية الرئيس الأسبق هواري بومدين قبل تشكيل جبهته المسلحة القومية العروبية وقبل تنفيذ هجومه بسنوات .

كما أنه أقر بوجود علاقة تربطه بالسلطات الجزائرية وبجهاز مخابراتها، وهي العلاقة التي تطورت أثناء اشتغال عز الدين الشريفلصالح جبهة البوليساريو الصحراوية والنظام الجزائري.

 لكن السلطات السياسية التونسية تعمدت لأسباب سياسية وأمنية التعتيم على علاقة الكوماندوسبالجزائر واكتفت بالتشهير بنظام القذافي الذي كانت علاقاته متوتر مع الغرب ومع بورقيبة وعدة عواصم عربية .

ولعل وفاة هواري بومدين فجأة وتعيين الشاذلي بن جديد خليفة له ساهما في فشل العملية بفقدانها لجانب من السند السياسي رفيع المستوى . وقد تبرأ الشاذلي بن جديد لاحقا من العملية ونفى للمسؤولين التونسيين أن يكون طرفا فيها .

تفاصيل الثورة المسلحة الفاشلة

س ـ وماذا يمكن أن يذكر اليوم باختصار عن هذه الثورة المسلحة الشعبية ّالتي أجهضها الجيش التونسي في ظرف بضعة أيام؟

 ـ لقد تم تهريب الأسلحة والذخيرة داخل المدينة قبل أشهر من وقوع العملية ثم وصل المرتزقةفي شكل مجموعات عبر الجزائر كما أسلفنا، واستقروا في أحد أحياء المدينة في انتظار ساعة الصفر تحت إشراف عز الدين الشريفالقائد السياسي  للعملية وأحمد الميرغني قائدهاالعسكري..

بدأت الأحداث بإطلاق قذيفة بازوكا RPG  كإشارة انطلاق ليهاجموا بالتوازي مراكز الشرطة والحرس وثكنتين بالمدينة قبل أن يكدسوا الأسلحة والذخيرة في الشوارع ويوجهوا دعواتهم إلى الأهالي للانضمام إلى الثورة المسلحةوالإطاحة بالنظام البورقيبي“.

تمكن المهاجمون في صبيحة يوم 27 يناير من السيطرة على بعض أجزاء من المدينة بعد أن سقطت المراكز الأمنية وثكنة الجيش الخارجية في أيديهم التي كانت تأوي 300 من المجندين الجدد العزل من السلاح وهم تحت تأثير التطعيم الذي يستوجب راحة تامة 48 ساعة، في حين استعصت عليهم ثكنة المدينة..

وفي حدود الساعة الثامنة صباحًا حسب شهادة بعض الناجين من الجنود الرهائن، تجمع كل المهاجمين في ثكنة التدريب وساقوا كل من فيها (حوالي 300 مجند) تحت وابل من النيران من خلفهم إلى معهد ثانوي قريب حيث تم احتجازهم كرهائن في قاعة رياضية هناكوكانوا بذلك قد سهلوا من حيث لا يقصدون، مهمة قوات التدخل في التعامل مع العملية.

هذه السيطرةلم تدم طويلا بسبب عدم استجابة سكان مدينة قفصة للنداءات المتكررة لحمل السلاح وتدخل الجيش بعد ساعات. فتمركز بسرعة في المدينة وفي الثكنات بعد تفتيشها ومن ثمة تطويق المعهد أين يتمركز المهاجمون ويحتجزون الجنود.

 وبعد ساعات وقع الهجوم والاشتباك مع المهاجمين. ولم تغرب شمس يوم 27 جانفي حتى تحرر الرهائن وألقي القبض على بعض العناصر الإرهابية المهاجمة ممن كتبت لهم الحياة أثناء الهجوم.
أما البقية، فمنهم من سلم نفسه ومنهم من ألقيَ عليه القبض في الأيام التالية بعد تمشيط منطقة حي النورواحتجاز كميات كبيرة من الأسلحة والوثائق وأدوات اتصال.

مخلفات العملية

س ـ وماهي حصيلة هذه الثورة الشعبية المسلحة الفاشلةالتي قادتها ميدانيا الجبهة القومية التقدمية لتحرير تونسالمدعومة وقتها من طرابلس والجزائر؟

ـ كانت حصيلة العملية الغادرة 45 شهيدا من عسكريين وأمنيين ومدنيين (من بينهم 24 من المجندين) وجرح ما يفوق عنى المائة. حسب تقرير ختم البحث لمحكمة أمن الدولة، المنشور بجريدة العمل لسان الحزب الحاكم بتاريخ 28 مارس 1980 .

وقد أحيل الموقوفون وكل من ذكره التحقيق على محكمة أمن الدولة في العاشر من مارس وبعد أكثر من أسبوعين أصدرت حكمها بإعدام 13 نفذ فيهم جميعا يوم 17 أبريل 1980 بالسجن المدني بتونس باستثناء عنصرين من بينهم تحصنا بالفرار.. أما البقية فقد تراوحت أحكامهم بين السجن المؤبد والحكم بالسجن مع تأجيل التنفيذ والبراءة لعشرين متهما.

يتبع

_______________

مقالات