يزيد صايغ

تحدّيات الإصلاح في الدول الهشّة

المعضلات التي تواجه إصلاح قطاع الأمن والحوكمة في الدول العربية التي تمرّ في مراحل انتقالية، ليست جديدة ولا فريدة، مقارنةً مع التجارب التاريخية في جميع أنحاء العالم. إلا أن الهشاشة السياسية والمؤسّسية الملحوظة لهذه الدول غيّرت المشهد مع ذلك، وفرضت عليها تحدّيات منهجية كبيرة.

أوّلاً وقبل كل شيء، لم يتم إعادة بناء التحالفات الاجتماعية والمؤسّسية السائدة التي كانت تقوم عليها الأنظمة الاستبدادية السابقة، ولم تستبدل بتحالفات جديدة مستقرّة.

وهذا ينطبق حتى على مصر، حيث يتكّون النظام الحاكم بعد مرسي من تحالف مؤسّسات الدولة التي تعتبر قوية بصورة فردية غير أنها تفتقر إلى أساس طبقي واضح. وبالتالي، وعلى الرغم من أن النظام الجديد أكثر قمعاً من نظام مبارك، فإنه أيضاً أكثر هشاشة، ما يجعله رهينة لكل مكّوناته المؤسّسية الرئيسة. وبالمثل، أصبحت الجزائر أقرب إلى إعادة إنتاج بنية السلطة المهيمنة التي كانت موجودة بالفعل قبل الحرب الأهلية في تسعينيات القرن الماضي، ولكن لم يتم إعادة بناء العقد الاجتماعي، فيما التحالفات المؤسّسية تتآكل، والتغييرات الهيكلية اللازمة لحلّ الأزمة الاجتماعية والاقتصادية العميقة في البلاد معلّقة.

في ظل الغياب المستمرّ لتحالفات حاكمة جديدة مستقرّة، تفتّتت القطاعات الأمنية في الدول العربية التي تمرّ في مراحل انتقالية أو انهارت تماماً وفق أسس طائفية أو إثنية أو حزبية، في العراق ولبنان وليبيا والسلطة الفلسطينية واليمن. أو أنها حصلت على استقلالية رجعية وحتى مارقة، حيث باتت تخدم نفسها حصراً، بدل أن تخدم رئيساً واحداً مستبدّاً أو ائتلافاً حاكماً كما فعلت في الماضي، في الجزائر ومصر وتونس.

من الناحية النظرية، يُمكن لنهجٍ غير منحاز حزبيّاً حقاً أن يحقّق تقدّماً حقيقياً، إذا ماقاده وزراء في الحكومة مخوّلون تماماً ويتمتّعون بدعم متواصل من حكوماتهم ومن الوَحْدة العابرة للأحزاب في الهيئات التشريعية الوطنية.

ومن شأن هذا النهج أن يكون أيضاً مصحوباً بانخراط مباشر مع قطاع الأمن والمجتمع المدني، وتمكين السلطات المحلية، وإنشاء لجان وطنية وإصدار كرّاسات بيضاءأو عمليات تشاورية مماثلة.

إلا أن ذلك يتطلّب التوصّل إلى إجماع معقول بشأن النظام الاجتماعي والاقتصاد العادل الذي يفترض بضبط الأمن والفصل في المنازعات صونه والحفاظ عليه. وبدون ذلك الإجماع، فإن المساعدة الفنية والتدريب المقدم بصورة روتينية في إطار برامج إصلاح قطاع الأمن التقليدية لن يكون ذا قيمة.

ولعلّ مايزيد من تعقيد جهود الإصلاح هو الأنماط الضارّة جدّاً في سلوك قطاع الأمن التي أصبحت واضحة جداً في الدول العربية التي تمر في مراحل انتقالية، لكنها كانت واضحة بالفعل قبل فترة طويلة من الانتفاضات. كان التحزّب والعنف الروتيني وقمع النقد والمعارضة والفساد والنشاط الاقتصادي غير المشروع، ورفض الرقابة أو المراجعة من خارج قطاع الأمن جزءاً من السلوك الاعتيادي لدى الحكام المستبدّين والأنظمة السلطوية من أجل لجم المعارضة الاجتماعية وتعويض القطاعات الأمنية التي تتقاضى رواتب زهيدة.

على الرغم من ذلك، ومع تعطّل أو انهيار ترتيبات الحكم السابقة، فإن إشراك القطاعات الأمنية في أنماط السلوك نفسها لم يعد يخدم غرضاً واضحاً في صدّ المعارضة أو ترويض الفئات الاجتماعية المتململة.

بدلاً من ذلك، هناك أنماط جديدة آخذة في الظهور حيث يتناوب عاملو قطاع الأمن بين الدخول في الشبكات الاقتصادية التي تنطوي على درجة أو أخرى من اللاشرعية إلى جانب الأطراف الفاعلة غير الرسمية والمجتمعات المحلية المهمّشة التي كانوا قد قمعوها من قبل – وبين المشاركة في صراعات حزبية ضد من يُنظر إليهم باعتبارهم قطاعات اجتماعية منافسة أو نشطاء مجتمع مدني معارضين.

وبالقدر نفسه من الأهمية، فإن مايبدو أنه أنماط مختلّة للغاية في سلوك قطاع الأمن هو أيضاً وسيلة للبقاء والحفاظ على الحدّ الأدنى من الأداء وسط بيئة محفوفة بالتحدّيات الصعبة أكثر فأكثر.

وتواجه معظم الدول العربية التي تمرّ في مراحل انتقالية أزمات مالية حادة وهي غير قادرة أو غير راغبة في مباشرة العمل بإصلاحات اقتصادية وإدارية وقضائية واسعة؛ ولا التفاوض على عقود اجتماعية جديدة شاملة؛ أو تفكيك أسوأ جوانب المحسوبية الناجمة عن ليبرالية جديدة والمراكمة الجائرة للثروات؛ أو إنهاء الأنظمة الريعية القائمة على المحسوبية تماماً. في ظل هذه الظروف، يصبح الفساد في قطاع الأمن وفي أرجاء جهاز الدولة والمجتمع كافة نوعاً من الضريبة أو تكلفة تحويل تنشأ لأن الحكومات لم تعد قادرة على توفير الخدمات والاستحقاقات الأساسية.

مرّة أخرى، هذا النوع من المشاكل لا يمكن علاجه عن طريق أي توليفة مُتصوَّرة من الشفافية وقواعد الرقابة الموصى بها في الأطر التقليدية لإصلاح قطاع الأمن.

 هذه أمور مهمة وضرورية، لكنها لايمكن أن تكون فعّالة إلا إذا رأت النخب السياسية والفعاليات المؤسّسية المؤثّرة أن هناك مصلحة في تمكينها، وتلك الرؤية هي في الواقع مفتاح إصلاح قطاع الأمن عموماً. وبالتالي فإن مقاومة القطاعات الأمنية للإصلاح الجدّي، يهدّد الدول العربية التي تمرّ في مراحل انتقالية بانهيار منهجي وظهور منافسين سياسيين أكثر تطرّفاً، كما أظهر العراق وليبيا وسورية واليمن بصورة واضحة.

وفي ظل هذه الظروف، أخيراً، تشكّل إعادة بناء دول عربية فعّالة وعقود اجتماعية منصفة تحدّياً صعباً للغاية. وبالفعل، فقد ثبت أن من المستحيل إعادة بناء بُنى السلطة القمعية القوية أو التحالفات المتماسكة من النخب الليبرالية الجديدة أو سواها، حتى عندما تتم إعادة بناء النظم السلطوية.

غير أن عملية بناء الدولة تمثّل شرطاً أساسياً لإعادة تأهيل القطاعات الأمنية وإخضاعها إلى أي شكل من أشكال الرقابة الحكومية الهادفة، ناهيك عن الحوكمة الديمقراطية.

مع ذلك، وفي الوقت نفسه، فإن سلوك القطاعات الأمنية يؤثّر في محتوى ومعايير النقاشات والصراعات التي تتم من خلالها عملية بناء الدولة أو إعادة بنائها.

ولا تقلّ عن ذلك أهمية الحاجة إلى استيعاب مقدّمي الخدمات الأمنية والعدالة البديلة الذين ملأوا الكثير من الفراغ الذي تركته الدولة. وهذا يمكن أن يستلزم تطبيق اللامركزية في جوانب من توفير الأمن والعدالة.

كما يمكن أن ينطوي على إدارة أو تقنين ودمج أنماط ضبط الأمن، والفصل في المنازعات العرفية والعاملة على مستوى المجتمع المحلي في الأطر الوطنية.

سوف تتوصّل الدول العربية التي تمرّ في مراحل انتقالية إلى نتائج سياسية ومؤسّسية مختلفة في مايتعلق بقطاعاتها الأمنية.

إلا أنها تتجّه جميعاً نحو أشكال جديدة وهجينة تجمع بين ضبط الأمن والفصل في المنازعات بواسطة الهيئات الرسمية وغير الرسمية؛، وعمليات التوظيف والترقية المعتادة القائمة على المحسوبية، إلى جانب الفرص المتوفّرة أكثر فأكثر لتحقيق المداخيل النقدية غير المشروعة في الاقتصاد الخفي؛ ومزيج من أنماط السيطرة المركزية واللامركزية على وسائل واستخدامات الإكراه.

 العديد من المشاكل التي أدّت إلى هذا المنظور عصيّة على الحلّ بالفعل، مثل عدم كفاية الموارد. ولكن في جميع الحالات، يهدّد حجم التحدّي الدول العربية التي تمرّ في عملية انتقالية مطوّلة بانتكاسات متكرّرة لتعود إلى القمع والفساد الحكومي المستفحل والصراعات الأهلية.

تواجه الدول العربية التي تمر في مراحل انتقالية مهمة تبدو عصيّة على الحل: إعادة بناء مؤسّسات الدولة والعقود الاجتماعية في عصر التغيّر العالمي. ومن المؤكد أن الفشل سيكون مآل المقاربات التقليدية لإصلاح قطاع الأمن التي تعجز عن فهم المعضلات والتحدّيات التي تعرقل هذا الجهد، أو التي تختزله في علاقة مبسَّطة بين إصلاح قطاع الأمن وإرساء الديمقراطية.

***

يزيد صايغ ـ باحث رئيسي, مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط

______________

مقالات