يزيد صايغ

الديناميكيات الطبقية

شكّلت الديناميكيات المتغيّرة للتمايز الطبقي والمجتمعي أيضاً المعايير الاجتماعية والتوقعات حيال ضبط الأمن. ولقد دفعت أشكال المحسوبية في الاقتصاد الليبرالي الجديد والخصخصة الجائرة، والتراجع الموازي في الخدمات والرعاية الحكومية، هذا التطور في معظم أنحاء المنطقة.

غير أنها تفاقمت في الدول العربية المتضرّرة من الانتقال السياسي المتنازع عليه وآثار الصراع المسلّح، بما في ذلك التوسع الملحوظ في الاقتصادات المرتبطة بالجريمة والحرب.

وتبيّن تجربة الانتقال في دول مثل مصر وتونس أن المزايا الطبقية والتحيّز لاتزال تلعب دوراً كبيراً في تشكيل الممارسات والعلاقات في قطاع الأمن والمصالح الاجتماعية التي تخدمها.

كما أن السياقات الانتقالية تجعل من الضروري أكثر أن يتناول من يدعون إلى إصلاح قطاع الأمن الأسئلة التي طرحها الباحثان في الشؤون الأمنية روبن لوكهام وتوم كيرك: “أمن مَن بالضبط، وممَّن أو أي نوع من الأمن، وبأي وسيلة؟

بالنسبة إلى القطاعات الاجتماعية المهمّشة سياسياً والمحرومة على صعيد الفرص الاقتصادية وسبل الوصول إليها، قد لا يكون إصلاح قطاع الأمن موضع ترحيب عام. ربما يبدو هذا مخالفاً للمنطق، حيث تعاني هذه القطاعات على نحو غير متناظر من عمليات الابتزاز اليومية من ضباط الشرطة الفاسدين أو من سهولة لجوئهم الروتيني للعنف، أو دخولهم عنوة إلى المنازل، أو تدميرهم المساكن غير القانونية وسبل العيش.

لكن تلك القطاعات قد تستفيد أيضاً من استعداد الشرطة المحلية لغضّ الطرف عن الأنشطة غير الرسمية وحتى غير القانونية التي تساهم في بقائهم الاقتصادي. وقد ترسّخت هذه الأنماط إلى درجة أن غالبية كبيرة بين الطبقات الوسطى بقدر ماهي بين المجموعات ذات الدخل المنخفض تعتبر الفساد جزءاً من السلوك العادي في التعامل مع الدولة.

لاتزال المزايا الطبقية والتحيّز تلعب دوراً كبيراً في تشكيل الممارسات والعلاقات في قطاع الأمن والمصالح الاجتماعية التي تخدمها. بالقدر نفسه من الأهمية، أضعفت عمليات الانتقال أو أنهت أي دور رقابي اضطلعت به الشرطة، سواء من خلال تقويض الرقابة الداخلية والضمانات القضائية المحدودة أصلاً بصورة إضافية، أو من خلال توسيع الفرص المتاحة لها لتحقيق مكاسب غير مشروعة.

وقد ساهم هذا في حدوث طفرة هائلة في مجال المساكن المشيّدة بطريقة غير قانونية، وانتهاكات واسعة لأنظمة الاستخدام العقاري والتعدّي على الأراضي العامة، وانتشار الأكشاك والبسطاتفي الشوارع والشركات الصغيرة غير المرخّصة، وإحياء المطالبات بالأراضي المتنازَع عليها، أو إبطال تسويات النزاعات السابقة التي تمت في المحاكم حول حرية الوصول إلى المياه.

ربما تهدّد استعادة ضبط الأمن بصورة فعّالة هذه الأمور الواقعية والممارسات الفعلية لكن كما أظهرت استطلاعات الرأي في اليمن ولبنان، فإن غالبية في هذه الدول يريدون نظرياً حضوراً فعّالاً للشرطة.

يعكس هذا التناقض الظاهري جزئياً المستويات المختلفة لسبل الوصول إلى مقدّمي خدمات الأمن سواء الحكوميين أو الأطراف غير الحكومية، وتصورات مدى التعرّض إليها.

في لبنان، على سبيل المثال، تفاوتت الثقة في قوى الأمن الداخلي (الشرطة) على نطاق واسع بحسب المنطقة بين المسيحيين والمسلمين الشيعة في دراسة أجريت في العام 2014، غير أن المسلمين السنّة كانوا يرون أنهم مستهدفون بغضّ النظر عن موقعهم الجغرافي، مايشير إلى حالة عدم ثقة، سببها سياسي، بالدولة المركزية والأجهزة التابعة لها.

 ومع ذلك، أظهرت الدراسة نفسها تدنّي الثقة في مقدّمي الخدمات الأمنية البديلة، مثل الأحزاب السياسية والميليشيات. كما أن نمطاً مماثلاً كان واضحاً في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة في سورية المجاورة، حيث اعتبرت الهيئات المرتجلة التي تعمل وفق الشريعة شرعية ولكن أيضاً غير كافية ومتناقضة في كثير من الأحيان.

فقد اتّبعت المذاهب المختلفة للفقه الإسلامي، وكانت تفتقر إلى التدريب في الشريعة الإسلامية (أو القانون المدني)، وثَبُت أنها أقلّ فعالية من النظام القضائي السابق الذي تديره الدولة في ردع الانتهاكات الكبيرة والحفاظ على الأمن الأساسي.

من الواضح أن غرض وطبيعة ضبط الأمن تبدو مختلفة من وجهة نظر الفئات ذات الدخل المنخفض والمجتمعات الريفية أو شبه الحضرية المهمّشة، التي تمثّل معاً غالبية السكان في معظم الدول العربية التي تمرّ في مراحل انتقالية. وبالتالي فإن إعادة تأهيل القطاعات الأمنية الرسمية لاتضمن استعادة ضبط الأمن لهذه القطاعات الاجتماعية بصورة فعّالة.

بل على العكس من ذلك، لأن تركيز إدارة قطاع الأمن في العواصم الوطنية والتحيّز الحضري والطبقي الملحوظ في ضبط الأمن عموماً، إلى جانب إدماج قطاع الأمن في الأنظمة الاستبدادية السابقة منذ أمد بعيد، قد يمكّن الفعاليات الاقتصادية المؤسّسية القوية والمهيمنة من الاحتفاظ بشبكاتها ونفوذها وإعادة تأكيد سيطرتها على النظام الاجتماعي.

ثمّة عامل مساعد هام في هذا الاتجاه يتمثّل في تطور التصورات والتوقعات بين قطاعات الطبقة المتوسطة في الدول العربية. في البداية كانت تلك القطاعات تنظر إلى الانتقال السياسي بصورة إيجابية، لكنها شعرت بعد ذلك بأنها مهدَّدة حيث تسبّب التنافس الحادّ للحصول على الرعاية الاجتماعية والفرص الاقتصادية، فضلاً عن التحدّيات المباشرة من جانب القطاعات الاجتماعية التي تم تمكينها مؤخراً في بلدانها، في زعزعة الاستقرار السياسي وزيادة العنف وارتفاع معدّلات الجريمة. ومن المرجَّح أن القطاعات الاجتماعية نفسها تأثّرت بصورة غير متناسبة بالإقصاء السياسي الناجم عن التدابير الانتقالية مثل اجتثاث البعث في العراق، وقوانين العزل المختلفة التي صدرت أو تم اقتراحها بعد العام 2011 في كلٍّ من ليبيا وتونس واليمن.

ونتيجةً لذلك، تأرجحت مشاعر الطبقة الوسطى عموماً، فابتعدت عن إعطاء الأولوية للأفكار الليبرالية عن سيادة القانون والحكم الديمقراطي وإصلاح قطاع الأمن، ومالت بدل ذلك نحو المطالبة بالقضاء على الجريمة وعلى المعارضة، حتى وإن ظلت متشكّكة وقليلة الثقة بالشرطة وأجهزة الأمن الداخلي.

تأرجحت مشاعر الطبقة الوسطى عموماً، فابتعدت عن إعطاء الأولوية لسيادة القانون وإصلاح قطاع الأمن، ومالت بدل ذلك نحو المطالبة بالقضاء على الجريمة وعلى المعارضة.

وبطبيعة الحال، تختلف التحالفات والمسارات الاجتماعيةالسياسية اختلافا كبيراً من دولة عربية إلى أخرى تمرّ في مراحل انتقالية، لكن في كل الحالات ثمّة عامل حاسم في النتائج يكمن في درجة من التقارب المتجدّد بين القطاعات الأمنية، من جهة، ومؤسّسات الدولة ذات النفوذ مثل القوات المسلحة والسلطة القضائية وشبكات النظام السابق والمصالح التجارية والطبقات الوسطى الجديدة، من جهة أخرى.

ويبدو هذا واضحاً بطرق متعارضة في مصر، حيث اختار المجلس العسكري الحاكم في الفترة 2011-2013 بصورة متعمّدة عدم إعادة هيكلة أو إصلاح وزارة الداخلية وقطاع الأمن مترامي الأطراف الذي كانت تسيطر عليه؛ وفي تونس، حيث شكَّل الجيش قوة موازِنة لوزارة الداخلية الممتعضة من عملية الانتقال، وضَمَنَ أن يقوم المدنيون بتنظيم وتسيير المرحلة الانتقالية.

كما اضطلعت نظم العدالة في جميع أنحاء المنطقة، وليس في الدول التي تمرّ في مراحل انتقالية وحسب، بدور هام في الحفاظ على الوضع الاجتماعي القائم. وقد ظلّت تلك النظم مختلّة إلى حدّ كبيربحسب ما أشارت مراجعة قام بها مراسل الشرق الأوسط بورزو دراغاهي، وكانت أدوات لمن يصدف أن يكون في السلطة، أكثر منها منتديات للوساطة في النزاعات الشخصية والتجارية وإقامة العدالة“.

في ظل غياب تغيير سياسي كبير أو تحدّيات تواجه النظام، يبدو أن الجهود المبذولة لإصلاح أو إعادة هيكلة قطاع الأمن ستبوء بالفشل في الدول العربية التي تمرّ في مراحل انتقالية.

والواقع أن من المرجّح أن تعيد تلك الجهود إنتاج الاتجاهات التي كانت جارية على مدى العقدين الماضيين أو أكثر في التشكيل الطبقي والمصالح التجارية، مايؤدّي إلى استعادة شكلٍ ما من النظام الاجتماعي القائم في الفترة التي سبقت المرحلة الانتقالية.

إن العلاقة بين قطاع الأمن والوضع الاجتماعي هي أوضح ماتكون في مصر. هناك، كان يُنظَر إلى أكاديمية الشرطة تباعاً على أنها نادٍ” – كما وصفها المؤرّخ المصري توفيق أكليمندوس لأبناء الأسر الغنية أو الطبقة الوسطى الجديدة وأعيان الريف، أو أنها سعت إلى اجتذاب أبناء القطاعات ذات الدخل المنخفض لتعويض هجرة ضباط الطبقة الوسطى نحو قطاع الأعمال أو النيابة العامة، كما وجدت باحثة العلوم السياسية دينا راشد.

وكما كشف لواء الشرطة المتقاعد بدوي، كان القبول في أكاديمية الشرطة محكوماً بالمحسوبية الممنهجة ومحاباة الأقارب في مؤسسات الدولة، حيث كان لكلٍّ من رئيس الجمهورية ووزير الداخلية وأعضاء البرلمان والحزب الوطني الديمقراطي الحاكم آنذاك، حصة من القبول غير المشروط لزبائنهم أو أبناء زبائنهم. وقد تم قبول المتقدّمين من المناطق النائية من البلاد للمرة الأولى في أواخر العام 2011، غير أن النمط الأساسي لم يتغير.

في ظل غياب تغيير سياسي كبير أو تحدّيات تواجه النظام، يبدو أن الجهود المبذولة لإصلاح أو إعادة هيكلة قطاع الأمن ستبوء بالفشل في الدول العربية التي تمرّ في مراحل انتقالية.

مضت العلاقة التكافلية بين الشرطة والأطراف الطبقية الفاعلة في مصر إلى ماهو أبعد من ذلك. إذ اعتمدت الشرطة على عائلات محلية قوية للمساعدة في السيطرة على المناطق الريفية المضطربة مثل صعيد مصر، على سبيل المثال، وقادت عمليات مصادرة الأراضي الزراعية لصالح شركات التطوير العقاري (أو لصالح القوات المسلّحة في بعض الأحيان) في عهد حسني مبارك وبعده على حدٍّ سواء.

كما أن التوظيف المتكرّر في هذه الحالة وسواها للبلطجية من جانب الشرطة وأعضاء الحزب الحاكم السابق وحلفائهم الاجتماعيين المحلّيين، كشف عن غموض سيادة القانون، في حين عكس وقائع النظام الاجتماعي الذي كان من المفترض أن يخدمه.

وقد سار ضبط الأمن المختل جنباً إلى جنب مع نمو الشركات الأمنية الخاصة، وهو اتجاه ليبرالي جديد استمر بعد العام 2011، حيث قدمت إدارة الإخوان المسلمين في عهد الرئيس آنذاك محمد مرسي مشروع قانون لتوسيع هذا القطاع.

كانت ظاهرة التكافل العضوي بين القطاعات الأمنية والأحزاب المُهيمنة تنطبق عموماً في الدول العربية الأخرى التي تمرّ في مراحل انتقالية أيضاً. لم يكن الأمر بالجديد، كما أثبت التداخل بين الأجهزة الأمنية وحزب البعث الحاكم وشبكات المحسوبية في نظام الأسد في سورية قبل العام 2011 بفترة طويلة.

إلا أن العملية الانتقالية عمّقت هذا النمط، وبصورة أكثر وضوحاً في العراق حيث سيطرت الميليشيات القوية مثل فيلق بدر أو جيش المهدي بصورة فعلية على وحدة شرطة المغاوير التابعة لوزارة الداخلية وقوة حماية المنشآت (العراق)، على التوالي وفي السلطة الفلسطينية، حيث اندمجت حركة فتح وخصمها الإسلامي حماس مع القطاعين الأمنيين المتنافسين في الضفة الغربية وقطاع غزة.

كانت ظاهرة التكافل العضوي بين القطاعات الأمنية والأحزاب المُهيمنة تنطبق عموماً في مصر والدول العربية الأخرى التي تمرّ في مراحل انتقالية. انهيار التكافل في تونس يؤكّد مدى أهمية هذا الأخير.

ففي عهد بن علي، قيام الفروع المحلية الـ7500 لحزب التجمّع الدستوري الديمقراطي الحاكم بمهامّها الدعائية الضخمة، فضلاً عن واجبات الشرطة الإضافية التي تشمل المراقبة وجمع المعلومات، جعلها بمثابة أجهزة أمنية أكثر منها حزباً، كما لاحظ المؤرخ روجر أُوين.

إلا أن حلّ الحزب بعد انتفاضة العام 2011 والنجاح النسبي لعملية الانتقال الديمقراطي، جعلا قطاع الأمن معادياً لكن محاصَراً، وغير قادر على تشكيل تحالفات اجتماعية أو سياسية جديدة يمكن الاعتماد عليها.

اتخذ التكافل شكلاً مختلفاً في لبنان، حيث كانت السلطة موزّعة دائماً بين جماعات النخبة. وقد مكّنتها قدرتها على إعادة إنتاج التمثيل الطائفي من المستويات القيادية ونزولاً حتى أدناها في قطاع الأمن، من الاستمرار في استغلاله لتوزيع المحسوبية والحفاظ على قواعدها الاجتماعية، في حين عرقلت عملية إعادة تأهيل وإصلاح حقيقية للقطاع.

يتبع

***

يزيد صايغ ـ باحث رئيسي, مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط

______________

مقالات