خالد علي إبراهيم

حينما أتأمل جهود الآخرين؛ وأدرك المعاناة التي عاشوها أحتقر الحياة وكأني لم أفعل شيئًا يستحق الذكر؛ أبقى مذهولًا! أقف متأملًا في تلك الشخوص التي دفعتْ أرواحها ثمنًا لقيام الوطن والوقوف على سوقه؛ هل كانت تعي ما تقوم به؟ وتدرك خطورة الأمر؟ ألم تخش الموت؟

وهل تهيبت المخاطر أم أنها ألقت بنفسها في المحك لأجل الوطن والفكر والحرية!

تساؤلات كثيرة أطلقتُها تجاه شخصيات قدَّمت روحها لأجل قضية تؤمن بها، قضيَّة كُليَّة تتعلق بالإنسان الليبي دون غيره، لا سيما في وقت مبكر كالتي في سبعينيات القرن المنصرم وثمانياته، من هذه الشخصيات أنموذج من نماذج النضال ألا وهو الأستاذ المجاهد البحَّاثة الألمعي محمد علي يحيى معمر رحمه الله وأحسن مثواه ” 1949_ 1994″ المعروف بـ(فتحي الباروني) أو كما كان يناديه كثير من أصدقائه بـ خالي فتحي

شخصية على جدها واجتهادها وثقلها وقَبولها عند كثيرين، إلا أنها لم تحظ بالبحث والتوثيق والتدوين.

أفتتح هذه المقالة بالحديث عن نسبه فهو ابن العلامة الشيخ (علي يحيى معمر) رحمه الله، من أعلام نالوت بجبل نفوسة، ورائد من رواد التعليم في ليبيا، فقيه ومصلح ومؤرخ إسلامي، دوّن كوكبة من البحوث والكتابات في التاريخ الإسلامي وفكره، لا سيما ما يتعلق بالمدرسة الإباضية، إذ كانت لكتاباته صدى واسع في إزاحة الغبش عن كثير من الباحثين عن الحقيقة.

عُرفتْ كتاباته بالحجة والدليل والإنصاف والموضوعية، إضافة إلى لغة أدبية عذبة يذوب فيها القارئ من حسنها وجمالها، كما أنه كَتب مجموعة من المقالات التي تتعلق بالموضوعات الاجتماعية في ليبيا والثقافة العربية والإسلامية، سعى فيها للنصح والتوجيه والإرشاد.

فمن أهم كتاباته سمر أسرة مسلمةوالفتاة الليبية ومشاكل الحياةوالإباضية مذهب إسلامي معتدلوغيرها الكثير.

على هذه اليد الكريمة، وتحت سقف هذا العالم المصلح والشيخ المربي نشأ الأستاذ محمد علي يحيى معمر، في بيت نفوسي متواضع، اتسم بالتدين والمحافظة والالتزام، في عام 1949م وبالتحديد في مدينة نالوت؛

ولد محمد؛ وهو يتنفس أنسام التأريخ والتراث والعزة والإباء، في ربوع مدينة نالوت التي تجتمع فيها الفروقات فتشكل هوية خاصة بالإنسان الجبلي، فإنْ أقبل إليها ضيف تسامى بأهلها وكرمها، فكانت مضربَ مثلٍ لاستضافة الزوار والعابرين، وإن وطأتْ أقدام العِدى أرضها أظهرت لها المهابة والبسالة فكانت مقبرة للغزاة والطامعين، وقديما قيل الموت ولا نالوت“.

وكل هذه الصفات وغيرها صُقلت في المولود الجديد فكان في شباب جيله أيقونة مختلفة عن الآخرين.

تدرج كغيره من شباب جيله في سُلَّم الدراسة وتلقَّى العلم والمعرفة، بدءًا من كتاتيب الجبل، إذ تعلَّم القرآن الكريم وعلوم الدين والفقه على يدي والده ومشايخ وأستاذة في نالوت وجادو وقتذاك، ثم درس المرحلة الابتدائية في مدينة جادو تبعًا لعمل والده، وأكمل فيها الإعدادية.

والجدير بالذكر ها هنا أنّ للشيخ علي يحيى معمر – رحمه اللهحرصًا شديدًا في تنشئة ولده، وتكوينه على أساس علمي رصين، يقول في ذلك أستاذنا أحمد سعيد خليفة أكرمنا الله بعلمه-:

حدثني حمّاديعن أيام الطفولة والصبا، عندما كان والده يناقش معه شعر المعلقات وكتب التفسير والفقه وهو لم يزل صبيًا يلعب مع إخوته وأقرانه..” إذ كان يعده ليكون قبسًا يُهتدى به، وركيزة يعتمد عليها، ومرجعًا يستند إليه في الملمات والحوائج، وكان رحمه الله كما أراد أن يكون لنفوسي وهب نفسه لله ومات في سبيله مجاهدًا بخُلقه وقلمه وفكره وعقيدته!

ثم انتقل بعد هاتين المرحلتين إلى مدينة غريان ليكمل تعليمه الثانوي، إذ لم يكن في الجبل حينئذ مدرسة للتعليم الثانوي إلا في أقصى الشرق من الجبل بمدينة غريان التي تبعد عن نالوت قرابة 240 كم.

ويعد هذا الفراق الأول لمحمد عن أهله بُغية العلم والمعرفة والطلب، وكان في غاية المراد والطلب، إذْ كان شغوفًا بدروسه، مقبلًا على المعرفة، متأثرًا بأساتذته الذين صقلوا أفكاره وفتحوا أمامه أفق التفكير في همّ الدعوة والإصلاح والنهوض بالوطن.

من بين هؤلاء الأعلام الأستاذ: عزمي عطية، فلسطيني الجنسية، فتعلَّم على يديه صنوف العلم والمعرفة، حتى كانت أولى محاولاته الشعرية في ثانوية غريان وهو ابن سبعة عشر ربيعًا، بقصيدة عنوانها أحلام غريبيقول في مطلعها:

تلك أغاني وأناشيد الطفولة

غنيتها تحت أشجاري الظليلة

***

أعبث بالورد بالأزهار النبيلة

والنور يرقص في أرجاء الخميلة

وقد كان لوالده الشيخ علي يحيى معمر الأثر البالغ في تعليمه للشعر وقرضه، يقول الأستاذ محمد رحمه الله في رسالة وجهها للبحاثة الدكتور عمرو النامي رحمة الله عليه: ” قد شجعني الأستاذ (….) على حفظ الشعر وقرضه، وإنّي لأجد في نفسي شيئا من ذلك، وقد حاولتُ مرات كثيرة فتتعطل عني الكلمات أحيانا كثيرة، وتجود أحيانا قليلة، كما أن والدي أعلمني أنّ للشعر أوزانا وعروضًا لا أستطيع قوله إلا إذا كان شعرا حديثًا…”

فلم يكن اهتمام الشيخ علي بفلذة كبده أنْ علمه الشريعة وعلومها، بل حتى الشعر وبحوره، ليكون رائدا في الأدب ونقده.

وما هي إلا سنوات وأكمل محمد الثانوية حتى استقر به المقام في العاصمة طرابلس لإكمال دراسته ومشواره الجامعي، فخاض غمار تجربة جديدة في دهاليز المدينة، يقول صديقه (أحمد الماقني) وهو يصف شعور حمّاديفي المدينة:

ويترك حمّادي الجبل وعوالمه حينما تغادر الأسرة مدينة نالوت ليستقر به المقام في عاصمة الوطن طرابلس، ويتاح لحمّادي التعرُّف على أوساط المدينة كثيرة المجاهيل، بتعقيدات الحياة فيها، وتتاح له فرصة تنوع مصادر ثقافته الحياتية، وإن ظل الجبل الجزء المهم في تكوينه؛ إلا أنّ آفاق المدينة الكبيرة، وسرعة الحياة فيها قد شكَّلت رافدًا مهمًا لرؤاه الفكرية والإنسانية

بهذه الروح أقبل الشيخ محمد إلى طرابلس فيلتحق بكلية الآداب بجامعة طرابلس، التي نال منها الليسانس في اللغة العربية عام1972م.

ومن هنا تبدأ الحياة العملية الجادة للشيخ محمد، فبعد مسيرة من الجد والاجتهاد، والمثابرة والإقدام في العلم وثني الركب سامرًا على الكتب والمصنفات يجازي هذا الأبي بالسجن في زنازين البطش والظلم، بتهمة الانتساب إلى حزب التحرير، ومطالعة الكتب الصفراء.

وكأنها بداية لهدم فكر طالما بناه محمد بأنامله يعيش وإياه في عالم الحرية والإباء، في عالم يسوده العقل والمنطق والتفكير، عالم تتجلى فيه تجارب العلماء والفلاسفة والمفكرين، فكانت الصدمة الزج به في سجون الظلام بالحكم المؤبد دون وجود أسباب مقنعة!

غير أنّ عزيمة الشباب لم تفتر، وهمة الجبل الشمِّ رضعها محمد في لبان أمه، فأعدّ العدة، وجهز التدابير اللازمة للفرار، وما هي إلا أيام وإذا به يطير كالباشق خارج أسوار السجن، متمتعًا بحريته رغم سطوة العسس وحكم العسكر، فشق الشاب طريقه خارج حدود وطنه؛ مخالفًا هوى قلبه الذي يتلهف لجلسات وادي الثلث وشعابه، وجبل نفوسة وسفوحه، تعصف به الذكريات نحو أيام قضاها مع الخلان والرفاق والأصدقاء، إلا أنّ قضاء الله غالب على أمره، يُغادره مكرهًا فارًا بدينه ووطنه، وفي نفسه بصيص أمل يراوده ويُمنّيه بالعودة والرجوع حتى أخذ الله أمانته.

حطت به الرحال في عاصمة الثقافة والعلوم، القاهرة المحروسة، التحق حينها بكلية دار العلوم ليكمل دراساته العليا، حتى أنه وصل إلى مرحلة إعداد البحث؛ إلا أنّ أشغاله والأحمال التي عليه لم تتح له فرصة الاستمرار والمواصلة.

في ذات المرحلة اقترن بزوجته الأستاذة وفاء نشنوشابنة الفقيه العالم محمد نشنوش، والتي كانت له نعم الصاحبة الصابرة، عاشت معه بقية حياته إلى مماته، فرأت فيه صفات المؤمن الصابر، والشاب الوطني الغيور، والمناضل المجاهد، والشاعر المبدع صاحب الحس المرهف والمشاعر الفياضة، فكان لها نعم المحب المخلص، والزوج الحاني، ولأولادها أبا حنونا على قصر أيامه معهم حتى كان مسك الختام أنْ وهب حياته سبيلًا لنجاة يحيىليحيا!

***

مداخلات مهمة:

خالد التركى: “بعد استقالة المقريف بيوم او يومين حضر للقاهرة واحضره الشيخ فتحى لشقةالطاهر الغريانى حيث كان تواجد مجموعة من الطلبة الليبيين المعارضين للنظام وكانت مبارة بين الزمالك والاهلى وجلس معه الشيخ فتحى وكان معهم شخص آخر ربما يكون ابراهيم صهد او المرحوم البطل عبدالسلام عيلة وتناولوا جميعا وجبة الغداء التى اعدها الطلبة احتفالا بالمباراة.

وكان اول لقاء للمقريف بمجموعة من الطلبة الذين يكونون نوع من المعارضة للقذافى ونظامه ، وكانت فرصة للمقريف معرفة بعض الناشطين من الطلبة الذين انخرط معظمهم فى الحبهة بعد الاعلان عنها فى اكتوبر 1981 من الخرطوم بعد ان كان مقررا ان يعلن عنها من القاهرة ، الا ان اغتيال السادات كان سببا فى عدم الاعلان عنها من القاهرة ، والمهم فى ذلك وبعد الاعلان عن تأسيس الجبهة ووجود الشيخ فتحى كاحد رموزها ، اعطى الثقة للكثير من الليبيين الانضمام اليها نظرا لعامل الثقة والمحبة الذى كان يتمتع بها الشيخ فتحى ، وكان رحمه الله لا يختلف اثنان على حبه ووطنيته وجهاده ضد نظام القذافى .. وقد انجز رحمه الله مئات الحلقات الاذاعية كتابة وتصحيحا اذيعت عبر اذاعة صوت الشعب الليبى من الخرطوم مع نخبة من اعز اصدقائه فى القاهرة

***

أنس النامي: “قال لي مرة أحد ابناء نالوت من عائلة عمران انه عندما هرب الشهيد محمد من سجن بمساعدة أصدقائه من نالوت كانوا في انتظاره خارج السور، ثم هرب إلي تونس ماشي على الأقدام وقد خط بعض الكلمات على صخرة بقرب من جبال نالوت على حدودها (وهو في طريقه لتونس).

____________

المصدر: صفحة الكاتب على الفيسبوك

مقالات