رامز رمضان النويصري
في صيف عام 1971م حزم الدكتور عمرو النامي كتبه و أمتعته وعاد إلى وطنه ليبيا ليحقق حلمه وليقف على منابر الفكر والعلم كاتبا وشاعرا وأستاذا جامعيا.
وبدل أن تفتح أمامه أبواب هذه المنابر، استقبلته مراكز الشرطة وغرف التحقيق ومنها إلى المعتقل.
وجاء أول اعتقال كحالة إنذار وتحذير ولم تستغرق مدته إلا بضعة أيام، واستأنف حياته العادية، وبدأ نشاطه كأستاذ في الجامعة في بنغازي ثم نقل إلى طرابلس. وعندما جرت الاعتقالات الموسعة سنة 1973م تحت شعارات: “الثورة الثقافية” “من تحزب خان” “الثورة الإدارية” كان عمرو النامي، واحدا من مثات المعتقلين من المثقفين والطلبة.
وكنت أنا أحد المعتقلين في السجن الذي دام قرابة سنتين.. وبعد الإفراج عنا طُلب من الدكتور عمرو النامي أن يغادر البلاد، وأُعطي حق اختيار منفاه في اليابان، أو أميركا اللاتينية، أو أفريقيا. فاتجه أولا إلى الولايات المتحدة لتدريس اللغة العربية والإسلام في جامعة أميركية. ثم طُلب منه الذهاب إلى اليابان في سنة 1979م وفيها أنشد يقول:
ودعت دارك رغم الشوق للدار
والدار ذات أحاديثٍ وأخبارِ
يا دار أمسيت بالأحزان غامرةً
تهدي همومك من دار إلى دارِ
نفسي الفداء لأرض عشت محنتها
ثم ارتحلت وحيدًا غير مختارِ
مبدَّد الحول لا زاد ولا أملٌ
إلا علالات أفكار وأشعارِ
أنى ارتحلت فإن القلب يعطفني
إلى الأحبة في شوق وإصرارِ
بالأمس كنتَ عرينَ المجدِ يا وطني
وتدرج الفضل في سهل وأوعارِ
رفعت ألوية للفخر عاليةً
وصغتَ آثار مجدٍ أيَّ آثارِ
وأمهرتْ أرضك الأبطال من دمها
تسخو به بين أنجاد وأغوارِ
واليوم لا شيء غير الحزن يا وطني
وغير أناتِ أطيار لأطيارِ
لأنه شديد الحب لوطنه ولاهله ولمرابع طفولته وشبابه وذكرياته لم يطق حياة الاغتراب، وغلبته جاذبية الوطن، فعاد إلى ليبيا قبل أن يدور العام دورته.
وقرر أن يهجر العلم والتدريس وأن يترك المدن الكبيرة وأن يتحول من مهنة التدريس إلى مهنة رعي الأغنام لعل ذلك يجعل سدا بينه وبين “منكرات السياسة”.. وكان جادا في هذا الاتجاه، واشترى قطيعا من الأغنام، وذهب إلى ظاهر “نالوت” مسقط رأسه، ومقر أسرته و أهله.
وفي قصيدة في هذا الموضوع يقول:
يكفي أباكِ لكي يعيش مكرمًا
عجفاء ثاغية وتيس أجربُ
ونعيش في قنن الجبال تظلنا
ويحيطنا بالحفظ قفر سبسبُ
جيراننا وحش الفلاة فلا يرى
فيها سوى سبع يسيح وثعلبُ
وهناك لا نخشى سوى ذئب الغضا
يعدو على تلك الشياه فينهبُ
والوحش وحش لا يلام لبطشه
هو في طبيعته يغير ويغصبُ
فلقد نعيش هناك عيشة هانئ
ولقد يسالمنا الشجاع المرعبُ
لم يتمكن الشاعر، والأستاذ الجامعي من تحقيق أمنيته، ومن إنجاز مشروعه، وليعيش حرا عزيزا كريما كما تطلعت نفسه.
وفوجئ مرة ثالثة بأبواب السجن تفتح أمامه سنة 1981م انقطعت أخباره عن أهله وأصدقائه. ولا يعرف مصيره حتى الآن
عرفت عمرو النامي يوم كنا في مرحلة الدراسة الإعدادية الثانوية بمدينة غريان. وجمعت بيننا مرحلة الدراسة الجامعية في بنغازي. وتوثقت علاقتنا بروابط العقيدة والفكرة والوجهة الإسلامية الواحدة.
وعشنا محنة السجن معا في سنة 1973-1974م. وعرفت فيه الذكاء، والإيمان العميق، والشجاعة، وصلابة الموقف. والرجل كان فعلا يريد أن يعتني بوالديه، وأن يعيش بعيدا عن السياسة ومآسيها، وهو يدرك تماما الأبعاد الدولية للصراع في المنطقة.. ولكن يبدو أنه لم يفهم من قبل الأجهزة في ليبيا. ودفع ثمن حسن نواياه. كما دفع نفس الثمن كثيرون آخرون.
إن الدكتور عمرو خليفة النامي مثل للإنسان المثقف الجاد، وشديد الإخلاص لوطنه و أمته. ولو كانت السلطة السياسية تتصرف بمنطق العقل والحكمة والنظر البعيد لما وقفت منهم موقف المطاردة والملاحقة والاعتقال. بعد أن أكد أنه لا ينوي الانخراط في حركة معارضة. واختار أن يتفرغ للعلم والتدريس أولا، ثم بعد ان حيل بينه وبين ذلك اختار أن يعيش في عزلة يرعى شويهاته في أرض ليبيا الواسعة.. ولكن يبدوا أن ليبيا صارت ضيقة
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها *** ولكن أخلاق الرجال تضيق
هذه خطرات في سيرة رجل ارتبط بالفكر والثقافة،و كانت له مواقفه الصارمة التي لا تقبل الاحتواء، وإن قبلت الانزواء في وديان وشعاب نالوت..
كان عمرو النامي كاتبا وناقدا ومحاضرا وشاعرا. وخلال سنوات الاعتقال كتب عشرات القصائد. وألف في السجن(1973-1974م) كتابه الوحيد “ظاهرة النفاق في إطار الموازين الإسلامية” وصدرت طبعته الأولى سنة 1979م..
وشاءت الأقدار أن يغيب عن مسرح الحياة الثقافية في ليبيا، قبل أن ينجز أعماله الفكرية، بل شاءت الأقدار أن يغيب عن الأنظار والأسماع منذ سنة 1986م. والسؤال المطروح: أين الدكتور عمرو النامي؟
عمرو النامي بين هذه الكلمات
انا لم أكن يوما صنيعة سيد *** يرمي إلي بكسرة فأرحب
رفض.. أستاذنا.. الدكتور عمرو خليفة النامي.. وهو خارج معتقلات “الثورة”.. أن يكتب.. كلمة واحدة.. يؤيد.. أو.. يساند.. أو يمدح.. أو يداهن بها.. “القائد”.. او “الانقلاب”.. او “النظام”.. وهو يعلم.. أنه لو فعل.. لفُتحت بين يديه.. خزائن “قارون”.. رفض ذلك.. بينما.. نظم.. وهو تحت سياط الجلاد.. وداخل المعتقلات.. وفي أتون القمع.. والتنكيل.. والاضطهاد.. نظم قصائد.. أحيت.. روح المقاومة ضد النظام الدموي الفاشستي.. في ليبيا.. بل وكان من ضمن قصائده.. قصيدة.. يمدح فيها رسولنا الكريم.. محمد.. صلى الله عليه وسلم.. وهو يعلم.. أنه بما فعل.. سيُصب عليه العذاب صبا.
والدكتور النامي.. أديب.. وكاتب.. وشاعر.. ومحاضر.. ومبدع.. وناقد.. وصاحب فكر.. وثقافة.. وأدب.. يدعو للأمن.. والأمان.. والسلام.. وهو.. متواضع.. هين.. لين.. يكفي تواجده.. في مكان ما.. ليضيف على ذلك المكان.. هيبة ممزوجة.. بالطمأنينة.. والود.. والسلام.
ويتمتع.. الأستاذ النامي.. فوق كل ذلك.. بطاقة هائلة من التحدي.. والصراحة.. وطاقة هائلة من الإبداع.. والإيثار.. والعطاء.. والوفاء.. لبلده.. وأهله.. وأمته.. وأرحامه..
كما كان.. مع كل ذلك.. واضح الرؤية.. والفكرة.. والهدف.. لم يتنازل.. عن مبادئه.. مقدار.. حبة من خردل.. أو أدنى من ذلك..
هكذا عرفت الدكتور النامي، عندما كان يحاضر، في مادة الدراسات الاسلامية، في مدرج كلية العلوم بالجامعة الليبية بطرابلس.
وكعادة ثورتنا “البيضاء”.. التي يحسدنا عليها التاريخ.. دُرج الاستاذ النامي ضمن قائمة “المغضوب عليهم”.. فتعرض للمراقبة.. والمضايقة.. والنفي.. والسجن.. والاعتقال.. والمطاردة.. وهُدم.. فوق ذلك.. بيته.. ووظف.. للتنكيد.. والضغط عليه.. شخصيات عديدة من علية القوم الظالمين.. وتنقل.. من معتقل الى اخر.. داخل الوطن الواحد.. الذي عاش من أجله.. وقاتل بكلماته.. من اجله.. فمن مركز الأوسط.. إلى السجن المركزي.. إلى سجن المخابرات العسكرية.. إلى سجن المباحث العامة.. إلى معتقل آخر.. الله وحده.. يعلم موقعه وكنيته..
ليس ذلك فحسب.. بل تبادل اعتقاله.. وبتنافس شديد جدا.. ومريب جدا.. مختلف أجهزة “الجماهيرية العظمى”.. من مخابرات عسكرية.. ومخابرات عامة.. ولجان ثورية.. ومباحث عليا.. وعامة.. وسفلى.. وضل.. فوق كل ما سبق.. مخطوفا.. ومغيبا.. تغييبا قسريا.. وذلك بدلا من أن يتنقل بين مؤسسات “الدولة”.. التعليمية.. والثقافية.. والاجتماعية.. لينهل من علمه.. أبناء الوطن.. والذين.. هم.. في امس الحاجة الي ثقافته وعلمه وحكمته.. حتى يومنا هذا.
كل ذلك.. بالرغم من أنه تخلى عن الدراسة في مصر.. وترك.. أمريكا.. وبريطانيا.. واليابان.. ورحل عن بنغازي.. وطرابلس.. وترك السياسة.. والوظائف.. والتدريس.. وترك مغريات الدنيا.. التي تهافت.. ويتهافت عليها.. وبدون مبالغة.. الملايين من البشر..
تخلى الأستاذ النامي.. عن كل ذلك.. وانطلق يرعى “الغنم”.. في شعاب قريته.. بعيدا عن ضجيج المدينة.. وبعيدا.. عن الظلم.. والظالمين.. والنفاق.. والتملق.. والمنافقين.. اتباعا.. لقول رسولنا الكريم.. صلى الله عليه وسلم: “يوشك أن يكون خير مال المسلم، غنم يتبع بها شغف الجبال، ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن” ( البخاري ومسلم).
فما هي الجرائم التي اقترفها هذا المواطن.. الليبي.. وقد ترك لهم الارض.. وما فيها.. وما فوقها.. وما عليها؟.. ذلك ما سنحاول.. أن نجيب عليه.. إن استطعنا.. اثناء رحلتنا مع هذا العملاق الحاضر دوما.
ولد الدكتور عمرو خليفة النامي، حسب اغلب المصادر، في عام 1939م، بمدينة “نالوت” بجبل نفوسة، وأتم دراسته الابتدائية والإعدادية بنفس المدينة التي ولد فيها. ثم أتم دراسته الثانوية بمدرسة “غريان” بمدينة “غريان” .
التحق بعدها وبالتحديد في 1958م، بكلية “الآداب والتربية” بالجامعة الليبية بمدينة “بنغازي”، قسم “اللغة العربية”، وتخرج منها عام 1962م .
سافر بعدها إلى مصر لاتمام دراسته العليا، لكنه عاد قبل أن يكمل دراسته بسبب المحنة التي تعرض لها الإخوان المسلمون في مصر، أثناء حكم عبد الناصر، فقد القي القبض، اثناء تلك المحنة، على قادة الاخوان المسلمين، كما القي القبض على كل من له صلة بهم وبقادتهم، وكان الدكتور عمرو النامي، على صلة وثيقة بهم، كما التقى، اكثر من مرة، بشهيد الامة “سيد قطب”، بل ويذكر ان حكما غيابيا، بالسجن لمدة خمس عشرة سنة، قد صدر فعلا في مصر، ضد الدكتور عمرو النامي، لعلاقته بالاخوان المسلمين من جهة، واتصاله المباشر بالشهيد “سيد قطب” من جهة اخرى. لذلك.. غادر الدكتور النامي مصر، وعاد الى ليبيا عام 1965م، قبل اتمام دراسته.
…
يتبع
_____________