ابراهيم عبدالعزيز صهد
لجنة التحقيق الرباعية
في 6 مارس 1948 وصلت لجنة التحقيق الرباعية إلى ليبيا وقضت فيها 75 يوما إلى تاريخ 20 مايو من نفس العام، واستمعت اللجنة إلى آراء مسؤولي الإدارات العسكرية البريطانية والفرنسية، واتصلت بالأحزاب السياسية والهيئات والأفراد، كما اتصلت بالأقليات (الطليان واليهود).
وقدمت اللجنة تقريرها إلى وكلاء وزراء الخارجية في آخر يوليو من السنة نفسها، ويمكن تلخيص ما أوردته اللجنة في تقريرها عن ليبيا في النقاط التالية:
-
أن نسبة كبيرة من سكان ليبيا هي بدوية وأمية.
-
لا يستطيع أي جزء من أجزاء ليبيا أن يكتفي بذاته.
-
الأحزاب متفقة على الاستقلال والوحدة والانضمام إلى جامعة الدول العربية.
-
اشترط المؤتمر الوطني (البرقاوي) في سبيل الوحدة أن تقام ملكية وراثية يتولاها السيد إدريس المهدي السنوسي، وأن لا يُسمح للطليان بالعودة إلى برقة مهما كانت الأحوال.
-
أن الأقلية الإيطالية في طرابلس ترى ضرورة عودة إيطاليا إلى ليبيا.
-
أما العرب فلا يقبلون بعودة إيطاليا مطلقا.
-
أبدى السكان رغبة أكيدة في وجوب إنهاء الإدارتين البريطانية والفرنسية في البلاد.
وقد انعقد اجتماع وزراء خارجية الدول الأربع في باريس بتاريخ 13 سبتمبر 1948 لدراسة توصيات وكلاء الوزارات فيما يتعلق بنتائج لجنة التحقيق الرباعية. وبدا واضحا تعذر اتفاق الوزراء على حل المسألة الليبية، فقد اقترح الاتحاد السوفيتي وضع ليبيا تحت وصاية مباشرة لهيئة الأمم المتحدة على أن يتولى إدارة البلاد مجلس وصاية يتكون من الدول الأربع إضافة إلى إيطاليا، كان هذا يعني وجود الاتحاد السوفيتي ضمن المجلس وهذا ما دعى أمريكا وبريطانيا إلى رفض الاقتراح.
وإزاء فشل المؤتمر في الوصول إلى قرار أحيلت المسألة إلى الأمم المتحدة برسالة مؤرخة في 15 سبتمبر 1948. وهكذا أخذت القضية الليبية طريقها إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة.
الدورة الثالثة للجمعية العامة للأمم المتحدة
ناقشت الجمعية العامة للأمم المتحدة المسألة الليبية خلال دورتيها الثالثة والرابعة.
ففي الدورة الثالثة عهدت الجمعية العامة بالمسألة الليبية إلى لجنتها السياسية (اللجنة الأولى). وقد شرعت اللجنة في مناقشة المسألة بتاريخ 6 أبريل 1949 حيث تقدم الوفد الباكستاني بمشروع قرار يتضمن السماح لهيئات تمثل أهل البلاد للإدلاء ببيانات أمام اللجنة، وقامت لجنة فرعية بفحص وثائق الوفود التي تقدمت بطلب للحديث أمام اللجنة، وقد سمح بالحديث أمام اللجنة لوفود تمثل كلا من المؤتمر الوطني “برقة”، وهيئة تحرير ليبيا “طرابلس”، علاوة على ممثل عن الطائفة اليهودية في طرابلس، ومندوبين عن جمعيات تمثل الأقليات الإيطالية التي لا تزال مقيمة في طرابلس.
وقد طالب مندوب المؤتمر الوطني (البرقاوي) بالاستقلال الناجز واشترط لتحقيق الوحدة قبول كل الأقاليم الليبية بإمارة السيد محمد إدريس السنوسي، وأشار المندوب إلى كفاح الليبيين من أجل استقلالهم، وإلى مشاركتهم الفعلية في الحرب العالمية الثانية، وقال:” إننا كنا نطمح في الاشتراك مع الحلفاء في إقرار السلام والأمن الدوليين لا أن نوضع تحت الإدارة البريطانية لست سنوات”، وطالب مندوب المؤتمر الوطني (البرقاوي) بعدم السماح لإيطاليا بالعودة إلى أي جزء من أجزاء ليبيا.
ثم تحدث مندوب هيئة تحرير ليبيا فطالب بالاستقلال والوحدة، وأشار إلى كفاح الليبيين من أجل حريتهم، وأوضح بأن إقامة نظم منفصلة في ليبيا يتناقض مع رغبات السكان.
وعبرت مختلف الدول عن آرائها في القضية، وكانت معظم هذه الآراء تدور حول وضع ليبيا تحت الوصاية، وكان الاختلاف بين هذه الدول هو في تحديد شكل هذه الوصاية ومدتها وشروطها:
فالاتحاد السوفيتي طالب بوصاية مباشرة للأمم المتحدة، والولايات المتحدة ضمنت كلمتها حديث غامض عن استقلال ليبيا، وإلى أن يتم ذلك يعهد بها إلى وصاية دولية يكون لبريطانيا دور رئيسي فيها، وفرنسا رأت أن يعهد بالوصاية إلى إيطاليا.، وبريطانيا أعلنت رفضها لفكرة الوصاية الإيطالية، وقدمت مشروعا يتفق مع الأفكار الأمريكية ينص على ما يلي:
استقلال ليبيا خلال عشر سنوات.وضع برقة تحت الوصاية الدولية وتتولى بريطانيا إدارتها.تتولى حكومات مصر وفرنسا وإيطاليا وبريطانيا والولايات المتحدة وضع خطة للوصاية على باقي أجزاء ليبيا.
أما مجموعة دول أمريكا اللاتينية – فيما عدا البرازيل– فقد عارضت مشروع القرار البريطاني، وقدمت مشروع قرار توضع بموجبه ليبيا تحت الوصاية الإيطالية لمدة عشر سنوات تستقل بعدها. وكانت المجموعة اللاتينية تتعاطف مع إيطالي كونها تتحد معها في الديانة الكاثوليكية.
وعارضت الدول العربية المشروع البريطاني. وأثارت مصر مجددا مطالبها حول مسألة الحدود.
أما العراق فقد تقدم بمشروع قرار يقضي بمنح ليبيا الاستقلال فورا. وتقدمت الهند بمشروع قرار يقضي بفرض وصاية جماعية على ليبيا.
وبتعدد مشاريع القرارات وتضاربها شُكلت مجموعة عمل مكونة من (15) عضوا وهي: (بريطانيا، أمريكا، الأرجنتين، استراليا، شيلي، الدانمرك، مصر، إثيوبيا، فرنسا، الهند، العراق، المكسيك،، جنوب إفريقيا، الاتحاد السوفيتي، البرازيل). وأوكل إلى هذه المجموعة بمهمة محاولة المواءمة بين مشاريع القرارات المطروحة أمام اللجنة السياسية.
كان الوقت الممنوح لمجموعة العمل قليلا، أقل من أن يوائم بين الاتجاهات المتضاربة في مشاريع القرارات، ولم يكن يؤمل من المجموعة أي تقدم يذكر. غير أن الحدث الذي أقحم نفسه على مجموعة العمل هو ما كشفت عنه الصحف –فجأة– عن قصة اتفاق سري بين كل من وزير خارجية بريطانيا (أرنست بيفن) ووزير الخارجية الإيطالي (الكونت كارلو سفورزا) وهو الاتفاق الذي اشتهر قيما بعد بمشروع (بيفن / سفورزا).
مشروع (بيفن / سفورزا)
لم يشتهر أي مصطلح في مفردات السياسة الليبية في المرحلة التي سبقت الاستقلال مثلما اشتهر مشروع (بيفن/سفورزا)، واستحق اللعنات من كل المواطنين على أنه وجه قبيح للسياسة الاستعمارية، مليء بكل أنواع الخداع والغدر.
ولقد كان هذا المشروع مدعاة لنقمة الشارع الليبي، وعاملا على تحفيز الهمم وفتح عيون الليبيين على طبيعة وحجم المؤامرات التي تحاك ضد بلادهم.
وفي الأمم المتحدة كان مشروع بيفن / سفورزا –في الواقع– صورة معدلة من مشروع القرار البريطاني المقدم إلى اللجنة السياسية.
فقد أدركت بريطانيا أن مشروع قرارها يواجه عقبات كبيرة قد تؤدي إلى الحيلولة دون نجاحه. وقد أدركت أن عليها أن تسلك أحد طريقين لتمرير مشروعها:
الأول: أن تتفق مع الدول المؤيدة لإيطاليا (وهي دول أمريكا اللاتينية).
الثاني: أن تتفق مع إيطاليا نفسها حتى تستقطب تأييد الدول اللاتينية التي تشكل في –ذاك الوقت– أكبر كتلة لديها سياسة موحدة تجاه مسألة المستعمرات الإيطالية.
وقد اختارت بريطانيا الاتفاق مع إيطاليا، فكان اتفاق بيفن / سفورزا، ثم قامت بريطانيا بإدخال تعديلات على مشروع قرارها الأساس ليتناسب مع الصفقة التي أبرمها الوزيران البريطاني والإيطالي.
وقد قوبل هذا الاتفاق باستياء من جانب كثير من الوفود التي رأت فيه محاولة لوضع اللجنة السياسية ومن ثم الجمعية العامة للأمم المتحدة أمام أمر واقع أبرم خارج كواليس المنظمة الدولية.
وقد تكتلت مجموعة الدول العربية مع عدد من الدول الإسلامية والاتحاد السوفيتي في محاولة لعرقلة مشروع القرار المعدل. غير أن هذه المعارضة لم تجد فتيلا عند نظر مجموعة العمل لمشروعات القرارات، فقد رأت أغلبية الوفود في مجموعة العمل أن مشروع القرار البريطاني حسب تعديله هو المشروع الوحيد القادر على الحصول على الأغلبية المطلوبة، ولذلك فقد أوصت مجموعة العمل (10 أصوات مؤيدة و 4 معارضة، وامتناع وفد عن التصويت)، إلى اللجنة السياسية باتخاذ المشروع أساسا للنقاش.
وينص المشروع على ما يلي:
أولا: تحصل ليبيا على استقلالها بعد عشر سنوات من تنفيذ هذا القرار بشرط أن تقرر الجمعية العامة للأمم المتحدة أن هذه الخطوة مناسبة.
وضع برقة تحت الوصاية الدولية، على أن تتولى المملكة المتحدة إدارتها، دون أن يؤثر ذلك على وحدة ليبيا.
وضع فزان تحت الوصاية الدولية، على أن تتولى فرنسا إدارتها، دون أن يؤثر ذلك على وحدة ليبيا.
وضع طرابلس تحت الوصاية الدولية في نهاية عام 1951، على أن تتولى إيطاليا إدارتها، دون أن يؤثر ذلك على وحدة ليبيا. على أن تستمر الإدارة العسكرية البريطانية المؤقتة بعملها خلال فترة الانتقال بمساعدة مجلس استشاري يتكون من ممثلين عن (مصر، فرنسا، إيطاليا، المملكة المتحدة، الولايات المتحدة، وممثل عن الشعب)، على أن تحدد اختصاصاته بالاتفاق مع الإدارة.
ثانيا: العمل على تنسيق السياسة بين الإدارات الثلاث حتى لا ينشأ ما قد يعرقل استقلال ليبيا أو يؤثر في وحدتها. ويتولى مجلس الوصاية الدولية التابع لهيئة الأمم المتحدة متابعة تنفيذ ذلك.
وفي اللجنة السياسية احتدم النقاش حول هذا المشروع، فهاجمته العراق التي اتهمت مجموعة العمل بتجاهل كافة مشاريع القرارات الأخرى، وهوجم المشروع من قبل عدد من الوفود على أنه مناف لمطالب أهل البلاد في الاستقلال والوحدة.
وبينما كانت المناقشات في اللجنة السياسية على أشدها، كان الانفجار الغاضب في كل مدن ليبيا وقراها، فقامت المظاهرات والإضرابات رفضا للمشروع وتعبيرا عن مناهضة أية فكرة ترمي نحو عودة الحكم الإيطالي، وإبداء للاستعداد لمقاومة إيطاليا بالقوة المسلحة إن لزم الأمر، وتعالت الهتافات مطالبة بالاستقلال والوحدة، ووجه المواطنون سيلا من البرقيات والنداءات إلى زعماء البلاد للاتحاد ومواجهة الموقف، ووجهت برقيات إلى الأمين العام للأمم المتحدة والأمين العام لجامعة الدول العربية، كما وُجهت برقيات إلى وزير خارجية بريطانيا واصفة اتفاقه مع (سفورزا) بأنه خال من أي خلق ويتعارض مع الوعود التي قطعتها بريطانيا إلى الشعب الليبي. كما أبرق مندوب المؤتمر الوطني البرقاوي، ومندوب هيئة تحرير ليبيا في الأمم المتحدة محتجا على المشروع.
…
يتبع
***
إبراهيم عبدالعزيز صهد – مفوض العلاقات الخارجية بحزب الجبهة الوطنية
____________
المصدر: مجلة الإنقاذ 1990