أحمد الفيتوري

وثائـق جمعية عمر المختار

عرفت ليبيا النشاط الحزبي منذ القرن التاسع عشر، غير أن قمع السلطات القائمة كان دائما في مواجهة مع النخب التي عملت وقدمت الضحايا، من أجل تكوين أسس لمجتمع مدني تعددي؛ ففي القرن التاسع عشر حاولت ثلة من المثقفين إقامة تنظيم سياسي لكن السلطات العثمانية الحاكمة –

حيث كانت إيالة طرابلس تابعة لها حتى توقيع معاهدة أوشى وانتقال تبعية هذه الايالة إلى ايطاليا بعد غزوها البلاد عام 1911- وقد قام الدكتور صدقي الدجاني بنشر وثائق ذلك التنظيم والتحقيقات التي أجرتها السلطات مع مؤسسيه في كتاب صدر في السبعينات من القرن الماضي عن دار الطليعة.

ثم في الفترة الأولى من الاحتلال الإيطالي سمحت السلطات بتكوين أحزاب سياسية، نتج عن ذلك تكوين العديد من الأحزاب التي ساهمت في تنظيم النشاط المدني، وفي الدخول في مفاوضات مع السلطات المحتلة حول القضية الوطنية وقام بعض قياديها بزيارات لروما لأجل ذلك، حتى أن تجمعا وطنيا في طرابلس أعلن تكوين الجمهورية الطرابلسية كأول جمهورية عربية وأعلن عن دستور لهذه الجمهورية التي رفضت سلطات الاحتلال الاعتراف بها.

لكن مؤسسات المجتمع المدني جميعا، بما فيها الأحزاب ألغيت ونكل بأفرادها؛ عقب استلا الفاشيست على السلطة في روما مطلع العقد الثالث من القرن الماضي، حيث دخلت البلاد في أتون الحزب الفاشي وفي بحيرة من دم كان منارتها الشيخ عمر المختار الذي اعدم في 16 سبتمبر 1931.

بين سبتمبر 1931 وعام قيام الحرب العالمية الثانية 1939، تكونت تنظيمات سياسية في خارج البلاد في تونس ومصر وسوريا وعمل منتسبوها وزعمائها من أجل تحرير البلاد بكل جهد سياسي وإعلامي؛ فقد استطاع هؤلاء تقديم جهد متميز حيث اتخذوا من كل تجمع دولي وإسلامي ساحة للعمل من أجل تحريض الراى العالمي والعربي والإسلامي، وقدمت المذكرات ووزعت المناشير في موسم الحج في مكة؛ قد تكون الأولى من نوعها، تشرح الوضع والمعاناة التي يعيشها الشعب الليبي تحت الاحتلال الفاشي.

فيما بعد ساهم البعض من أفراد هذه التنظيمات في تأسيس الجيش الليبي الذي شارك في الحرب العالمية الثانية إلى جانب الحلفاء؛ وبهذا فإن الليبيين هم العرب الوحيدون الذين شاركوا الحلفاء هذه الحرب فإيطاليا من دول المحور كما هو معلوم.

عقب دحر ايطاليا وضعت البلاد تحت الإدارة العسكرية الانجليزية؛ وقد تكونت العديد من الأحزاب عقب عودة المنفيين والمهاجرين، ومن أشهرها في غرب البلاد حزب المؤتمر الوطني، الذي كان زعيمه بشير السعداوي من ساهم منذ العهد العثماني في الكفاح الوطني وفر من البلاد أثر مطاردة السلطات الايطالية إلى مصر والشام، وساهم في تكوين الحركة الطرابلسية البرقاوية التي قامت بجهد خارق في الدفاع عن الوطن وبكل السبل المتاحة.

وقد كان لهذه الأحزاب في غرب البلاد وعلى رأسها حزب المؤتمر الكثير من الفضل في الاستقلال، إلى جانب جمعية عمر المختار الحزب الوحيد الذي تأسس في شرق البلاد. أعلن الاستقلال من قبل هيئة الأمم المتحدة في 24 ديسمبر 1951 وكان أول قرار للأمم المتحدة في تاريخها في الخصوص.

عقب الاستقلال اصطدمت هاتيك الأحزاب مع السلطات الوطنية التي استلمت زمام الأمور وذلك من أجل قضايا وطنية وسياسية طرحها ذلك الاستقلال، سارعت تلكم السلطات بالحجة المعتادة؛ المحافظة على الاستقلال والوحدة الوطنية فألغت الأحزاب والعمل الحزبي.

منذ ذاك القرار الذي اتخذه ملك المملكة الليبية المتحدة إدريس السنوسي منع العمل السياسي التعددى في ليبيا، وسيطرت القوى الحاكمة على العمل السياسي مفردة، ومازال ذلكم القرار ساري المفعول حتى كتابة هذه المقالة.

( 2 )

ذكر لي الدكتور مهدي المطردي وهو أحد مؤسسي جمعية عمر المختار: أن عندي الكثير من التحفظات على نشر هذه الوثائق وسوف اكتب ذلك في كتب. ان الأستاذ محمد بشير المغيربي الذي أصدر كتاب وثائق جمعية عمر المختار، كان في الفترة الأخيرة سكرتيرا للجمعية غير انه لم يطلع على معلومات تأسيسها إلا من خلال ما سردناه له، فقد ذكر ان مؤسس الجمعية هو المرحوم اسعد بن عمران وهذا مجاف للحقيقة.

لقد أسست – قبل هذه الجمعية – جمعية الصابري وذلك عام 1935، وعملنا منذ ذاك على معرفة قبر شيخ الشهداء عمر المختار الذي دفن في مكان لم نعلمه، فقد دفنه الايطاليون عقب إعدامه في مكان خفي بمقبرة سيدي عبيد – أزيلت المقبرة في السنوات الماضية القريبة وبالتالي معالم قبر الشيخ واكتشفت آثار مدينة بنغازي القديمة (يوسبريدس) – في الصابري ببنغازي وذلك عام 1931 وقد حاولنا معرفة القبر دون جدوى، فذهبنا إلى الشيخ مصطفى المدلقم الذي علمنا انه هو الذي انزل جثمان الشيخ لقبره، وان القبر قد أغلق بالاسمنت المسلح وكان المدلقم شيخ زاوية بن عيسى وجارنا طالبا منا إخفاء الأمر خوفا من بطش الايطاليين، طمأنته فقال : سوف اذهب للمقبرة غدا وعند قبر سيدي عمر سوف اسقط جردي (عباءته) على القبر ثم اذهب، ذهبنا إلى المقبرة على الأرجل كأننا نزور القبور، من بعيد شاهدنا سقوط جرد الشيخ مصطفى المدلقم.

هكذا عرف قبر الشيخ عمر المختار وكان ذلك في عام 1935.

قامت الحرب العلمية الثانية فذهبت بنا السبل إلى ان التقيت في مرسى مطروح مع مجموعة من الليبيين منهم المرحوم اسعد بن عمران الذي قال : إنهم ينوون إقامت ضريح على قبر الشهيد المختار وإنهم جمعوا المال لذلك، اعتذرت عن ذلك لأننا لا نبني للقبور أضرحة واقترحت عليهم إقامت جمعية تحت اسم عمر المختار، بعد ذلك بحوالي أسبوع مرض اسعد بن عمران ونقلناه للقاهرة وبقيت إلى جانبه في المستشفى حتى توفاه الله في الأسبوع الثاني ودفناه على الطريقة الليبية بالقاهرة.

فيما بعد جمعت مع الجماعة عددا من قوانين الجمعيات والأحزاب والنوادي في مصر، منها حزب الوفد وعدت لنؤسس الجمعية التي طرحنا في البداية ان يكون سكرتيرها السيد إبراهيم الشريف، وقد كنا نريدها جمعية رياضية ثقافية اجتماعية لنبعد الشبهات، اتصلنا بالكولونيل طومسون رئيس بلدية بنغازي – في أيام الإدارة البريطانية – وهو مستشرق، وقد تساءل: كيف تؤسسون جمعية رياضية وتحت اسم عمر المختار، قلت له ان حياتنا رياضية ونحن نحب الرياضة ونمارسها وعمر المختار هو رمزنا، وقد منحنا الترخيص وذلك في مارس 1943.

لم نكن منذ البدء ننوي نشر أي كتاب عن أعمال الجمعية، وفي إحدى المرات اتصلت بالمرحوم مصطفى بن عامر لكي نعد وننشر كتابا عن الجمعية، لكن الأستاذ مصطفى بن عامر رفض ذلك؛ وذكر بأننا اتفقنا منذ البداية على العمل ونكران الذات، وقد ذكرته بأن الأجيال لا تعرف شيئا عن العمل الوطني، وان لا احد يذكر جمعية عمر المختار، وأن هذا تاريخ البلاد ولكنه رفض.

وهكذا لم ينشر أي شيء عن الجمعية.

( 3 )

هذا تقريبا ما ذكره الدكتور المهدي المطردي، وفيما يخص الفقرة الأخيرة الخاصة بعدم نشر أي شيء عن الجمعية يقول الأستاذ محمد بشير المغيربي في الكتاب الذي نحن بصدده في القسم الرابع تحت عنوان جمعية عمر المختار ومصر الصفحة 460: “لم يكن لرجال الجمعية اهتمام بالجانب الإعلامي في نشاطهم السياسي، فلم تكن لنا صلة بالمؤسسات الصحفية من جرائد ومجلات، رغم ان القضية الليبية كانت مطروحة على مستوى الدولي.

وكان لجمعية عمر المختار دور في كل تطور لهذه القضية، وكنا نكتفي بتحركنا في الداخل بما نسجله من مواقف ونعبر عنها في جريدة الوطن الأسبوعية التي لا يتجاوز توزيعها البلاد الليبية، غير مكترثين أكان لعملنا صدى في الخارج أو لم يكن. والحقيقة ان هذه العزوف لم يكن سياسة مرسومة في جمعيتنا ولكنه موقف تلقائي لم نفكر في مناقشته؛ كان الأمر الطبيعي هو ما نحن عليه“.

وإذا استعرضنا الكتاب بعد هذه التقدمة لما أثاره فإن الغلاف يضم صورة للشهيد عمر المختار والصورة شهيرة للمختار ولفيف من الفاشيست عقب أسره، ولكن في النسخة التي بين يدي هي صورة غير واضحة لسوء الطباعة.

وفي الصفحة الداخلية الأولى رسالتان من الشيخ عمر المختار إلى المدعو عبود بك أبو راشد الذي كان يشغل منصب ترجمان لدى السلطات الايطالية آنذاك، ثم رسالة من السيد أحمد الشريف السنوسي قائد الجهاد حتى نهاية الحرب العالمية الأولى إلى السيد مصطفى بن عامر رئيس جمعية عمر المختار فيما بعد.

يعقب ذلك المرثية الشهيرة في عمر المختار التي كتبها الشاعر أحمد شوقي:

في ذمة الله الكريم وحفظه .. جسد ( ببرقة ) وسد الصحراء

ثم مقدمة الكتاب التي كتبها الأستاذ محمد بشير المغيربي، وقد وضح فيها دوافعه لإصدار هذا الكتاب حيث ذكر: “إنها ليست محاولة كتابة تاريخ هذه المؤسسة أو لكتابة تاريخ ليبيا الحديث فذلك ليس في مقدوري؛ فلست مؤرخا، إلى أن يقول إذن فإن ما نحن بصدده ليس رواية تاريخ ولا سرد مذكرات انه توثيق لإعمال وقعت، يمكن للكاتب المتخصص في التاريخ أن يجد فيها المادة الموثقة التي تمكنه من تحليل الأحداث وتعليل الواقع“.

ولقد قام الأستاذ المغيربي بتجميع لعدد كبير من مقالات صحيفة الوطن تبين موقف الجمعية من قضية ليبيا في النصف الثاني من الأربعينات وبداية الخمسينات، ومثل هذا التجميع لمثل هذه الوثائق الهامة يتيح للدارسين العرب ان يدرسوا موضوعا جديدا بتوفر معلومات كان من الصعوبة الحصول عليها لمثلهم.

كذلك فإن هذه المقدمة تحتوي علي نقد ذاتي حول التقصير في عدم جمع وثائق الجمعية التي تبعثرت أو ضاع جلها، وعدم كتابة يوميات أو مذكرات. ويذكر عدم تمكنه من الحصول على جريدة (برقة الرياضية) لسان حال الجمعية التي غير اسمها إلى (الوطن) فيما بعد، ولا الحصول على إعداد من مجلات الجمعية مجلة (عمر المختار) أو مجلة (ليبيا)، والحقيقة ان الكثير من إعداد هذه المجلات محدودة من حيث الكمية وفترة الصدور لكن ما نشر منها متوفر.

يتبع

***

أحمد الفيتوري ـ كاتب وصحفي ليبي ولد عام 1955 في مدينة بنغازي. بدأ مهنته كصحفي في سن صغيرة. شارك في تأسيس فرقة مسرحية وعمل كمحرر لمجلة من المنزل وتابع العمل ليصبح مراسلا ثقافيا في صحف مثل الفجر الجديد والملحق الثقافي. اعتقل من قبل السلطات الليبية مع مجموعة من الكتاب والصحفيين وحكم عليهم بالمؤبد بتهمة التأسيس والانضمام لحزب شيوعي يستهدف إسقاط نظام الحكم والاستيلاء على السلطة سنة 1978 وأطلق سراحه بعد عشر سنوات يوم 3 مارس 1988.

________________

المصدر: موقع جيل ـ يونيو 2006

مقالات

1 Commentاترك تعليق

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *