سالم الكبتي

وتواصلا لما تم ذكره سابقا وتوكيدا له فإن الحياة المدنية الجديدة استوعبها تماما السيد السنوسي الاطيوش بعد إقالته من الجيش. فإضافة إلى اختياره وزيرا ظل أيضا نائبا في البرلمان عن منطقة النوفلية وأضحى يفوز بالتزكية هناك، فيما باشر اللواء نوري الصديق مهامه بدلا منه.

كان صاحب أطول فترة زمنية من سابقيه يقضيها رئيسا للأركان في الجيش الليبي إلى أواخر 1968. نقل من الجيش إلى الحياة المدنية أيضا ومباشرة عُيّن شيخا بمجلس الشيوخ.

هذه الفترة الطويلة شهدت العديد من الأحداث والمتغيرات والتطورات داخل الجيش. فقد تأسس السلاحان الجوي والبحري عام 1962 وزارت وفود عسكرية برئاسة اللواء الصديق باكستان والصين الوطنية وصار ثمة لجنة لإعادة تنظيم الجيش برئاسة العقيد عبد العزيز الشلحي مدير إدارة التدريب وتكونت منظومة للدفاع الجوي واستمر تطوير الكلية العسكرية مع مزيد الإيفاد للبعثات من الضباط للتدريب في الخارج، خاصة في كل من الولايات المتحدة وبريطانيا، في مختلف الصنوف العسكرية وإجراء المناورات وتفويج العديد من الجنود المستجدين من أساس التدريب. وصدر قانون التجنيد الإجباري للمواطنين في أبريل 1967.

ثم خلال حرب يونيو واشتعال المنطقة العربية بالأحداث المعروفة والمواجهة مع إسرائيل في ثلاث جبهات عبر سوريا والأردن ومصر أعلنت حالة الطواريء على مستوى الجيش وصدرت أوامر من الملك باعتباره القائد الأعلى بالمشاركة في هذه المواجهة وتكون لواء من الجيش لتنفيذ ذلك وتحرك نحو الحدود إلى البردي بإمرة المقدم طاهر بوقعيقيص.

لم يتمكن اللواء المذكور من المساهمة في الجهد الحربي وقضى أياما هناك عاشت فيها ليبيا أجواء الحرب والمعركة ونتيجة لهذه الحالة في منطقة الحدود اجتاز مجموعة من الضباط الحدود بمدرعاتهم ودخلوا إلى السلوم وهم: خليفة عبد الله وعمر الواحدي وحسين الكاديكي وسليم الحجاجي صحبة بعض الجنود وضباط الصف، وخلال هذه الاجتياز أصيب آمرهم فتح الله عزالدين بطلقات في إحدى يديه بعد أن حاول منعهم من ذلك.

اعتبروا هاربين ولاحقتهم غيابيا إجراءات عسكرية لمخالفتهم التعليمات والأوامر. الجنود وضباط الصف عادوا إلى البلاد بعد فترة قصيرة.

تزامن ما حدث في الحدود مع مصر قيام الطيار مفتاح الشارف ورفيقه الملاح الجوي فتحي بن طاهر باللجوء إلى الجزائر بدافع المساهمة في المجهود الحربي العربي، وبعد أشهر بسيطة قامت السلطات الجزائرية بإعادة الطائرة إلى ليبيا ثم تسليمهما ومثولهما أمام محكمة عسكرية قضت عليهما بالسجن الذي انتهى بتغيير الوضع في البلاد في سبتمبر 1969.

هذه التداعيات لعلها أشارت بطريقة أو بأخرى إلى أن هناك عدم رضا عند بعض الضباط بصورة واضحة نتيجة لما حدث في تلك الظروف وقاموا بما اعتبروه واجبا وطنيا وقوميا وصل إلى حد مخالفة الأوامر وما يقارب التمرد أو العصيان، وهو وإن تزامن في الوقت وتقارب في الفعل والعمل فإنه وقع بطريقة لا تدل على وجود تنظيم أو خلية تضم هؤلاء الضباط داخل الجيش وإن كانت هذه الطريقة توحي أو تظهر بأنها عمل منظم ومتفق عليه.

وفي مسار هذه الأحداث شهد الجيش محاكمة للضابط عمران خفاجي الذي أخرج من الجيش بمرسوم ملكي في مارس 1967. تردد بأنه اتهم بعلاقة خارجية مع إحدى الدول المجاورة جعلته محل شك وقادته إلى الاتهام والمحاكمة، ثم الإخراج إلى الحياة المدنية.

كل هذا يعطي للمتابع أو الباحث انطباعا بأن ثمة تحركات أو نوايا عند بعض الضباط مع هذه الفترة التي واكبت التطور في الجيش.

ومع هذا كله أيضا شهدت الفترة الطويلة لرئيس الأركان، وهو السادس في تاريخ الجيش، صدامات أو احتكاكات وإن لم تلح واضحة وسط الرأي العام الذي كان على استعداد لالتقاط كل التصورات وما يدور في الخفايا ويعكسها على واقع الحال.. ظلت تنشأ بين حين وآخر بين الرئيس ومدير التدريب ورئيس لجنة إعادة تنظيم الجيش.

في تلك الأزمة العسكرية الصامتة استطاع حسين مازق رئيس الحكومة وقتها وعبر وجود وزير الدفاع بوسيف ياسين احتواء ما يدور حفاظا على توازن الجيش وقد وصل ذلك الأمر إلى الملك ووافق على هذه الخطوات من جهته.

غير أنه في فترة رئاسة عبد الحميد البكوش (1967-1968) اتسع الخرق بين الاثنين وإن ظل صامتا يدور في كواليس رئاسة الأركان في البيضاء المجاورة لمقر الحكومة وانتهى بتعيين اللواء الصديق الذي وصل إلى رتبة فريق، وهو أول من نالها في مسيرة الجيش في العهد الملكي في مجلس الشيوخ، وخلفه نائبه اللواء السنوسي شمس الدين صهر العقيد الشلحي.

زمن اللواء الصديق في الجيش شهد أيضا واقعة خطيرة، فقد اغتيل نائبه العقيد إدريس العيساوي في ديسمبر 1962 على الطريق المؤدي لمدخل الكلية العسكرية في بنغازي. وترتب عن ذلك إعلان الطواريء داخل صفوف الجيش من قبل رئيس الأركان توقيا لأي فعل مضاد.

عُرف العيساوي بصرامته وحرفيته العسكرية المنضبطة داخل الجيش وكان يعيش عزبا طوال حياته في الثكنات ما بين معسكر البركة وحامية المرج وغيرهما بحكم ظروف العمل.

كان آمرا لكتيبة إدريس الأول وشهد جلاء القوات الفرنسية عن قلعة سبها عام 1956 ثم معركة إيسين ضد القوات الفرنسية عام 1957 إضافة إلى خبرته الحربية القديمة خلال مشاركته متطوعا مع كثير من الليبيين في حرب فلسطين عام 1948 وكان أيضا أول آمرٍ للكلية العسكرية الملكية عند تأسيسها عام 1957 وترأس بعض المحاكم العسكرية لمجموعات من الضباط في قضايا مختلفة.

حادثة الاغتيال التي شغلت بال الجيش والناس مرت دون الوصول إلى القاتل الحقيقي وصاحب الجرم أو من وراءه وظلت أسباب الاغتيال مجهولة إلى حد كبير.

فهي، حسب ما تردد، لم تتعلق بأمر سياسي أو عسكري مخالف ارتكبه أو قام به العقيد العيساوي. ورغم أن الاتهامات تطايرت لتشمل بعض مراكز النفوذ العليا في الجيش غير أنها لم تصح تماما لدى أجهزة التحقيق.

في الجنازة وعد رئيس الأركان في كلمته مؤبنا نائبه في مقبرة سيدي اعبيد بالكشف عن القاتل. وهو أمر لم يتم لظروف أيضا ظلت غير معروفة حتى الآن أو ربما إغلاقا لأبواب لا داعي لفتحها والدخول من خلالها.

آخر نشاط للعقيد العيساوي تمثل في مرافقته للأمير الحسن الرضا ولي العهد الذي ظل دائما على ثقة مستمرة به أثناء زيارته لأمريكا في أكتوبر 1962 قبل واقعة الاغتيال بشهرين. فهل ثمة تداعيات أو خيوط غير مرئية لهذه الثقة أو العلاقة أو الزيارة خاصة وأنه تردد في وثائق الدولة الأمريكية أن الرئيس جون كنيدي عقد لقاء سريا مع الأمير وعرض عليه تغييره ملكا على ليبيا بدلا من عمه الملك إدريس، وهو أمر رفضه الأمير جملة وتفصيلا.

والواقع أن أسلوب التصفيات الجسدية لم يكن مألوفا أو معروفا في الحياة السياسية أو العسكرية في العهد الملكي، ولكن حادثة اغتيال العيساوي تركت كثيرا من التكهنات والأقاويل وخلقت أجواء مفعمة بالاحباط والتشاؤم لدى الكثيرين في الجيش وخارجه أيضا، فقد كان للعيساوي (مجموعته) من الضباط الذين يحترمونه ويقدرون تجربته إضافة إلى العديد من أصدقائه المدنيين، ولا شك أن عدم البت في مواصلة التحقيقات أجج المزيد من اليأس.

الملك نفسه، تلك الأيام، تابع مجريات الأمور والتحقيقات شخصيا. لكنها توقفت ولم تتواصل. ربما العامل الحقيقي غير المعلن أو المعروف على مستوى الدولة أو البعض بقى حبيسا في الصدور ولم يرد الكشف عنه بأية حال حتى بعد سبتمبر 1969 أثناء النظر في قضايا محكمة الشعب وما يتصل بإفساد الجيش لم تعرض الحادثة أو يشر إليها على الإطلاق وتوقفت عند التحقيقات مع من طالتهم التهمة من كبار العسكريين ولم تغادر مكتب الادعاء العام أو التحقيقات داخل سجن الحصان الأسود!
ذلك كله وغيره من تفاصيل مجهولة خلقت تيارات وانعكاسات داخل الجيش ظهرت لتتجدد مع هذه الحالات وأدت إلى تشكيل تنظيم سري جديد من بعض الضباط عام 1968.. التقى رئيسه مباشرة بولي العهد وفاتحه في وضع البلاد والرغبة في التغيير.
فماذا حدث في هذا اللقاء؟!
______________

مقالات

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *