عمر الكدي

الانقلاب على الرفاق

عرفنا تقييم فتحي الديب لمعمر القذافي، فكيف كان تقييمه للرجل الثاني عبدالسلام جلود.

يقول الديب عن جلود «ذكي، يتميز بالقدرة على الاستيعاب. ظاهره العنف والشدة والحزم، وباطنه يتسم بالطفولة التي تبرز من خلال سلوكه وتصرفاته. يتمتع بقدرة على كسب ثقة العامة من خلال بساطته وقدرته على حل مشاكل الجماهير دون التقيُّد بالنظم والقوانين. غير قادر على تقييم الأشخاص وكثيراً ما ينخدع بمظهرهم».

أما أبوبكر يونس جابر فوصفه الديب بأنه رجل طيب، وأنه غير كفوء لقيادة الجيش ولكنه على ولاء كامل للقذافي، كما أن تقييمه للخويلدي الحميدي ولمصطفى الخروبي كان سلبياً، بينما أشاد بعبدالمنعم الهوني وقدرته على الاستيعاب السريع.

أما عمر المحيشي فصنفه كخطر محدق بالقذافي، ولأن الديب ارتكب خطأ في الجزائر عندما راهن على أحمد بن بله، ولم ينتبه لخطورة وزير الدفاع العقيد هواري بومدين، الذي انقلب على بن بله وخسر النظام الناصري حليفاً وفياً، لذلك احتاط لأي تغيير مفاجئ في ليبيا قد يقوده المحيشي، فرتب للمحيشي وزير الصناعة لقاء مع الرئيس عبدالناصر عند زيارته للقاهرة اتسم بالود المتبادل.

ونجح الديب في التوسط بين القذافي وأعضاء مجلسه الانقلابي عدة مرات، وبدأ يلاحظ الوجه المخفي للقذافي الذي عامل زملاءه بازدراء شديد موجهاً لهم السباب بكلمات نابية.

في ذلك الوقت أحاط القذافي نفسه بأقاربه وعلى رأسهم حسن اشكال وخليفة احنيش، اللذين كانا يحذرانه من مصير بن بله، لهذا سلم الجيش لأكثر اثنين يثق بهما وهما أبوبكر يونس ومصطفى الخروبي، وبعد مؤامرة آدم الحواز وموسى أحمد، اكتشف الديب مؤامرتين الأولى عرفت بمؤامرة فزان، والثانية بمؤامرة بنغازي.

حتى الآن لا نعرف لماذا أعدم القذافي آدم الحواز، واكتفى بسجن موسى أحمد حتى إطلاق سراحه عام 1988، ربما لأن الحواز رفض الكشف عن أعضاء تنظيمه في الجيش مما يجعله خطراً حتى وهو في السجن، كما أصر على أنه الأب الروحي لتنظيم الضباط الوحدويين الأحرار.

ظلت علاقة القذافي متوترة مع أعضاء مجلس انقلابه حتى عام 1973، عندما طالبت الأغلبية بتسليم السلطة للمدنيين وعودتهم إلى ثكناتهم، فطلب منهم الانتظار حتى يلقي خطابه في زوارة بمناسبة المولد النبوي ليعلن استقالته، ولكنهم فوجئوا بإقالتهم جميعاً وإعلان الثورة الثقافية، وإلغاء كافة القوانين المعمول بها بما في ذلك الإعلان الدستوري، مما زاد من استياء زملائه.

بعد عامين ضبطت محاولة المحيشي الانقلابية، الذي فر خارج البلاد مع عبدالمنعم الهوني، بينما اعتقل بشير هوادي وأعدم 21 ضابطاً شاركوا في المحاولة، وبعد استقالة القروي وعوض حمزة ومحمد نجم، لم يبق مع القذافي إلا أربعة أعضاء ممن شاركوا في انقلاب سبتمبر من أصل 11 عضواً.

مما سبق نلاحظ الآتي أن القذافي على الرغم من أنه وضع كل البيض في سلة عبدالناصر، إلا أنه حافظ على علاقة جيدة مع الجزائر بقيادة بومدين الذي حذره من عبدالناصر، ووقع اتفاقية مع الجزائر تسمح لشركة النفط الجزائرية بالتنقيب على النفط داخل الأراضي الليبية، بالرغم من أن معظم أعضاء المجلس عارضوا الاتفاقية.

بعد جلاء القوات الأميركية والبريطانية عن قاعدتي الملاحة وطبرق، شعر القذافي بثقة متزايدة سمحت له بإهمال رفاقه الذين تفاجأوا بقرارات اتخذها دون الرجوع إليهم، واستعمل القذافي سلاحه العجيب الذي كان فعالاً حتى سقوط نظامه، وهو سلاح الزعل «الحرج» والتهديد بالاستقالة، غير مدركين أن أقاربه صاروا أكثر نفوذاً منهم.

بعد سنوات قام القذافي بالتخلص حتى من أقاربه، مثلما حدث مع حسن اشكال الذي قُتل بعد استدعائه لباب العزيزية، وإبعاد خليفة احنيش عن الجيش وتكليفه بملف القبائل.

اعتمد القذافي على معاونين لا يناقشون أوامره، معظمهم من قبائل هامشية مثل عبدالله السنوسي الذي كان يردد أن القذافي إذا طلب منه قتل ابنه فإنه لن يتردد، وأحمد رمضان الأصيبعي و بشير حميد التاورغي، و بشير صالح الفزاني، و عبد الله منصور و علي الكيلاني، وكان القذافي شديد الفراسة في انتقاء مساعديه واستخدم سلاح المقاطعة لمن يعصي أوامره، فالذي يقاطعه القذافي يقاطعه الجميع ولن يرد أحد على مكالماته، وكأنه يردد قول جرير بن عطية «إذا غضبت عليك بنو تميم حسبت الناس كلهم غضابا».

وعندما توفيت زوجة بشير هوادي وذهب العديد من كبار الضباط إلى ودان لتقديم العزاء لهوادي، أمر القذافي بتخفيض رتبهم العسكرية، وظل هذا السلاح فعالاً لطفل وحيد ولد وسط عدد من البنات كن يلبين طلباته ويحرمن أنفسهن، وإذا تقاعسن «يحرج» ويقاطعهن، إلا أن عقدته الكبيرة كانت مع النساء اللواتي تعرف عليهن بعد انقلابه، ومعظمهن من طرابلس فذابت بين أيديهن شخصيته المتدينة الملتزمة حد التزمت، وتحول إلى رجل داعر لا يمانع من ممارسة الجنس مع واحدة منهن بينما تراقب الأخريات ما يجري.

وجوه القذافي العديدة

ينحدر معمر القذافي من قبيلة القذاذفة وجده الأعلى هو قذاف الدم دفين جبل غان شرق غريان والذي عاش عشيرًا لقبيلة الكميشات راعيًا لماشيتهم، والكميشات قبيلة من قبائل منطقة القواسم شمال غريان، ولأنه وصل وحيدًا فقد زوجوه من أرملة كميشية، لذلك أطلق القذافي على غريان اسم «البلد الأم» عندما زارها في بداية التسعينيات.

وينحدر قذاف الدم من أحد فروع بني سليم، التي وصلت إلى ليبيا في هجرة أولاد هلال وبني سليم من الجزيرة العربية باتجاه المغرب الكبير، واستقرت معظم بطون بني سليم في شرق البلاد ومنهم قبائل السعادي، بينما استقرت بعض بطونها الأخرى في غرب وجنوب البلاد، ومن بينهم القذاذفة والصيعان والنوايل والأصابعة، وامتهن القذاذفة حرفة الرعي لصالح القبائل القوية المحاربة مثل أولاد سليمان وورفلة والزنتان.

وتنقسم القبيلة إلى عدة بطون أصغرها وأقلها شأنًا هي بطن القحوص التي ينحدر منها القذافي، وهذا مهم لمعرفة النفسية شديدة التعقيد التي شكلت وجدان القذافي، فهو لا ينتمي لقبيلة قوية تعودت على السيطرة والحكم، وحتى داخل قبيلته ينتمي إلى أصغر فروعها وأضعفها.

ليس هناك اتفاق حول مولد القذافي وغالبًا ولد بعد نهاية الحرب العالمية الثانية عقب هزيمة القوات الألمانية والإيطالية في ليبيا، ربما عام 1941 أو 1942، كما لا يوجد اتفاق حول مكان ولادته، وغالبًا ولد في بادية سرت أو في الطريق بين سرت وفزان، وتعودت عائلته على التنقل بين بادية سرت وفزان، وأخيرًا سجله والده في مدرسة بسبها حيث أقام في القسم الداخلي، وكان يتردد على بيت محمد قذاف الدم والد سيد وأحمد قذاف الدم، الذي كان يعمل ضابطًا في القوات المتحركة.

كما كان مثله مثل كل أبناء القذاذفة تحت رعاية والي فزان محمد سيف النصر، وهناك تشكل وعيه المبكر وهو يستمع إلى إذاعة صوت العرب وخطب عبدالناصر ويتابع أخبار الثورة الجزائرية، ويخرج في المظاهرات في كل المناسبات، حتى تقرر طرده من مدارس ولاية فزان.

وقبل أن ينتقل إلى مدرسة مصراتة الإعدادية استدعاه البي محمد سيف النصر، وخلال النقاش يبدو أن القذافي كان حادًا فصفعه البي محمد صفعة مدوية، تلك الصفعة التي ستلاحق عائلة سيف النصر في ليبيا وفي المنفى بعد نجاح انقلابه العسكري، ومع ذلك لم يقطع علاقته بأولاد سليمان بشكل كامل، وإنما قرب المهمشين منهم مثل عبد السلام الزادمة و عبد الله منصور.

في مدرسة سبها تعرف القذافي على عبد السلام جلود المقرحي، ومحمد بالقاسم الزوي، وعبدالرحمن الصيد الزوي وأحمد محمود الزوي، وفي مصراتة تعرف على عمر المحيشي الشركسي ومحمد خليل، ومفتاح كعيبة ولكن التنظيم الذي شكله تكامل في الكلية العسكرية في بنغازي، وضم ثلاثة فقط من أبناء المدن هم مختار القروي ابن حي الظهرة في طرابلس، ومحمد نجم وعوض حمزة من مدينة بنغازي، والباقي من البدو أو من ريف المنطقة الغربية، ومنذ البداية قدم أبناء المدن استقالاتهم بعد خطاب زوارة.

وهو يعد لانقلابه كان القذافي مثالًا للشخص الملتزم أخلاقيًا ودينيًا، وهو يتنقل بسيارة الفولكس واجن التي أهداها له علي الفيتوري الورفلي، بعد أن فاتحه للانضمام الى التنظيم فاعتذر الفيتوري، واكتفى بهذه المساهمة.

كان الجيش يعج بالتنظيمات السرية من كل التيارات، وتحاشى القذافي بدهاء الاستعانة بهذه التنظيمات، ولكنه أدرك مبكرًا أن تنظيمه غير قادر على القيام بانقلاب ناجح، وعندها بحث عن ضباط أكبر رتبة من خارج هذه التنظيمات، ووجد مبتغاه في أستاذه بالكلية العسكرية المقدم آدم الحواز الحاسي، والمقدم موسى أحمد الحاسي.

تكفل موسى أحمد بالسيطرة على معسكر القوات المتحركة في قرنادة بالجبل الأخضر، مستعينًا بأبناء قبيلته الذين احتلوا المعسكر من الداخل.

وتولى آدم الحواز الاتصلات باعتباره من كبار ضباط سلاح الإشارة، بينما تكفل أعضاء تنظيمه بالسيطرة على الأماكن الحيوية في بنغازي وطرابلس، وليلة الانقلاب اتضح الوجه المخفي للقذافي، فبينما خرج الجميع للقيام بالمهام المكلفين بها، بقي القذافي في غرفته بمعسكر قاريونس حتى تأكد من نجاح الانقلاب، وعندها اتجه إلى إذاعة بنغازي ليقرأ البيان الأول.

أخفى القذافي نفسه لمدة ثلاثة أيام كما أخفى أسماء كل أعضاء تنظيمه ما عدا موسى أحمد وآدم الحواز، الذي تولى وزارة الدفاع، بينما تولى موسى أحمد وزارة الداخلية ليتخلص منهما بعد ثلاثة أشهر.

في البداية أشاع أن قائد الانقلاب هو العقيد سعد الدين بوشويرب، الذي فصل من الجيش عام 1967 بسبب انتقاده للنظام الملكي وانتمائه للتيار البعثي، وفي الأثناء وصل ضابط المخابرات المصرية فتحي الديب، الذي تولى تأمين الانقلاب، ثم أرسل عبدالناصر حكومة كاملة لتعين الضباط الشباب على إدارة البلاد.

هل كان القذافي على علم بما فعله البعثيون في العراق، عندما أطاحوا بالرئيس عبدالرحمن عارف عام 1968؟ كان عدد المنتسبين لحزب البعث في ذلك الوقت لا يزيد عن 300 شخص، وأدرك صدام حسين أن الحزب لن يستطيع الانقلاب على عارف دون مساعدة من المقربين من عارف، وعلى رأسهم وزير الدفاع حردان التكريتي ومدير المخابرات العسكرية عبدالرزاق النايف، بالرغم من معارضة بقية البعثيين وافق صدام حسين على كل مطالب حردان والنايف، ونجح الانقلاب ليتخلص منهما بعد أسابيع معدودة.

لا أعتقد أن القذافي كان على علم بكل هذه التفاصيل، ولكنه يمتلك نفس العقل التآمري لصدام حسين، وإذا كان صدام حسين قد تخلص من معظم كوادر حزب البعث بعد إقصائه للرئيس أحمد حسن البكر، فإن القذافي أقصاهم جميعًا منذ البداية، وأبقى على من لا يناقشه في التفاصيل وإنما ينفذ أوامره دون نقاش، ومنذ فشل محاولة المحيشي عام 1975 لم يبق معه إلا أربعة من أعضاء مجلس قيادة الثورة،

قبل أن يتخلى عنه جلود عام 1993. كان على القذافي أن يظهر الفارق بينه وبين زملائه للناس، فنظم حملة لإحياء معارك الجهاد ضد الطليان، وطلب منهم المشاركة بينما كان التلفزيون يبث خطاباتهم أمام الجماهير.

مصطفى الخروبي اكتفى بالصمت، بينما قال أبوبكر يونس في خطاب له «أيها الشعب الجمهور»، وفي خطاب آخر قال «أيها الشعب الليبي الشقيق»، بينما قال وزير الداخلية الخويلدي الحميدي «إن الشرطي العربي الليبي في عهد ثورة الفاتح من سبتمبر يفهمها وهي طايرة»، وذات مرة قال للأدباء والكتاب «لا تقل امرأة بين ظفري ولحمي قل إنك تكره الثورة»، أما جلود فكان يبدأ خطاباته بشكل معقول ثم ينسى ما كان يتحدث عنه وينتقل إلى نقطة أخرى، بينما يحرك رأسه بعصبية وعيناه تحدقان في الجمهور مثل عيني ثعبان.

يتبع
____________

مقالات

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *