هكذا تحققت نبوءته بأن عمره أطول من عمر شانقيه
زايد هدية
“أما أنا فإن عمري أطول من عمر شانقي“، تسعة عقود مضت على نطق رمز المقاومة
الليبية للاستعمار الإيطالي عمر المختار لهذه الجملة في وجه القائد الأعلى لقوات روما في بلاده غرسياني قبل يوم واحد من تنفيذ حكم الإعدام فيه.
وكل يوم تتأكد صحة هذه المقولة فلا أحد اليوم يتذكر من شنق “أسد الصحراء” كما كان يسمى، لكن الجميع يتذكر المختار ويعرف أفعاله التي أعطته هالة أسطورية حتى بات رمزاً عالمياً للنضال تتناقل سيرته الأجيال.
على رغم كل الانقسامات والصراعات السياسية والقبلية والعسكرية، التي عرفتها ليبيا منذ بداية القرن الماضي، والخلافات التي تسببت بها حول كل الشخصيات التي قادت هذه المراحل، لكن الاسم الوحيد الذي يتفق سكانها على احترامه وتبجيله وحبه هو عمر المختار المنفي الذي بات أيقونة البلاد وملكها المتربع على عرش القلوب.
طفولة صعبة
سيرة المختار وشجاعته النادرة في الدفاع عن وطنه هي من منحته هذه المكانة الفريدة داخل البلاد وخارجها، ولد عمر المختار عام 1862 في قرية جنزور قرب مدينة طبرق غير بعيد من الحدود المصرية وتربى يتيماً حيث توفي والده مختار بن عمر وهو في طريقه إلى الحج بمكة، بصحبة زوجته عائشة، بعد فترة قصيرة من ولادته.
وتلقى عمر المختار تعليمه الأول على يد كبار علماء ومشايخ الحركة السنوسية “حركة دينية صوفية” في مقدمتهم الإمام المهدي السنوسي قطب الحركة فدرس اللغة العربية والعلوم الشرعية وحفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب، وهذا الارتباط المبكر بالحركة السنوسية كان له أثر كبير على حياته كلها بعد ذلك.
وبسبب ظهور علامات النجابة ورزانة العقل عليه مبكراً استحوذ على اهتمام ورعاية أستاذه المهدي السنوسي الذي قال فيه “لو كان عندنا 10 مثل عمر المختار لاكتفينا بهم” وكان من أبرز صفاته بحسب معاصريه والمدونين لسيرته عذوبة لسانه وبروزه في فن الخطابة وجاذبية ساحرة لدرجة السيطرة على مستمعيه وشد انتباههم.
بداية النضال
مع بداية الاحتلال الإيطالي لليبيا عام 1911 لعب عمر المختار دوراً بارزاً في قيادة المقاومة الليبية في شرق البلاد منذ بدايتها وعندما بدأت البارجات الحربية في قصف مدن الساحل الليبي في درنة وطرابلس ثم طبرق وبنغازي والخمس، كان المختار مقيماً في جالو بالجنوب الشرقي وسارع إلى مراكز تجمع المقاتلين حيث أسهم في تأسيس دور بنينة (قطاع مقاوم) قرب بنغازي وتنظيم المقاومة.
وشهدت تلك الفترة التي أعقبت انسحاب الأتراك من ليبيا سنة 1912 أعظم المعارك في تاريخ المقاومة الليبية التي كانت الغلبة فيها بشكل مستمر للمقاتلين المحليين على رغم فارق العدة والعتاد والسبب في رأي كثير من المؤرخين يرجع لحسن القيادة التي كان على رأسها عمر المختار.
من أبرز معارك المقاومة في تلك الفترة معركة “يوم الجمعة” قرب درنة في الـ16 من مايو (أيار) 1913، حيث قتل فيها للإيطاليين 10 ضباط و60 جندياً و400 فرد بين جريح ومفقود إلى جانب انسحاب الإيطاليين بلا نظام تاركين أسلحتهم ومؤنهم وذخائرهم.
سنوات الحسم
شهدت إيطاليا بداية من عام 1922 تغييرات كبيرة بعد الانقلاب الفاشي بقيادة القائد الشهير بينيتو موسوليني، في أكتوبر (تشرين الأول) من ذلك العام، انعكست على الأوضاع داخل ليبيا واشتدت الضغوط على محمد إدريس السنوسي أمير برقة حينها وملك ليبيا بعد عقود واضطر إلى ترك البلاد عاهداً بالأعمال العسكرية والسياسية إلى عمر المختار.
على رغم كل التضييق الذي مارسته إيطاليا على عمر المختار ومن معه من المقاتلين لكن حركة المقاومة واصلت الصمود وهزمت القوات الإيطالية في أكثر من معركة أخرى وغنمت المزيد من السلاح مما دفع الحكومة في روما لاتخاذ إجراءات جديدة أكثر وحشية ضد المناهضين لها في ليبيا.
بدأت هذه الإجراءات باتخاذ موسوليني قراراً بتغيير القيادة العسكرية، حيث عين بادوليو حاكماً عسكرياً على ليبيا في يناير (كانون الثاني) 1929، ويعد هذا التغيير بداية المرحلة الحاسمة بين الطليان وحركة المقاومة الليبية.
خديعة السلام
تظاهر الحاكم الجديد لليبيا برغبته في السلام لإيجاد الوقت اللازم لتنفيذ خططه وتغيير أسلوب القتال لدى جنوده وطلب مفاوضة عمر المختار تلك المفاوضات التي بدأت في الـ20 من أبريل (نيسان) 1929.
واستجاب الشيخ الليبي لنداء السلام، فذهب للقاء القادة الطليان في الـ19 من يونيو (حزيران) 1929 ورأس الوفد الإيطالي بادوليو نفسه. وعندما وجد المختار أن تلك المفاوضات تطلب منه إما مغادرة البلاد إلى الحجاز أو مصر أو البقاء في برقة والاستسلام مقابل الأموال والإغراءات رفض كل تلك العروض وأخبرهم أنه اختار خياراً ثالثاً وهو مواصلة القتال حتى النصر أو الموت وقال لهم جملته الشهيرة “ما أردتم السلام إنما أردتم الوقت“.
تبين للمختار نوايا الإيطاليين فوجه نداء في الـ20 من أكتوبر 1929 إلى أبناء وطنه طالبهم فيه بالحرص واليقظة أمام ألاعيب الغزاة وصحت توقعاته ففي الـ16 من يناير 1930 ألقت الطائرات الإيطالية بقذائفها على المدن الليبية، وكانت هذه أول مرة تستخدم فيها الطائرات الحربية لقصف المدن في التاريخ.
مرحلة الإبادة
مع فشل المحاولات الإيطالية لكسر المقاومة الليبية وقائدها عمر المختار، عين موسوليني رودولفو غرسياني وهو أكثر جنرالات الجيش وحشية ودموية، ليقوم بتنفيذ خطة إفناء وإبادة للمقاومين وقد تمثلت في عدة إجراءات ذكرها غرسياني في كتابه “برقة المهدأة“.
وشملت هذه الإجراءات قفل الحدود الليبية المصرية بالأسلاك الشائكة لمنع وصول المؤن والذخائر وإنشاء المحكمة الطارئة في أبريل (نيسان) 1930 وفتح أبواب السجون في كل مدينة وقرية ونصب المشانق وتخصيص مواقع العقيلة والبريقة والمقرون وسلوق لتكون مواقع الاعتقال والنفي.
وركز الشق العسكري منها على العمل على حصار المقاتلين في الجبل الأخضر واحتلال الكفرة مركز القيادة السنوسية، التي ألقت الطائرات الإيطالية عليها نحو نصف طن من القنابل، وفي الـ28 من يناير 1931 سقطت المدينة بيد القوات الإيطالية وكان لسقوطها آثار سلبية كثيرة على المقاومة.
سقوط الفارس
وفي الـ11 من سبتمبر) أيلول) من عام 1931، وبينما كان الشيخ عمر المختار يستطلع منطقة الجبل الأخضر في كوكبة من فرسانه، عرفت الحاميات الإيطالية بمكانه فأرسلت قوات لحصاره ولحقها تعزيزات، واشتبك الطرفان في أحد الأودية ورجحت الكفة للقوات الإيطالية فأمر عمر المختار بفك الطوق والتفرق، لكن قتلت فرسه تحته وسقطت على يده مما شل حركته نهائياً، فلم يتمكن من تخليص نفسه ولم يستطع تناول بندقيته وسرعان ما حوصر من كل الجهات وتم التعرف على شخصيته.
نقل القوات الإيطالية عمر المختار على الفور إلى مرسى سوسة ومن ثم نقل رأساً في سفينة إلى بنغازي حيث أودع السجن ولم يستطع الطليان نقل الشيخ براً لخوفهم من تعرض المجاهدين لهم في محاولة لتخليص قائدهم.
كان لاعتقال المختار صدى كبير في إيطاليا قبل ليبيا حتى إن غرسياني لم يصدق ذلك في بادئ الأمر وكان غرسياني في روما حينها واستقل طائرة خاصة وهبط ببنغازي في اليوم نفسه، وطلب إحضار عمر المختار إلى مكتبه لكي يراه بأم عينيه.
اللقاء التاريخي
وصل غرسياني إلى بنغازي في الـ14 من سبتمبر وأعلن عن انعقاد “المحكمة الخاصة” في الـ15 من سبتمبر 1931 وفي صبيحة ذلك اليوم وقبل المحاكمة رغب في الحديث مع عمر المختار.
يذكر غرسياني في كتابه “برقة المهدأة” تفاصيل اللقاء الشهير قائلاً “وعندما حضر أمام مكتبي تهيأ لي أن أرى فيه شخصية آلاف المرابطين الذين التقيتهم أثناء قيامي بالحروب الصحراوية، يداه مكبلتان بالسلاسل، على رغم الكسور والجروح التي أصيب بها أثناء المعركة وكان وجهه مضغوطاً لأنه كان مغطياً رأسه ويجر نفسه بصعوبة نظراً إلى تعبه أثناء السفر بالبحر . وفي الإجمال يخيل لي أن الذي يقف أمامي رجل ليس كالرجال له منظره وهيبته على رغم أنه يشعر بمرارة الأسر، ها هو واقف أمام مكتبي نسأله ويجيب بصوت هادئ وواضح“.
ونقل القائد الإيطالي بالتفصيل ما جرى في الاستجواب القصير الذي أجراه للمختار بمكتبه الذي
كان كالتالي:
غرسياني: لماذا حاربت بشدة متواصلة الحكومة الفاشستية؟
المختار: من أجل ديني ووطني.
غرسياني: ما الذي كان في اعتقادك الوصول إليه؟
المختار: لا شيء إلا طردكم لأنكم مغتصبون أما الحرب فهي فرض علينا وما النصر إلا من عند الله.
غرسياني: لما لك من نفوذ وجاه في كم يوم يمكنك أن تأمر الثوار بأن يخضعوا لحكمنا ويسلموا أسلحتهم؟
المختار: لا يمكنني أن أعمل أي شيء نحن الثوار سبق أن أقسمنا أن نموت كلنا الواحد بعد الآخر ولا نسلم أو نلقي السلاح.
وأضاف غرسياني “وعندما وقف ليتهيأ للانصراف كان جبينه وضاء كأن هالة من نور تحيط به فارتعش قلبي من جلالة الموقف، أنا الذي خاض معارك الحروب العالمية والصحراوية ولقبت بأسد الصحراء وعلى رغم من هذا فقد كانت شفتاي ترتعشان ولم أستطع أن أنطق بحرف واحد، فأنهيت المقابلة وأمرت بإرجاعه إلى السجن لتقديمه إلى المحاكمة في المساء وعند وقوفه حاول أن يمد يده لمصافحتي ولكنه لم يتمكن لأن يديه كانت مكبلة بالحديد“.
وفي الـ16 من سبتمبر من عام 1931 أعدم عمر المختار بقرية سلوق بعد يوم واحد من محاكمة صورية عقدت له، لتنتهي بعده المقاومة الليبية للاستعمار الإيطالي، لكن تخليد التاريخ أكد نبوءته
الغريبة وبقي عمره أطول من عمر شانقيه.
_________________