محمود الغتمي
الأستاذ أحمد أبوعرقوب، والشيخ سالم بوكر: “اتقِ شرّ من أحسنت إليه“وحكاية الجاسوس عبدالله الصيادي.
***
بعد دخول الجيش الثامن البريطاني إلى طرابلس في يوم 23 يناير 1943م أثناء الحرب العالمية الثانية، وانسحاب القوات الإيطالية من ليبيا وهزيمتها، جاء مع الجيش البريطاني بعض المترجمين والإداريين العرب أكثرهم من مسيحيي بلاد الشام، لا سيما من فلسطين، وسَلّمتهم الإدارة البريطانية بعض المناصب المدنية والعسكرية من أجل خدمة أهداف السياسة الاستعمارية، لأنهم عرب ويتكلمون اللغة العربية، ولمعرفتهم أكثر من غيرهم بعقلية السكان العرب للبلاد، وكان ولاؤهم تاماً لتلك الإدارة التي كانت تمثل دولةً عظمى في أواخر مجدها الإمبراطوري، وانتشر أولئك الموظفين في معظم أنحاء ليبيا.
وفي سنة 1943م كان الأستاذ أحمد أبوعرقوب (1916-1994م) مديراً لمدرسة صياد الابتدائية، والشيخ سالم بوكر (1911-1984م) مُعلّماً بالمدرسة نفسها، وبمرور الوقت بدأ شخص غريب يرتدي أسمالاً بالية ويُطلق لحيته وشعر رأسه بالظهور في محيط المدرسة، ويجلس في الدكاكين القريبة منها، أحياناً يشرب الشاي لو دعاه أحد التجار، أو يحصل على قطعة خبز يسد بها رمقه، وكانت ملامحه تدل أنه كان يعيش في نعمةٍ سابغة، فبياض بشرته، واخضرار عينيه وثقافته وحديثه يدل على غير مظهره، ورويداً رويداً أخذ في التعرف على تلاميذ المدرسة والاختلاط بهم، وكان يجيبهم على بعض الأسئلة المعقدة، ويساعدهم في كتابة الواجبات، وأحياناً كان يعطيهم بعض الألغاز والأحاجي التي تدل على ثقافة رصينة
كان الأستاذ أحمد أبوعرقوب في كل مرة يسألهم من يكتب لكم ذلك؟، فيخبرونه بأنه أحد الدراويش الذي كان يتخذ من الدكاكين المجاورة للمدرسة سكناً، فطلب منهم ذات مرة أن يخبروه بأن مدير المدرسة يريد مقابلته.
جاء الغريب وسلّم عليه وسأله ما اسمك؟ فأجابه: عبدالحكيم، ما جنسيتك؟، تونسي، فرحب به الأستاذ أحمد عندما أخبره أنه من تونس، واستفسر منه ما قصتك؟، ولماذا أنت هنا وعلى هذه الصورة من الفقر والعوز؟
أخبره أنه كان يَدْرُس في فرنسا منذ سنة 1936م، وأنه ابن كاهية تونس (رئيس الوزراء)، وفي إحدى المناسبات الوطنية في فرنسا ألقيت كلمة في الجامعة انتقدت فيها السياسة الاستعمارية لفرنسا في تونس، وشتمت فيها كبار المسؤولين الفرنسيين، فوضعتني السلطات الفرنسية تحت المراقبة المشددة.
هربت إلى ليبيا، وأنا الآن أتحيّن الفرصة للرجوع إلى تونس، وعندما لاحظ الأستاذ أبوعرقوب أن لهجته بعيدة عن اللهجة التونسية وأقرب إلى اللهجات الشامية سأله عن ذلك؟، فأجابه المدعو عبدالحكيم أنه سافر بعد وصوله إلى ليبيا المرة الأولى إلى مصر، ودَرَس فترة هناك، ثم ذهب إلى سوريا وتعلّم فيها أيضاً، وسمّى له مجموعة من العلماء والمثقفين في مصر، وسوريا الذين دَرَس عليهم وعَرَفهم عن قرب، ثم عاد إلى ليبيا مرة أخرى.
تعاطف معه الأستاذ أبوعرقوب والشيخ سالم بوكر بعد كل تلك القصة التي سمعاها، وطمأناه أنهما لن يتركاه في هذه الحالة المزرية إكراماً له ولوطنيته وغيرته على بلاده تونس.
أخذاه إلى زاوية عمورة القريبة من صيّاد، وأسكناه في خلوةٍ من خلاوي الزاوية المباركة، واشتريا له كسوة كاملة، وزوداه بالأكل وبكل ما يلزم من أجل إقامة مريحة تليق بشخصٍ مثقف ومُتعلّم مثله، وصارحاه بأنهما أيضاً ناشطان في العمل الوطني من أجل استقلال ليبيا وتخلصها من براثن الإدارة البريطانية ومؤامرات الاستعمار، وسيتبادلان الآراء والأفكار في ذلك.
أصبح يزورهما باستمرار في مقر عملهما بمدرسة صيّاد الابتدائية، واختلط أيضاً بطلّاب زاوية عمورة الذين يتعلّمون العلوم الشرعية والقرآن الكريم، ويشاركهم أحياناً كثيرة في المطارحات الشعرية، ويُعلّمهم ما يحتاجون من علوم لغوية وأدبية، بل كان أحياناً كثيرة يؤم المصلين في زاوية عمورة.
تطورت الأمور أكثر عندما كان يرافق الأستاذ أحمد أبوعرقوب والشيخ سالم بوكر إلى طرابلس لزيارة بعض الأحزاب السياسية، مثل حزب الاتحاد الطرابلسي المصري الذي كان يرأسه الأستاذ علي رجب المدني (1922-2017م)، ومن أعضائه الشيخ عبدالسلام خليل (1923-2004م) من جنزور اللذين أُعجبا بثقافة عبدالحكيم وأخلاقه.
بعد نحو ستة أشهر طلب منهما أن يبحثا له عن وظيفة، فهو يستحي أن يبقَ عالة عليهما، ويريد أن يعتمد على نفسه في كسب قوته، إلّا أن هناك مشكلة في إتمام إجراءات توظيفه، وهي أنه لا يملك أي وثيقة تثبت شخصيته، أو جواز سفر، أو وثيقة إقامة، فذهب به الأستاذ أبوعرقوب والشيخ بوكر إلى شيخ قبيلة زاوية عمورة بجنزور وطلبا منه أن يسجل هذا الشاب في سجل النفوسية بالقبيلة.
وبعد ضغوط واقناعات من جانبهما اقتنع الشيخ وسجّله ضمن سكان القبيلة بجنزور وتحصلا له على شهادة إقامة تساعده في الحصول على وظيفة، فسألاه عن الاسم الذي يريد أن يسجلّه، فاقترح عليهما أن يسمياه عبدالله الصيّادي لأنه تعرّف بهما في بلدة صيّاد، فوافقا على ذلك.
تغيّر اسم عبدالحكيم إلى عبدالله الصيادي، وبعد وساطات للشيخ سالم وللأستاذ أحمد في إدارة المعارف في طرابلس تحصلا له على وظيفة مُعلّم في مدينة الخُمس، وذهب عبدالله الصيادي إلى الخُمس واستلم وظيفته الجديدة بعد أن شكر الشخصين اللذين وقفا معه في محنته وكانا سبباً في نقلته من حالٍ إلى حال.
بعد أن تم تأسيس حزب المؤتمر الوطني في مدينة طرابلس في شهر مايو 1949م وكان الأستاذ أحمد من أبرز أعضائه الشباب، ومسؤولاً عن إدارة الفروع بالحزب، وكذلك كان الشيخ سالم بوكر مديراً لفرع جنزور، وكانت لهما جهودهما الوطنية في تنظيم اللقاءات والمظاهرات المؤيدة لاستقلال البلاد ووحدتها وانضمامها لجامعة الدول العربية.
بعد نحو عام ونصف العام، كان الأستاذ أحمد أبوعرقوب يقطع شارع عمر المختار بطرابلس؛ حيث مقر حزب المؤتمر الوطني، فتقابل صدفةً مع الأستاذ عبدالله الصيادي، وكان الأخير يرتدي بدلة رسمية من أجود طراز، وحَلَق شعره المنفوش، ولحيته الكثة، وتغيّر هندامه بالكامل، ويَظهر كأنه خواجة ثري، وسلّم عبدالله عليه بحرارة، وسأله الأستاذ أحمد عن أحواله وأوضاعه، فطمأنه بأنه ما يزال في مدرسة الخُمس، وأن أوضاعه جيّدة بشكلٍ عام، ووجّه الصيادي العديد من الأسئلة للأستاذ أحمد عن نشاط حزب المؤتمر الوطني، واتصالاتهم وترتيباتهم من أجل الاستقلال، وانتهى اللقاء.
ولمّا اقترب موعد الانتخابات البرلمانية المقررة في شهر فبراير 1952م، ترشّح الأستاذ أحمد أبوعرقوب في دائرة جنزور عن حزب المؤتمر الوطني، فسمع به عبدالله الصيادي من مصادره الخاصة، فزاره في جنزور وأخبره أنه جاءه من مسافة بعيدة ليُسدي له نصيحة، لأنه لم ينسَ فضله عليه عندما كان مشرداً في شوارع صياد، فسأله الأستاذ أحمد ما النصيحة التي قطعت كل تلك المسافة من أجل أن تسديها لي؟، فَردّ بأنه سمع عن ترشحه للانتخابات البرلمانية في دائرة جنزور عن حزب المؤتمر الوطني، فأجابه الأستاذ أحمد نعم، فنصحه الأستاذ الصيادي بأنه إذا كان يريد الفوز في الانتخابات فعليه الترشح عن حزب الاستقلال، الذي يُمثّل الحكومة آنذاك، أمّا ترشحه عن حزب المؤتمر فلن يوصله إلى شئ، لأن هناك إجراءات جديدة ستُتخذ ضد هذا الحزب في الانتخابات وبعدها، وأنه لو ترشح عن حزب الاستقلال يمكن أن يضمن له الفوز.
استغرب الأستاذ أحمد من هذا الكلام، ومن جرأته في طرحه، وأنه يشعر بالأسف لسماعه الآن، وذكّره أنه عندما تعارفا في صياد قبل سنوات كان من أسباب تعاطفه معه هو هروبه من فرنسا من أجل الدفاع عن قضية بلاده تونس، وأنا الآن أدافع عن قضية وطنية عادلة وهي استقلال ليبيا، فكيف تطلب مني التنازل في هذه اللحظات الحاسمة؟
أبلغه الأستاذ أبوعرقوب أن هذا الموقف يمكن أن يعتبره فراق بينهما، فغادر عبدالله الصيادي، وبدأت الشكوك تساور الأستاذ أحمد حول هذه الشخصية الغامضة، فمن أين جاء بمثل هذه المعلومات؟، ومن أرسله له في هذا الوقت بالذات؟.
عندما نُظّمت الانتخابات في يوم 19 فبراير 1952م، وتم التلاعب بنتائجها في معظم المناطق الغربية ضد مرشحي المؤتمر الوطني حسب شهادات العديد من شهود العيان والمراقبين آنذاك، فشل الأستاذ أحمد أيضاً في الفوز بالمقعد المخصص لجنزور، بل أصبح مطارداً من البوليس لأنه كان من المقربين من الزعيم بشير السعداوي ومن قيادات الحزب.
وعندما تم نفي الزعيم بشير السعداوي وأسرته من ليبيا بعد الانتخابات مباشرةً، قبضت قوات البوليس على الأستاذ أبوعرقوب بالقرب من مدينة درنة عندما كان يحاول الوصول إلى مصر عن طريق البر.
وعندما تم ترحيله إلى طرابلس للتحقيق معه ووصل إلى مركز شرطة سيدي عيسى (مقر البحث الجنائي)؛ حيث كان مكتب الميجر شوقي سعد (فلسطيني مسيحي) وهو من أبرز القيادات الأمنية العربية في عهد الإدارة البريطانية، وترقّى إلى أن تم تعيينه في شهر سبتمبر 1948م مديراً لمدرسة البوليس في أبوستة بطرابلس.
صعد الأستاذ أحمد مُكبّل اليدين إلى الطابق الثاني استعداداً للتحقيق، ودخل إلى مَمرٍ ضيّق يوصل إلى مكتب التحقيق، فقابله في ذلك الممر ضابط ليبي كان من أصدقاء الأستاذ أحمد، ومعه الأستاذ عبدالله الصيّادي وهو يحمل ملفات وأوراق!!!!، فعرفه، ووجّه حديثه للأستاذ أحمد مباشرة (أخبرتك من قبل أن الترشح مع حزب المؤتمر الوطني لن يجلب لك إلا المتاعب، ولكنك لم تستمع لنصيحتي) !!!! فصُدم الأستاذ أبوعرقوب من الموقف.
أيقن أبو عرقوب أن عبدالله الصيادي كان جاسوسا يعمل مع طلائع الجيش الثامن البريطاني وزُرع في جنزور لمعرفة كل كبيرة وصغيرة، وبالتأكيد أن مثله كان بالمئات في ربوع ليبيا لإحكام قبضة الإدارة البريطانية على الأمور، وبعد أن خرج من السجن، سأل الأستاذ أحمد عن عبدالله الصيادي وعن شخصيته الحقيقية، وعَرَف من أصدقاءه في البوليس أنه كان رجل أمن فلسطيني من عيون شوقي سعد في جنزور.
عندما استقلت البلاد وانتهت الإدارة البريطانية وغادر الميجر شوق سعد، اختفى معه عبدالله الصيادي، وربما نُقل إلى مكانٍ آخر ليؤدي أدواراً لا تقل قذارة عن هذ الدور.
رحم الله الأستاذ أحمد أبوعرقوب، والشيخ سالم بوكر، فقد تصرّفا بما يمليه عليهما تعاليم ديننا الحنيف وأخلاقنا في إكرام الضيف ومساعدة الملهوف، إلا أن النفس الوضيعة تأبى إلا أن تشوّه كل فضيلة، ويَصْدق عليهما المثل العربي (اتقِ شر من أحسنت إليه).
***
المصدر: سمعتُ هذه القصة نقلاً عن الأستاذ مفتاح علي بن إسماعيل (1924-2013م) (آخر عميد لبلدية جنزور في العهد الملكي) وهو صديق للأستاذ أحمد أبوعرقوب، في مقابلة شفوية بتاريخ 30 يونيو 2012م، الساعة: 19:00 في بيته بجنزور.
____________________