سالم الكبتي

( الموقف الحالي يتطلب بأن تكون مهام الحكومة في أياد قوية قادرة)
هوبر.. المستشار القضائي في برقة

جلست حكومة الباشا تلك الأيام الباقية والقليلة على استقالتها وأعدت قانونا للمطبوعات ينظم وسائل النشر وتحديد واجبات ومسؤوليات الناشر والمحرر والمطابع والبائع والموزع لكل ما يعلن وينشر للجمهور عن طريق الطبع.
الحراك الصحفي.. مقالات وآراء وقصائد وأخبار في مواجهة الحكومة تكفلت به على الدوام صوت جمعية عمر المختار (الوطن) وكان لابد من لجم هذا الحراك والحد منه أو التقليل من تأثيره خلال الرأي العام.

الحالة الحكومية والإدارة البريطانية لم تعودا تتحملان المزيد.

من الضروري كبح الجماح وعدم اتساع الخرق على من يريد أن يرقع. والمثل ظل يردد وسط المقاهي والحوانيت وشوارع بنغازي والدروب المؤدية إلى الجمعية.. ظل يقول بوضوح (ما ينفع في البايد ترقيع)!.

التلويح بالقوانين واللوائح ينهض بارزا في كل الأوقات ويبقى سمة دالة تستند إليها الحكومات وتواجه بها الجانب الآخر، وإذا لم يلتزم بذلك فإن قوانين أخرى تشهر في وجهه تسمى قوانين العقوبات أو المحظورات.

هذا التلويح يرضي الحكومات ومساعيها في التلويح في ذات الوقت بالترهيب والتخويف. الركون للقوانين ظاهرة عند كل حكومات العالم عندما تتأزم الأمور وتتعقد. حدث ذلك وما يزال يحدث عبر التاريخ المعاصر.

القوانين بهذا الشكل هي آخر نقطة تضيء في آخر كل نفق!

وكان من الطبيعي، والأمور تتسارع في الصراع بين الحكومة والجمعية وأي طرف لا يعجبه الأمر بهذا الشكل، أن يستفسر الأمير إدريس الذي استلفت انتباهه عدم تعرض قانون المطبوعات لتحديد الجرائم التي تختص في الطعن في الأعراض والتشهير بالعورات والعاهات البدنية وغيرها من جرائم القذف.

كتب الملك لرئيس الحكومة الباشا عمر بخصوص هذا النقص في القانون وأمره بالمراجعة وتضمينه عقوبات زاجرة لمنع ما أشار إليه من جرائم.
وكان لابد للحكومة أن يكون لها في المقابل رأي ورد على الأمير.

نقاشات تمت بين قاعات قصر المنار وردهات مقر الحكومة القريب منه. أجاب الباشا الأمير في مذكرة مؤرخة في الأول من فبراير 1950 وموقعة باسمه..

خادمكم الأمين رئيس الوزراء.

أشار الباشا في نقاط مختصرة ومكثفة إلى التوكيد على أن القانون موضع النقاش والرد يتصل بتنظيم وسائل النشر وما ينشأ عنها. وأن جرائم الطبع والنشر المرتكبة ضد الأفراد أو السلطات هي مستدركة كلها بقانون الجزاء كما أن عقوباتها محددة ضمن القانون المذكور الجاري العمل به لدى المحاكم الجزائية في برقة.

وأشار للأمير بأن المادة الرابعة عشر من قانون المطبوعات لا تمنع أي شخص رأى نفسه معتديا عليه بواسطة النشر من ممارسة حقوقه الشخصية أمام المحاكم المختصة ضد المعتدي أيا كان.

فيما ذكر أن المادة الحادية عشرة من دستور برقة (صدر في 18 سبتمبر 1949) المستمدة منه جميع القوانين تحفظ لجميع أفراد الشعب حقوقه المقدسة في حرية الرأي المتزن والتفكير السليم والنقد النزيه بجميع الوسائل المشروعة ضمن القوانين الجاري بها العمل في البلاد.

إن هذا النقاش والجدال يوضح أن الأمير على المستوى الشخصي والرسمي وبحكم مهامه كان يتابع سير عمل حكومته وينبه في اللحظة ذاتها على ما يعتري خطواتها من قصور أو مسائل يراها تستوجب التدخل والتعديل.

كان يود من حكومته استدراك ما يمكن أن يحصل جراء أية نواقص تشوب القوانين والإجراءات. وفي جانب آخر يطل عبر أطياف التاريخ وقد كانت الصحف بالأمس صحفا سيارة يقرأها الرواد في المقاهي أو الأندية أو مقار العمل والآن أضحت تاريخا يشار إليه.

الصحيفة.. أية صحيفة، بالأمس صحيفة لكنها اليوم تاريخ يوثق ويوضح الكثير مما يرجع إليه.. في هذا الجانب كانت الصحف، وفي مقدمتها الوطن، تواجه وتلامس وتنتقد واستفادت من هامش (الحرية) الذي كان يلاحظ رغم إجراءات الإدارة البريطانية وضيقها وتبرم الحكومة من سطور ما يكتب وينشر.

الكلمة على الدوام تظل مصدر أرق وخوف وتحسس من السلطة!

في هذه الأجواء وصل أدريان بلت مندوب الأمم المتحدة إلى البلاد ليتجول ويزور أقاليمها الثلاثة سعيا لتنفيذ قرار الأمم المتحدة القاضي باستقلال ليبيا وسيلتقي بكل الوجوه والأطياف والزعامات والشيوخ والجماعات.

لكن الشباب من الجيل الجديد وقتها ظل بعيدا عن هذه الأفاق واتخذ موقفا لنفسه ولم يشأ أن يخوض في هذا الذي يدور. وفي هذه الأجواء أيضا نشرت جريدة برقة الجديدة في صدر صفحتها الأولى بمانشيت كبير في عددها الصادر يوم الأحد 26 فبراير 1950 تساؤلا مفاده: هل أسست حكومة في فزان برئاسة أحمد سيف النصر وأجابت بأنها علمت من أخبار وردتها من طرابلس في اليوم السابق تتضمن نبأ انتخاب السيد أحمد سيف النصر الزعيم السنوسي المعروف رئيسا لمنطقة فزان إحدى الأقاليم الثلاثة التي تتألف منها ليبيا .

وقد جرى انتخابه خلال اجتماع قبلي عقد في المنطقة وسيساعده في إدارة شؤون فزان مجلس مؤلف من ستة أعضاء. انتهى ما أشارت إليه برقة الجديدة.

هذا المجلس المؤلف من الستة هو حكومة محلية هناك في فزان وقد صارت بهذا الشكل ثاني حكومة في ليبيا على المستوى الإقليمي. وسنعرض لاحقا لتشكيلتها وتركيبتها وإنجازاتها.

في الوقت ذاته بدأ إقليم طرابلس يخوض الحراك الحكومي. وصلت للأمير إدريس مذكرة طويلة تتضمن مشروعا حول إنشاء المجلس الإداري (الحكومة) وتبعتها مذكرة أخرى مهمة تتصل بالتطور الدستوري في إقليم طرابلس عبر فترة الانتقال.

خطوات في برقة بدأت ثم لحقتها خطوات ومشاوير أخرى في فزان وطرابلس استوجبتها (الحالة الليبية) والاهتمام الدولي بها.

ظلت تلك الحكومات المحلية ترعى شؤون أقاليمها وتعود في اقتراحاتها ورؤيتها المستقبلية للأمير إدريس الذي رأت فيه الحكومات والسلطات مرجعية وطنية يُستند إليها في تلك الظروف التي تستدعي مواجهة العواصف بصبر وحذر كبيرين.

إن الإشارة إلى هذه الخطوات التي بقيت قطعة من فسيفساء التاريخ الليبي جديرة بالعناية، فهي تحوي الكثير من الحوارات والجدل وتبدل المواقف والتعثرات.

وسنقرأ في حلقات قادمة مشروعات تشكيل المجلس الإداري والتطور الدستوري في طرابلس تماهيا مع ما يحدث في بقية أطراف البلاد.

ووسط هذه الظروف المحلية والدولية وعبر الأحلام التي تكتنف صدور الناس كل يوم.. عزم الأمير إدريس على قبول استقالة الباشا عمر الكيخيا مع إعادة تعيين وزرائه في مناصبهم دون تغيير أو استبدالهم بوزارات أخرى في الحكومة وكان في ذهنه أن يتولى رئاسة الحكومة الثالثة أو أن تظل الإدارة الحكومية في برقة تسير وتقوم بدون رئيس وزراء فيما يطلب من وزير الصحة (الحالي) سعد الله بن سعود القيام بالفعل بمهام رئيس الوزراء.
هذا الموضوع درس بعناية من قبل المستشار القضائي لوزارة العدل المستر هوبر وأشار فيه للأمير صراحة بأن في هذه الإجراءات التي يعتزم إجراءها قد تتضمن مخالفة لبعض نصوص الدستور.

وأشار بأن الموقف الذي تجتازه برقة يتطلب أن تكون مهام الحكومة في أياد قوية قديرة لمواجهة ما هو آت في الأسابيع القادمة من إجراء الانتخابات العامة، إضافة إلى المسائل المتعلقة بالمعاهدات والأمر الذي يتطلب مسؤولية كبرى في اقتراحات تأليف ليبيا الموحدة.

وأكد المستشار بأنه يود أن يرى في برقة رئيس وزراء حائز على تلك القدرة العالية واسعة النظر وحذر من أن أي خطوات أخرى ستقود إلى تثبيط عزيمته على المستوى الشخصي إضافة إلى آخرين.

كان، كما أكد في مذكرته المؤرخة في الثامن من مارس 1950، ينوي مواصلة جهوده لإقامة هيئة قضائية وسن قوانين تحتاجها البلاد بصورة ماسة.
هل كان الأمير في توجهاته يناور أو يستكشف شيئا أو يسبر أغوار دهاليز الإدارة البريطانية التي ظل حليفا لها ويعرفها جيدا منذ العام 1914؟!

في اليوم التالي الخميس التاسع من مارس 1950. الربيع في بنغازي وضواحيها والقرن ينتصف والأحداث تتسارع وتمضي. والأقاليم الثلاثة تنتظر المصير وتعد مشاريعها وتواجه الأمم المتحدة عن طريق مندوبها.. في ذلك اليوم قدم الباشا عمر الكيخيا استقالته من رئاسة الحكومة.

ولاحقا سيصدر الأمير في حقه قانونا خاصا سمي قانون تقاعد عمر باشا منصور.

بعد الاستقلال عين أول رئيس لمجلس الشيوخ إلى عام 1954 بحصول جفوة طارئة مع الملك. أرسل له برقية تعزية عقب اغتيال إبراهيم الشلحي ناظر الخاصة الملكية. في البرقية اكتفى بالقول أعزيكم في وفاة خادمكم الأمين!!

وهنا في مارس بدأت الحكومة الثالثة في برقة لتكون آخر حكوماتها ولتنتهي مع إعلان استقلال ليبيا.

كلف الأمير وزير العدل محمد الساقزلي بتشكيلها. وبدأت خطوات أخرى من الصراع والأزمات التي تجددت مع جمعية عمر المختار.

_____________

مقالات

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *