في تشيلي .. الجنرال بينوشيه يتسبب في عزل نفسه

في عام 1973، انقلب الجنرال أوجستو بينوشيه على الحكم الديمقراطي في دولة تشيلي، ليحكمها ما يقرب من عقدين من الزمان بالحديد والنار، ويصبح واحدًا من أعتى طغاة عصره.

كان الجنرال بينوشيه رمزًا سيئ السمعة فيما يتعلق بحقوق الإنسان وملفات الفساد؛ إذ وبعد الانقلاب الوحشي على رئيس جمهورية تشيلي المنتخب سلفادور أليندي بدأ في اعتقال الآلاف من المتعاطفين مع أليندي وجرى استجوابهم بطريقةٍ وحشية، كما كانت هناك عمليات قتلٍ ممنهجة في الثلاثة أشهر الأولى، وتم إخفاء أكثر من 3 آلاف فرد من السياسيين والمعارضين لحكمه.

كانت استراتيجية الجنرال في السيطرة على الحكم تتمثل في إعدام سجناء الأحياء الفقيرة، إضافةً إلى سجناء الريف البسطاء، وذلك من أجل إرهاب جيرانهم وإجبارهم على الصمت وتقبل الحكم العسكري. وكانت روايات القتل يتم تبريرها بطريقة مُتهكمة زائفة، على سبيل المثال، هناك بعض القضايا جرى الادعاء فيها أن قتل السجناء رميًا بالرصاص، قد جاء نتيجة لمحاولتهم الفرار.

في السنوات التي تلت الانقلاب العسكري في تشيلي، وما لازمه من فظائع، تضاءلت انتهاكات حقوق الإنسان، إلا أن صورة الجنرال بينوشيه المحفورةِ في الأذهان كانت دائمًا لهذا الرجل الذي سار بثقة في الملعب الرياضي الرئيس بسانتياجو المليء بالسجناء، طاويًا ذراعيه ناحية صدره، وخافيًا أعينه تحت نظارته الداكنة. وفي عام 1980 ومن أجل إضفاء الشرعية على حكمه، أمر بينوشيه بعمل استفتاء شعبي، مما مكنه من المضي قدمًا في الحكم حتى عام 1988.

وقد جاء هذا الاستفتاء الشعبي في بداية الثمانينات، بعدما واجه الجنرال بينوشيه ضغوطًا متصاعدة داخليًا وخارجيًا؛ وذلك من أجل إبداء بعض المرونة في عملية التحول نحو الحكم الديمقراطي؛ إذ على الرغمِ من أن الولايات المتحدة قد كانت الحليف الرئيس، إلا أن نظام بينوشيه، والذي واجه اتهامات مريعة لانتهاكات حقوق الإنسان تسببت في حالة من السخط العالمي، قد وضع الولايات المتحدة في وضعٍ حرج، حتى أنها هددت بينوشيه بقطع المساعدات الأمريكية لنظامه العسكري، ما لم يخضع لإجراء استفتاءٍ شعبي على حكمه.

كان لمنظمة العفو الدولية دورو كبير في الضغوط الخارجية التي واجهها نظام بينوشيه؛ إذ أصدرت تقارير موثقة انتقدت بشدة أوضاع حقوق الإنسان في تشيلي، بعدما أشارت إلى مقتل نحو 30 ألف شخص، ونفي قرابة نصف مليون إلى خارج البلاد، إضافةً إلى حالات الاختفاء القسري للمعارضين؛ مما حفز المجتمع الدولي للقيام بحملة ضغط عالمية ضد النظام العسكري في تشيلي، في الوقت ذاته.

كان النظام الديكتاتوري لبينوشيه يعاني داخليًا؛ إذ تفاقمت المشكلات الاقتصادية وارتفع حجم الديون الخارجية، وانخفضت قيمة العملة، إضافةً إلى زيادة معدلات البطالة، وقد استغلت أحزاب المعارضة من اليمين واليسار هذه الظروف المقيتة، وتحالفوا في جبهتين كبيرتين هما: «التحالف الديمقراطي بقيادة الحزب الديمقراطي المسيحي، والحركة الديمقراطية الشيوعية».

وقد تمكنت المعارضة حينها من تنظيم حركة احتجاجية واسعة أجبرت بينوشيه تقديم العديد من التنازلات كان من بينها الإفراج عن السجناء السياسيين والسماح بعودة المعارضين المنفيين إلى أرض الوطن ، إضافةً إلى الحد من انتهاكات حقوق الإنسان والسماح للأحزاب السياسية المعارضة بمزاولة عملها السياسي. وقد صدرت حينها على إثر ذلك الصحف والمحطات الإذاعية المعارضة للنظام، وكانت الخطوة الأهم هي ضغط المعارضة على بينوشيه من أجل إجراء استفتاء شعبي آخر في نهاية ولايته مارس (آذار) 1990.

وفي أواخر الثمانينات ظنَّ الجنرال أن الرخاء الاقتصادي في عهده سيدعمه خلال انتخابات حرة ونزيهة، مُعتقدًا أنه في الانتخابات الحرة سيحصل على دعم وامتنان التشيليين؛ مما دفعه إلى القبول بخطة المعارضة وإجراء استفتاء شعبي آخر في نهاية عام 1989، لإعادة التأكيد على توليه منصبه، وهنا جاءت المفاجأة التي لم يتوقعها؛ إذ صوتت الأغلبية من التشيليين ضد محاولة الجنرال بينوشيه للبقاء رئيسًا لثماني سنوات أخرى، بنسبة 53% ضد استمرار الحكم العسكري.

كان السبب الرئيس وراء تلك الهزيمة الساحقة هو حركة شعبية «لاعنفية»، سبقت استفتاء أكتوبر (تشرين الأول) 1989 بسنوات؛ إذ نشبت تلك المعارضة داخل التجمعات السرية في الجامعات ومنظمات العمال والكنائس، مُتبعين استراتيجية مُبتكرة أظهرت مدى السخط الشعبي على النظام العسكري الحاكم.

وبعد التعبئة الوطنية للناخبين، ومراقبة استطلاعات الرأي، والاستخدام الفعال للإعلام، هزم تصويت «لا» الشعبي في الاستفتاء نظام بينوشيه؛ مما أجبر الجنرال على التنحي عن مقعد الرئاسة، لكنه أصر على الاستمرار حتى انتهاء ولايته، ومع إصرار المعارضة على إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، فاز مرشح الحزب الديمقراطي المسيحي باتريشيو أيلوين في انتخابات ديسمبر (كانون الأول) 1989، بنسبة 53.8%.

أما بينوشيه فبعد هربه إلى بريطانيا جرى اعتقاله عقب توصيات دولية عام 1998 وتقديمه إلى المحكمة العليا في تشيلي، بتهمةِ ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، إلا أن المحاكمة جرى تعطيلها حتى وفاته عام 2006.

***

في الأرجنتين .. أمهات ساحة مايو أسقطن الحكم العسكري الأرجنتيني؟

كانت الأرجنتين تحت الحكم العسكري في الفترة ما بين (1976 – 1983)، وإبان ذلك كانت أي معارضة للنظام يجرى دحضها في وضح النهار؛ وانتشرت حملات القبضِ على المعارضين من منازلهم، وجرى إخفاؤهم قسريًا، وكان مصير الكثيرين إما القتل، أو السجن والتعذيب.

كان حينها التواصل مع معارضي الجيش يعرضك للخطر، وقد اختفى حتى المحامين الذين تجرأوا بالدفاع عن النشطاء السياسيين، وذلك بحسب «المركز الدولي للنزاعات اللاعنفية »، وكانت تلك الاستراتيجية متعمدة من جانب السلطة والمسؤولين الحكوميين ورجال المخابرات؛ إذ أعلنها الجنرال خورخي رافائيل فيديلا «حربًا داخلية» – والذي تولى الحكم إثر انقلابٍ عسكري من 1976 إلى 1981 – في أكثر من حوارٍ له، وقرر أن يخرس معارضيه بقسوة لا حدود لها.


كانت الأجواء في الأرجنتين في تلك الفترة يسودها الخوف والصمت؛ إذ وبحسب وثائقي «الجزيرة»، كانت السلطات تعمد إلى إخفاء من يتم القبض عليهم إلى جهاتٍ غير معلومة، ليختفوا هناك وإلى الأبد. وفي أشهرٍ قلائل، اختفى أكثر من 30 ألف معارض. هذا المناخ الذي لم يستطع أن يكسره سوى قلق الأمهات على أبنائهن، ومع تزايد أعداد المختفين قسريًا، بدأت الأمهات في الأرجنتين رحلة بحث عن أبنائهن المفقودين.

وفي 30 أبريل (نيسان) 1977، شاركت 14 امرأة في تظاهرة هي الأولى من نوعها؛ إذ اجتمعن في «بلازا دي مايو» أو ساحة مايو، بالعاصمة الأرجنتينية أمام القصر الرئاسي والكاتدرائية الوطنية، وكان دافعهن الأول هو غريزة الأمومة وليس السياسة، مطالبات بمعرفة الحقيقة حول «مصير» أبنائهن.

في البداية أطلقت عليهن السلطة لقب «مجنونات ساحة مايو»، ولم يعرهن أحد اهتمامه؛ إلا أنهن لم يتزحزحن عن موقفهن، وفي كل خميس كانت الأعداد تتزايد، وفي غضون عام شاركت المئات من الأمهات في إعلان من نصف صفحة بأسمائهن وأرقام بطاقات الهوية في صحيفة «لا برينسا الوطنية»، متسائلات عن أبنائهن. ومن رحم قسوة النظام العسكري، نشأت أغرب حركة نسائية عرفت باسم «أمهات ساحة مايو».

«نريد أن نعرف أين أبناؤنا، أحياء أم في عداد الموتى؟ نشعر بالقلق، ولا نعرف إن كانوا مرضى، يشعرون بالبردِ أم جائعين، فنحن يائسون لا نعرف عنهم شيئًا، ولا نعرف لمن نتوجه». أمهات ساحة مايو.

كانت تلك الحركة النسائية، هي المسمار الأخير في نعش الحكم العسكري الأرجنتيني؛ إذ شجعت العديد من المواطنين على الخروج عن الصمت، والتظاهر سلميًا دون خوف من السلطة، كما كشفت واحدة من أبشع جرائم النظام العسكري بالأرجنتين؛ إذ كان بين المختفين قسريًا أطفال ورضع اختطفوا من الأسر المعارضة للنظام، في وقتٍ كان فيه الإعلام بالكامل تحت سيطرة الدولة، بحسب وثائقي «الجزيرة»؛ مما شجع آخرين على كشف انتهاكات النظام إلى الصحافة العالمية، خاصةً إبان استضافة الأرجنتين لكأس العالم 1978؛ إذ توجهت الأمهات إلى الصحف العالمية قائلات: «أنتم أملنا الوحيد».

كان المجلس العسكري حينذاك يواجه ضغطًا عالميًا؛ ما أدى في النهاية إلى انقسام السلطة داخل الجيش نفسه، وعانت الأرجنتين من انقلاباتٍ متتالية، وتورطت في حربٍ ضد بريطانيا من أجل السيطرة على جزر فوكلاند عام 1982، إلا أن الحرب قد باءت بالفشل، ونتج عنها أزماتٍ اقتصادية، شوهت سمعة المجلس العسكري، وهنا خرج المحاربون القدامى مع العاطلين عن العمل وربات البيوت يقودون احتجاجات الشوارع؛ مما دفع المجلس العسكري للتخلي عن السلطة، وإعلان إجراء انتخابات ديمقراطية.

وفي عام 1985، حُكم على فيديلا بالسجن مدى الحياة؛ إذ جرى اتهامه بارتكاب جرائم ضد الإنسانية من تعذيبٍ وقتل، وعلى الرغم من أن الرئيس الأرجنتيني السابق كارلوس منعم قد منحه عفوًا رئاسيًا عام 1990، إلا أنه وفي أبريل (نيسان) من عام 2010 أيدت المحكمة العليا حكمًا قد صدر من المحكمة الفيدرالية بإلغاء العفو، ووجهت إليه عام 2012 اتهامات بالإشراف على عمليات سرقة ممنهجة لمواليد السجناء السياسيين، وواجه على إثره حكمًا بالسجن مدة 50 عامًا، وقد توفى فيديلا عن عمرٍ يناهز 87 عامًا، عام 2013، أثناء قضائه عقوبة السجن.

____________

المصدر: مقال أبرز الوسائل السلمية التي أسقطت أعتى الأنظمة العسكرية الديكتاتوريةللكاتبة نهاد زكي

مقالات

50 Commentsاترك تعليق

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *