سالم الكبتي

(وكان من جناب الحكم ريحك سكن حب الرياسة ع العباد مصيبة)
الشاعر العامي عمر بوعوينة

***

واستدراكاً وإضافة لما قلته عن حكومة فتحي الكيخيا الذي كان أيضاً يحمل اسماً مركباً وهو فتحي منصور قبل أن أواصل الحديث عن شروع والده عمر باشا في تولي رئاسة الحكومة الثانية في تاريخ برقة خلال أواخر الأربعينيات فإن الأمير إدريس لم يسم في الواقع د. فتحي وأعضاء حكومته رسمياً سوى بإرادة أميرية صدرت في قصر المنار ببنغازي في اليوم الثامن عشر من سبتمبر 1949 وهو اليوم الذي أعلن فيه صدور دستور برقة.

صحيح أن الأمير رشحه واختاره في يوليو ورافقه إلى لندن ثم غادرها إلى باريس ثم مصر لكنه فعلياً يمكن القول بأن الحكومة الأولى ظلت شهرين فقط في تجربة الحكم وإدارة الشؤون من سبتمبر إلى نوفمبر 1949 وخلال هذه الفترة لم يحدث صدام أو تقع مواجهات مع المنظمات والهيئات السياسية في البلاد وفي مقدمتها جمعية عمر المختار أو مع القبائل وأعيانها وتحالفاتها وتقاطع مصالحها.

كانت ترى في د. فتحي اتزاناً وتعقلاً وخبرة وضبطاً يستحق منها الاحترام رغم شعورها بسلوكياته المصرية وطريقة معيشته المتأثرة بمصر أيضاً.

فيما كانت الإدارة البريطانية بمستشاريها وخبرائها تتولى وتشرف وتتحمل في الوقت ذاته النفقات المالية.

ومن جانب آخر فإن حكومة د. فتحي لم تشهد أيامها أيضاً أي شيء يذكر على الصعيد المحلي سوى في القيام ببعض المنجزات البسيطة والخدمات، وكان الأمير إدريس يوالي مباشرة بحكم سلطاته الدستورية الإشراف والمتابعة عليها وواصل في إصدار الأوامر والإرادات والقرارات المنظمة للأحوال والأمور وظلت تنشر في الجريدة الرسمية لبرقة وجرائدها المحلية علاوة على انصرافه في متابعة ما يتصل بالقضية الوطنية بصورة عامة غير أن الحكومة المذكورة بتركيبتها السياسية والاجتماعية حققت نوعاً مقبولاً من التجانس والتوافق في مداولة شؤون الناس.

وخلال هذه الفترة دخلت القضية الليبية بكاملها إلى الرحاب الدولية وخاصة ساحة الأمم المتحدة وظلت تطرق الأسماع هناك.

كانت قضية ليبيا في تلك الأيام في نظر العالم قضية حساسة ومؤثرة وتحتاج إلى الفصل والنظر في صفحاتها والوصول إلى قرار بشأنها ينهي ما يعلق بها من مشاكل وأزمات وسيشارك العالم في هذه الناحية في الإسهام باقتراح الحلول ووضع أولى الخطوات على الطريق المؤدي إلى استقلال ليبيا.

وهنا تشكلت الوفود المحلية للذهاب إلى ليكسس في الولايات المتحدة لعرض القضية وبسطها في الأمم المتحدة.

لم تكن هناك حكومة محلية حتى الآن في طرابلس وكذا في فزان بصورة واضحة.

وفي برقة اختار المؤتمر الوطني والأمير إدريس بالدرجة الأولى ثلاثة للسفر لحضور الاجتماعات الدولية وهم: عمر شنيب وعبدالحميد العبار وخليل القلال وزير الصحة في حكومة برقة وكان من المفترض أن يكون د. فتحي الكيخيا عضواً في هذا الوفد بدل أحد هؤلاء الثلاثة لكن الأمر لم يتحقق.

وكان ذلك الوفد هو الوفد الأول الذي يسافر إلى أميركا ويواجه العالم ويخاطبه ويتحدث مع رجاله وخبرائه لتقرير مصير البلاد.

لقد أصبح هنا الانشغال بالشأن الدولي ومستقبل البلاد التي كانت مستعمرة إيطالية سابقة وتُلقب بالشاطئ الرابع لروما.. أصبح هو الجانب الرئيس والقاعدة وليس الاستثناء في حياة الناس والظروف التي يمرون بها داخل الوطن وأضحت مسألة مهمة لدى الرأي العام وحراكه وجرائده ونقاشاته في كل مكان ووضعت في النهاية أطراف الصراع على ليبيا وفي داخلها أيضا على المحك الصعب محلياً وأمنياً ودولياً.

والواقع الذي ينبغي أن ينظر إليه أنه لم تكن ثمة إمكانات مادية كبيرة للإمارة وحكومتها تسمح بتحمل تكاليف سفر وإقامة الوفد الأول ثم الثاني فيما بعد.

لقد منح المؤتمر البرقاوي (الوطني) جزءاً من المصاريف وتكفّل بالجزء الأكبر منها الحاج يوسف لنقي وشقيقه عوض ومعهما رجل الأعمال في بنغازي شفيق خزام السوري الأرمني.

ثم رأى الأمير استبدال حكومته الأولى مع هذه المتغيرات المحلية والدولية وأجوائهما بعدما طالت غيبت رئيسها د. فتحي الكيخيا في خارج البلاد فاختار كما سبقت الإشارة والده عمر باشا رئيس ديوانه الأميري الذي باشر اختصاصاته في السابع من نوفمبر 194. بموجب إرادة الأمير التي خاطب فيها الباشا بهذه العبارات:

(عزيزي عمر باشا منصورنحن محمد إدريس المهدي السنوسي أمير برقة بمشيئة الله تعالى قد أسندنا إلى سعادتكم تأليف الوزارة الجديدة لما نعهده فيكم من الوطنية الصادقة والكفاءة وأنه لا تخفى على سعادتكم الحالة الراهنة التي تجتازها البلاد اليوم من ظروف دقيقة في عدة وجوه فالأمل معالجتها بما تقتضيه الحكمة والدراية التي نتوخاها فيكم فعليكم باختيار رفقائكم وعرض أسمائهم علينا للموافقة والله سبحانه وتعالى أسأل أن يوفق أعمالكم لخير البلاد ونفع العباد أنه سميع الدعاء).

ووفقاً لهذه الإرادة والمخاطبة حافظ الباشا على تشكيلتها السابقة غير أنها أضحت تتكون من ستة وزراء بدلاً من خمسة. كان من بينهم وزير جديد هو محمد الساقزلي الذي سيتولى لاحقاً مهام الحكومة البرقاوية الثالثة في مارس 1950.

كانت للساقزلي خبرة سابقة في الشؤون الإدارية والمالية والقانونية وكان أحد رجال الأمير إدريس في حكومة أجدابيا ومستشاراً له ورافقه أيضاً في وفده الشهير لزيارة روما أواخر 1920 والذي ضم أيضاً عمر باشا الكيخيا رئيسه في الحكومة.

كان الساقزلي من الجيل الذي درس في مدرسة الرشدية وفقا للنظام التركي في بنغازي وعمل في إدارة المالية قبيل الاحتلال الإيطالي العام 1911.

لقد زودت تلك المدرسة المدينة ودواخلها بنخبة من المتعلمين والمثقفين الذين سيعملون في تطوير نهضة البلاد في فترات متعاقبة.

وقد اشتغل أيضاً الساقزلي في مجال التوثيق القانوني ونفاه الإيطاليون إلى خارج البلاد مدة من الأعوام وعاد لممارسة عمله والمشاركة في نشر مجموعة من المقالات في جريدة بريد برقة.

كان من أسرة تتبع المذهب الحنفي في برقة خلافاً للمذهب المالكي الذي ينتشر بصورة غالبة في البلاد.

اختير الساقزلي بناء على معرفة الأمير المباشرة وعلاقته بصديقه القديم عمر باشا والذي يحمل له ولاءً واحتراماً متبادلاً.. اختير وزيراً للعدل في الحكومة الثانية التي شرعت في مهامها مع بوادر الشتاء وانحسار الخريف في نوفمبر 1949.

بالإضافة إلى رئاسته للحكومة تولى عمر باشا في الوقت ذاته مهام وزارات الداخلية والخارجية (وهي حقيبة يجري استحداثها للمرة الأولى في ليبيا) وكذا الدفاع والمعارف.

أربع وزارات في قبضة الرئيس الباشا فيما استمر محمد بودجاجة وزيراً للمالية وعلي الجربي وزيراً للمواصلات والأشغال العامة وحسين مازق وزيراً للزراعة والغابات وظل خليل القلال وزيراً للصحة.

لم تكن ثمة تغيرات كبيرة في الحكومة السابقة سوى خروج سعدالله بن سعود منها والذي كان يشغل وزارة الداخلية إضافة إلى كونه نائباً للرئيس.

ولم يكن الباشا بحاجة إلى ضرورة أن يكون ثمة مساعد أو نائب له! وفي الأصل قبل استحداث وزارة الخارجية كان الأمير إدريس يتعهد بالإشراف والمتابعة الشؤون الخارجية.

وفي كل الاتجاهات الجديدة للحكومة الثانية فقد حافظت في تركيبتها على توازنها الاجتماعي.

الرئيس من الكورغلية ومحمد الساقزلي وزير العدل ذو الجذور التركية. خليط من أعضاء الحكومة اتضحت فيه روح المواطنة المحلية بالانتماء.. والتعصب أحياناً لبرقة واحتياجاتها ومطالبها في أجواء الإدارة البريطانية والظروف العالمية التي تحيط بالبلاد وما يسود الداخل من هدير لا يتوقف.

كانت الحكومة الثانية واسطة العقد بين حكومة الابن فتحي الكيخيا وبين حكومة الصديق والرفيق القديم محمد الساقزلي التي ستكون الثالثة والأخيرة قبيل إعلان الاستقلال.

جاءت حكومة الباشا في الشتاء وتغيرت في الربيع.. مارس 1950. خمسة أشهر ضجت بالتفاعلات والأحداث المتلاحقة في كل المستويات.

يتبع

___________

مقالات

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *