مقتطفة من كتاب “السلالة السنوسية الحاكمة: العائلة التي صنعت ليبيا” للمؤلف هاري هالم.
كانت التطورات الفورية داخل ليبيا بعد الاستقلال على نفس قدر أهمية الدستور، لا سيما بعد انتخاباتها الأولى في 1952.
حدّدت أحداث عام 1952 السياسة الليية، وأجبرت إدريس السنوسي على إجراء حسابات سياسية من المحتمل أنها كانت، على المدى البعيد، خاطئة. خلال الفترة المتبقية من سنوات حكمه، حاول إدريس تعديل الوضع الذي خلقه من خلال حظر الأحزاب السياسية. ومع ذلك، في ظل هذه الظروف، حال اختياره للقيام بذلك دون إراقة الدماء.
عيّن الملك إدريس السيد محمود المنتصر كأول رئيس للوزراء في 29 مارس 1951، قبل عدة أشهر من إعلان استقلال ليبيا الرسمي. ومع ذلك، لم يتم آنذاك إجراء أي انتخابات. وكانت لا تزال الاتفاقات القبلية التقليدية والأنظمة الانتخابية المحلية تحدد السياسة الليبية.
لم تكن هذه الاتفاقات والأنظمة مناسبة لدولة منظمة على المدى البعيد. وبالتالي، أجرت أول انتخابات في 19 فبراير 1952، أي أقل من شهرين بعد إعلان الاستقلال.
تنافست كتلتان فقط في الانتخابات، حزب المؤتمر الذي عارض رئاسة المنتصر، والاستقلاليون الذين أيدوه. استمد حزب المؤتمر دعمه بشكل متوقع من إقليم طرابلس، وهي المنطقة الأقل ارتباطا بالسنوسيين ، ويجب أن نتذكر أنها المنطقة الوحيدة المعروفة بمعاداة السامية في ليبيا قبل أن تكتسح ثقافة العروبة المنطقة.
حتى قبل الانتخابات، واجه حزب المؤتمر الحكومة، مطالبا بحضور مرشحيه في مناطق الاقتراع بالمدن الكبرى، وهي ممارسة غير منصوص عليها في القانون الليبي.
عندما رفضت مطالبهم، بدأت أعمال الشغب، وفي نهاية المطاف، فاز حزب المؤتمر بثمانية مقاعد فقط، جميعها في إقليم طرابلس، واتهموا الحكومة بالتلاعب كما كان متوقعا. ومع ذلك تعد النتائج من ناحية الأرقام منطقية.
كان عدد سكان طرابلس في عام 1952 حوالي 125000، وليبيا حوالي 1.089 مليون نسمة. ويرجّح أن إقليم طرابلس كان هو المنطقة الأكثر اكتظاظا بالسكان في ليبيا. ومع ذلك، باستثناء طرابلس، كانت مدن إقليم طرابلس الأخرى صغيرة نسبيا، ولا تزال أصغر بكثير من طرابلس.
على سبيل المثال، يدرج الكتاب السنوي الديمغرافي للأمم المتحدة لعام 1964 مدينتين فقط هما بنغازي وطرابلس، حيث يبلغ عدد سكانهما أكثر من 100000 نسمة. وبالنظر إلى تعداد عام 1954، كان 11.9% من سكان ليبيا يسكنون في المناطق التي يزيد عدد سكانها عن 100000، وهي نسبة زادت بحلول 1959 إلى 15% فقط.
يصعب الوصول إلى سجلات الإحصاء السكاني الدقيقة وقوائم التصويت قبل الثمانينيات. ومع ذلك، يختلف التوزيع السكاني لإقليم طرابلس الحديث اختلافا جذريا عن السابق: حتى أوائل عام 2010، كانت طرابلس أكبر بستة إلى عشرة أضعاف من مصراتة، وينطبق ذلك نسبيا على مدن إقليم طرابلس الأخرى.
بالاضافة إلى ذلك، كانت ليبيا قبل اكتشاف النفط في عام 1959 دولة فقيرة وكانت عبارة عن قرى بشكل عام، مما أدى إلى انخفاض عدد سكان الحضر في إقليم طرابلس، وبالتالي تعديل توزيع الناخبين.
ومع ذلك، عند حساب مجموع عدد السكان التقديري بالمناطق الحضرية في إقليم طرابلس، ومقارنة العدد بسكان ليبيا بشكل عام ـ بافتراض أن الناخبين في كل منطقة يعكسون تقريبا عدد سكانها ـ سنجد أن القاعدة الحضرية لحزب المؤتمر في إقليم طرابلس قد شكلت حوالي 14.2% من الليبيين، بينما فاز حزب المؤتمر بـ 14.5% من المقاعد في البرلمان.
ينبغي لنا بطبيعة الحال أن نتقبل حقيقة أنه لا يوجد دليل قاطع لتبرئة الحكومة (من تهمة التلاعب بنتائج الانتخابات)، ويرجع ذلك مرة أخرى إلى ندرة السجلات عن ليبيا ما قبل 1959، أو بالاحرى ما قبل الثمانينيات.
ومع ذلك، لا ينبغي لنا ببساطة قبول اتهامات التلاعب بالنتائج ضد السنوسيين والملك إدريس والحكومة الجديدة لمجرد التحيّز ضد الملكية. إلى جانب القليل من المنطق، التلاعب بشكل عام أمراً غير محتمل.
كما ينبغي الإقرار بأنه بعد انقلاب سبتمبر 1969، سعى القذافي إلى اتهام من كانوا في السلطة في ظل النظام القديم بتزوير الانتخابات. وقد ولّد هذا القرار مفارقة تاريخية عميقة. لقد وصل القذافي ورفاقه إلى السلطة دون انتخابات، فكيف يمكن أن يتهموا إدريس والسنوسيين بتزوير الانتخابات؟
لقد كان جواب العقيد، والذي تم التعبير عنه على أفضل وجه في نقاش مع طلاب جامعيين في بنغازي، أن “الثورة” شكلت تعبيرا عن الإرادة الشعبية. وبالتالي كانت الاجراءات التي اتخذها نظام القذافي لا تتفق بالضرورة مع الديمقراطية أو الانتخابات والتصويت.
يشك المرء في أن نشر القذافي في وقت مبكر لتهمة التزوير الانتخابي ساعد في نشر الفرضية، التي اكتسبت الآن مكانة الحكمة التقليدية.
بدأت رغم ذلك أعمال الشغب في طرابلس والمدن الكبرى الأخرى داخل إقليم طرابلس. ومع ذلك أن النظام الجديد قد يواجه أزمة شرعية، وبالنظر إلى العداء التاريخي بين أعضاء النخبة بإقليم طرابلس والسنوسيين، تحرك الملك إدريس ومحمود المنتصر بسرعة.
قاموا بقمع الشغب وأعمال عنف محدودة، حيث قُتل خمسة أشخاص فقط وجّرح خمسون. ثم حددوا المحرّضين وقادة حزب المؤتمر واعتبروهم تهديدا للدولة. ثم بعد ذلك قاموا بنفيهم من ليبيا. وكان النفي بمثابة ميزة تظهر رحمة إدريس والسنوسيين.
ومع ذلك، من خلال ترحيل غالبية قادة حزب المؤتمر إلى مصر، بما في ذلك زعيمه بشير بك السعداوي، وضع إدريس عن غير قصد أكثر معارضة علنية في حضن جمال عبدالناصر.
تمكن أدريس من ضمان الاستقرار من خلال قمع أعمال الشغب. ولم يقم إدريس بحل البرلمان، ولم يتدخل بشكل خاص في الشؤون العامة، وفضّل بدلا من ذلك السماح لرئيس الوزراء بالحكم. ومنذ الفترة التي بدأت فيها الحكومة الأولى، كان إدريس يقضي بشكل روتيني أشهر الصيف في أحد مساكنه الريفية، بعيدا عن البرلمان الليبي قدر الإمكان. وعندما سُئل الملك عن سبب تجنبه للانخراط في السياسة لفترة طويلة، أجاب بأنه يرغب في منح رئيس الوزراء مساحة للحكم. فالملك الذي يحوم فوق مسؤول منتخب من شأنه ببساطة أن يخنق التنمية السياسية.
وفي الحقيقة، فإن التحفظ المفترض لإدريس بشكل كبير على الانخراط في السياسة ينبع من فهمه للحكومة التمثيلية، وليس من عالم آخر مدفوعا بمساعيه الدينية.
نظرا لقيادة إدريس لعدة عقود للنظام السنوسي، ودوره المستمر كمحاور دولي لليبيا من عام 1917 إلى 1951، سيكون من المستغرب أن ينسحب إدريس من الحياة السياسية بعد أن أصبح ملكا.
***
هاري هالم ـ حاصل على ماجستير في الفلسفة والعلاقات الدولية وماجستير في النظرية السياسية من كلية لندن للاقتصاد. وهو باحث في قضايا الدفاع.
_____________