الهادي على الغدامسي
عندما نتحدث عن الشيخ الطاهر الزاوي، فإننا ننفتح عن كوكبة ليبية من العلماء والمشاهير الذين بنوا صرح ليبيا الحضاري والعلمي، وتركوا للأجيال أثار ومواقف لم تستطع السنوات الظلام أن تطفئ ألقها، ولا أن تقتل جذوتها، ولا أن تمحوها من ضمائر وذاكرة أبناء الشعب.
ولعل المعنى الكبير الذي تركه الشيخ الزاوي سجل البناة والمصلحين يتمثل في حماسته للعلم مسترشدا بحقيقة أن أول نداء للإسلام هو نداء العلم والدعوة إليه إذ قال تعالى “إقرأ باسم ربك الذي خلق .. خلق الإنسان من علق .. إقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم .. علم الإنسان ما لم يعلم“.
الشيخ الطاهر الزاوي نذر حياته للدفاع عن الشرع وأحكامه وقضية ليبيا وتحمل عن ذلك صنوف الجفاء ومختلف التغييرات والتضييقات
***
ولد الشيخ الطاهر الزاوي عام 1880 في منطقة الحرشا قرب مدينة الزاوية. والده السيد أحمد الزاوي من مربي ومصلحي المنطقة، حيث عزم على رعاية وتوجيه إبنه على قواعد العلم والفضيلة الإسلامية، فكان فضل الوالد كبيرا في ولادة وبروز أحد علماء ليبيا الأعلام.
نشأ الشيخ الزاوي تنشئة دينية راسخة، فأخذ القرآن الكريم حفظا ومعرفة في جامع سيدى على بن عبد الحميد بالحرشا على يد أستاذه الشيخ محمد بن عمر الصالح، وأخذ مبادئ الفقة على أستاذيه الشيخين الطاهر بن عبد الرزاق البشتي وأحمد بن حسين البشتي وهما من مشاهير المصلحين في تلك الأيام.
وفي عقده الثالث بلغت روحه الوطنية ذروتها حين شارك في معركة الهاني الشهيرة التي خاضها المجاهدون الليبيون ضد الاستعمار الإيطالي، وقد كان واحدا من المتصدين للغزاة في السادس والعشرين من اكتوبر عام 1911.
وبعد عام غادر إلى مصر لإتمام دراسته في الأزهر الشريف في خطوة استهدفت توسيع معرفته في علوم الدين استمرت سبع سنوات حيث عاد إلى طرابلس للمشاركة في حركة الجهاد المناهضة للمستعمر الأجنبي.
وبعد خمس سنوات غادر مرة أخرى إلى مصر لمواصلة دراسته العلمية في الأزهر، وفي عام 1924، وبينما الشيخ الزاوي يبدأ مرحلته الجديدة في الأزهر الشريف اشتدت المعارك في ليبيا بين حركة الجهاد والغزاة، وتركزت في الجبل الأخضر، فلم يجد بدًا من الاشتراك في المعركة عن طريق المقالات العديدة في الصحافة المصرية، انتصارا للمقاومة الوطنية، واندفاعا لتعريف العالم بالقضية الليبية العادلة.
وفي عام 1938 نال الشهادة العالمية من جامعة الأزهر، وبعد عامين من ذلك الوقت حصل على الجنسية المصرية وعين في وزارة الأوقاف لمدة تزيد عن ثلاثة عشر عاما، انتدب بعدها مدرسا بالمدينة المنورة في السعودية، وعمل خلال أعوام 1955-1957 في تدريس علوم الدين هناك، عاد بعدها إلى وطنه الثاني مصر.
شارك الشيخ الطاهر الزاوي في تأسيس اللجنة الطرابلسية عام 1943، وكان وكيلها وأبرز المساهمين في نشاطاتها السياسية والثقافية، حيث وضعت الدفاع عن القضية الليبية في صدارة مهماتها. وكان دائم الانشغال في شؤون وطنه على الرغم من أنه قضى أربعة عقود من السنين خارجه (من 1924-1967) ولم يزره سوى مرتين الأولى عام 1950 وكانت زيارة عابرة، والثانية عام 1964) وقد منح إقامة مؤقتة لمدة عام واحد أخطأت الحكومة آنذاك بعد تجديدها.
وفي مايو عام 1967 أذن للشيخ الزاوي بزيارة ليبيا ومنح إقامة خاصة لمدة عشر سنوات إلا أن الحكومة لم تعد له آنذاك جنسيته الليبية متذرعة بانتقاداته المتكررة للنظام.
وقد ارتكبت تلك الحكومة جريرة بحق الشيخ الجليل، ذلك لأن حق المواطنة لا يصح أن يسقط لأسباب سياسية تتعلق بالرأي والاجتهاد، حيث كان الشيخ الزاوي يعرض أراءه واجتهاداته في كتابات ومدونات من زوايا حرصه وغيرته على الدين وعلومه والعدالة والحق.
كان الشيخ الطاهر الزاوي يعبر عن ارائه استنباطا من أحكام الشرع وروحه، وقد وجد نفسه مسؤولا عن إعلان الرأي بوضوح أشد بعد انقلاب عام 1969. فكانت شهور رمضان تتحول إلى مناسبة ليطل منها على المواطنين عبر وسائل الاعلام متحدثا بشجاعة نادرة عن أخطاء وانحرافات الحكم التي تتعارض مع شريعة الأمة وقيمها، الأمر الذي اضطر السلطات الانقلابية إلى إغلاق وسائل الاعلام أمامه.
وجد الشيخ الطاهر الزاوي نفسه عاجزا عن القيام بواجب الإفتاء، باعتباره مفتيا لليبيا، فقدم استقالته، مكتفيا بمناصرة الحق والدفاع عن الشريعة والفضيلة بواسطة مذكرات مفتوحه موجهة إلى ما يسمى مجلس قيادة الثورة الحاكم إبراءً لذمته وانسجاما مع عقيدته.
وفيما تقدم العمر بالشيخ الزاوي، كانت مآثره ومواقفه تزداد تألقا وتمسكا بالفضيلة والشرع والنزاهة مما كان يثير عليه حق الحكام الذين عبروا عن ذلك الحقد بمنعه من السفر للعلاج في الخارج في أواخر حياته.
والغريب أنهم اشترطوا عليه تثبيت وظيفته كمفتي للبلاد على جواز السفر للموافقة على مغادرته. وقد رفض الشيخ الجليل هذه المساومة بشدة، ذلك لأنه لم يكن مستعدا لتحمل تبعات وظيفة استقال منها منذ سنوات طويلة، وعندما توفي عام 1986 كانت ليبيا كلها تذرف الدموع إحساسا بالخسارة الفادحة التي لحقت بحركة وأصوات الحق في البلاد.
لقد عاش الشيخ الطاهر الزاوي ستة وتسعين عاما من الجهاد والاجتهاد، من الفضيلة والعلم، من الصلابة في الحق والسماحة في التقوى، وترك وراءه إرثا ورصيدا لا يقدر بثمن من المؤلفات والكتب العلمية، وبخاصة تلك الصفحات التي سلطت الضوء على حركة الجهاد ضد الطليان وهي اليوم من أهم المراجع التاريخية، مما وجب علينا أن نذكره ونتذكره دائما بوصفه أحد الأعلام الذين لم تحنهم رياح الباطل وعواصف الظلم.
__________
المصدر: مجلة “المنار” (مجلة سياسية تدعو إلى ليبيا الدستورية) ـ العدد الثالث، مارس 1994م