كلمات في الموسم الحادي والسبعين

سالم الكبتي

عقب الاستقلال بفترة قصيرة بدأت الهزات. ثمة زلازل تتحرك حولنا وتتسع. تغيرات عنيفة بجوارنا. وصل شباب العسكر العربي للسلطة. كاريزما قادمة أبهرت الكثير.

انطلاق خطاب جديد ودعوات جديدة ومظاهر جديدة ومفاهيم جديدة تختلف عن سابقاتها. خلال هذه التغيرات الوافدة بدأت صورة الاستقلال الذي أعلن بصوت هادئ في التلاشي والغياب.

لم يعد الاستقلال حلما كما كان. التضحيات القديمة لم توازِ، على مايبدو، ثمن الاستقلال. غدت المحافظة عليه أصعب من نيله. بدأ الليبيون يتململون. انطلقت حملات التشكيك في هذا الحلم من أساسه.

مراحل أخرى لاحت أمام الأنظار حقيقة ساطعة تنبئ عن واقع أقبل بقوة يرسخ أقدامه وضاعت فيه معاني وقيم ذلك الاستقلال متزامنة مع إهمال التاريخ وحصول الاتهام والتشويه.

ليبيا (المستقلة).. بدت تلوح أيضا من على القرب وكأنها دون حرية أو استقلال!!

.. وإذن فإن مجموع المفاهيم الجديدة والمغايرة التي نهضت في وجه الاستقلال نشأ عنه خطاب جديد مهد بسهولة للصراع الذي سينشأ رويداً رويداً وهو يمسك بخناق الاستقلال.

ثم مع الوقت سيغدو الصراع عميقاً مثل الجرح الغائر الذي لا ينفع معه الملح. ثم من بعد سيلوح هذا الصدام في مراحل تالية من الإعلان.. لم تكن عنه بعيدة في الزمن والمسافة أخذت تترصده بالتشكيك في قدرته على البقاء والصمود وسط الخرائط المتشابكة.

ثم أشير إليه في ذلك السياق (سياق التشكيك) ومنذ البداية بأن الاستقلال لم يكن وطنياً خالصاً بل ولد غريباً ومشوهاً وأنه صناعة أجنبية بمجرد تزامن هذه الولادة مع أعياد الكريسماس.

تهمة التصقت بالاستقلال وظلت مثل وصمة عار تتجافى عنها الجنوب والمضاجع!

وإذن كذلك فقد اعتبر الاستقلال بهذا الشكل كفراً من أول القصيدة ونال التعميد وفقاً لهذه الصيغة والرؤية من (أسياده وكهنته) الذين تعهدوه بالرعاية وتولوا صناعته وإخراجه من المعبد لكي يراه الجميع نظيفاً وجميلاً ومدللاً يزهو بهدية عيد الميلاد.

وإذن كذلك .. ظل التشكيك يحوم ويدور بلا انقطاع ووصف الاستقلال بناء عليه بالاستقلال المزيف واستقر التشكيك بعد هذا الدوران ليؤكد بطريقته الخاصة في نهاية المطاف أن الاستقلال الليبي مجرد تاريخ مضى وحقبة انتهت وأنه لون من الألوان البغيضة ولم يعد يشكل شيئاً لنا.

وتلك في تفاصيلها قصة محزنة لكنها ظلت من المهام التي تكفلت بها المفاهيم والمظاهر الجديدة في مواجهة الاستقلال ومعانيه الكبيرة.

ومع استقواء هذه المفاهيم برزت علامات أخرى في الطريق لبدايات الصدام التي لم تكن متوقعة في الأساس والتي ستتواصل ولن تتوقف.

لقد استقبلت الوليد بالمشاكل والأزمات والصراعات في بلد لا تزال المخاطر تحفه من كل جانب: كانت أولى العلامات.. صدام وقع في الانتخابات المبكرة الأولى بعد أن بلغ الاستقلال شهرين من عمره في فبراير 1952. كان لا يزال في القماط.

انتخابات جرت وانتهت ونتج عنها قتلى وجرحى في بعض المناطق ورافق هذا الصدام الأول نشوء المزيد من الشكوك والتشكيك وسوء النية المسبق ثم إبعاد لشخصيات رأى الكثيرون من وجهة نظرهم الخاصة وأغلبهم كان مسؤولاً في بعض مرافق الدولة أنه كان من المفترض معاملتها بطريقة مختلفة عما حصل إضافة إلى وجود بعض الوجوه الوطنية في السجن لحظة إعلان الاستقلال بأحكام سبقته منذ أشهر..

غير أن السياسة ومداولة الشؤون تبقى ذات ظروف وملابسات في سياقها وظرفها التاريخي تتعقد أحياناً إلى درجة المرارة.. ظروف تبقى مجهولة وتنحسر في كلياتها عن مناطق الضوء والوضوح.

إن السلطة ترى حساباتها وتحددها بالكيفية التي لا يخطئها نظرها هي فقط خاصة مع مولد دولة جديدة واستقلال بكر.

فيما الشخصيات المعنية بالحراك في جانب مقابل ترى أحقيتها في المشاركة في العمل الوطني بأية صورة من الصور طبقاً للدستور والقوانين.. حتى وإن أخطأت أو تجاوزت الحدود في التصرفات في نظر الآخرين!

هنا تقاطعت الرؤية وتشابكت الخطوط وظلت الألوان معتمة وعلى هذا كان لا بُد أن ينمو التشكيك وتتغلب الشكوك والظنون.. وتحوم وتنضج معها الكثير من الدمامل ويغيب العلاج الحقيقي ثم يتسع الخرق لانتشار الأقاويل وعدم الثقة والرمي بالعمالة والخيانة والتعدي على الدستور وإهانة الاستقلال في خطواته الأولى .

وعلى سبيل المثال ترددت أنباء بأن الأهانة طالت العلم الوطني الذي أقرته إرادة الليبيين من خلال الجمعية الوطنية التأسيسية ووصل الأمر إلى تمزيقه والدوس عليه في بعض تلك الأماكن التي شهدت الصراع!

وعلى كل الوجوه التي حدثت وصارت يستطيع الإنسان القول بأن ليبيا مع مولدها الجديد الذي حصلت عليه بشق الأنفس لم تكن في حاجة تقود أو تدعو إلى هذا الصراع والصدام بعد ساعات من الميلاد العسير ولكن الأطراف الأخرى التي تنظر من بعيد سواء في الداخل أو الخارج ظل يسعدها أن تبدأ ليبيا أول المشوار بهذه الأخطاء.. وهذه الأزمات.. وهذه التشوهات والجروح.

وفي خلفية لهذا المشهد الذي دار وحدث يفيدنا الواقع بأن ليبيا في صورتها الحقيقية لم تكن سوى بلد بسيط ومتواضع ومتقارب فلا وجود لطوائف أو مذاهب مختلفة أو لصراع طبقات أو فئات برجوازية كبيرة أو إقطاع أو باشاوات أوبكوات وأفندية كما هو الحال لدى آخرين من دول المنطقة.

كان المجتمع متجانساً في أغلبه والجميع يعيشون ببساطة رغم اختلاف المظاهر التي لم تكن بفوارق كبيرة وكانت الأرض رغم بنادق القبائل ملكاً بالمشاع أو المغارسة أو بالوراثة أو يخضع للدولة.

لم يكن ثمة فساد ينمو أو يستشري.

حفل المجتمع أيضاً رغم بعض الظواهر السلبية بمنظومة من القيم والأخلاق وصلت في بعض الأحيان إلى مافوق التصور. كان الليبيون رغم ظروفهم المعيشية متقاربين ويعرفون بالشهامة ويتحلون بالصدق ويعتزون بكرامتهم وأنهم في كل الظروف من الذين يؤثرون على النفس ولو كان بها خصاصة.

لم يظهرالبترول بعد.

لم يحدث تطاول كبير في البنيان.

وهذه المنظومة من القيم والمثل صانت المجتمع في العديد من المرات وغلت الصراعات والأحقاد علاوة على تفعيل مفهوم الدولة والقانون إلى جانب الأعراف والمواثيق بين المواطنين.

وكان لهذا الواقع المفتقر إلى الإمكانات المادية والحاجة إلى التطور والنهوض أن يمد يداه ويطلب المساعدة الضرورية من برامج الأمم المتحدة الاقتصادية والفنية والثقافية والاجتماعية ثم إضافة إلى القواعد العسكرية وصلت النقطة الرابعة والمصالح المشتركة ومنظمة لارك ومنظمة كير والتنمية والاستقرار والشركات الأجنبية المختلفة.

وفي هذا الجانب المحزن ذكر لي السيد حسين مازق في إحدى مقابلاتي معه بأنه أثناء وجوده والياً لبرقة العام 1955 لجأت حكومة الولاية إلى الاستدانة من بنك باركليز لتسديد مرتبات موظفيها في أحد الأعياد الدينية وكان المقابل أن الحكومة لكي تفي برد السلفة اضطرت إلى رهن مجموعات من الأكياس الفارغة (الشوالات) الموجودة في مخازن الحبوب لصالح البنك المذكور.

منتهى العجز في الميزانية والخزانة والظروف المالية بصورة عامة في البلاد وفي الغالب لم تكن الولايات الأخرى أفضل حالاً مما يحدث في ولاية برقة.

أقبلت على الوطن موجة من الجفاف.. والجراد وشح المطر وقد برزت هذه الصور المحزنة في كثير من الأشعار العامية والفصحى لدى جعفر الحبوني ورجب الماجري وعبدالسلام قادربوه.. على سبيل التذكير والمثال.
كان هذا في مجمله يمهد لصدام آخر أشد وطأة وثقلاً مع الحالة الاقتصادية البائسة التي تسود ليبيا.

كانت القوات الأجنبية كما سلف القول موجودة بحكم ظروف الحرب العالمية الثانية وما بعدها فوق الأرض. كان ذلك واقعاً لا مفر منه ولا يمكن نكرانه.

هنا في مفترق الطرق الصعبة لاح حل كان لا بُد من الارتكان إليه بعد أن طرقت ليبيا الأبواب في مصر والعراق ورجعت خائبة بأن لا أمل في مساعدة الشقيقتين لظروفهما اللتين تعللت بهما.

الحل استدعى ظهور خطاب انبنت عليه معاهدات واتفاقات رسمية.

وتمثل الخطاب بكل هدوء لبريطانيا وأميركا وفرنسا: إذا كان لديكم رغبة في البقاء فادفعوا الإيجار لنا إلى أجل لا يتجاوز العام 1970.

وكان ذلك رغم كل التقييمات والاتهامات ضرورياً رأته الدولة.. الملك والحكومة.

فلا يوجد طريق آخر أو بديل مناسب.

الناس في أشد الاحتياج والدولة ملزمة بتعليم أبنائها ومعالجتهم وتقديم الخدمات لهم وسينعكس ذلك وفقا لرأيها على المواطن بالتدريج. الإيجارات والمساعدات أسهمت في حل المشاكل ذلك الوقت.

الدولة نظرت بواقعية إلى الأمر. وركبت الصعب.

وكان الصدام متوقعاً فقد عارض ذلك مجموعة من نواب البرلمان وانتشرت القصائد اللاهبة والمظاهرات والمنشورات والتململ وهي في بعض تفاصيلها لم تبتعد عن تغذية الأطراف القريبة والبعيدة وتواصل التشكيك بأن الاستقلال ناقص السيادة وليبيا محتلة.

وفي صورة أخرى لا تقل واقعية عما رأته الدولة استفاد العديد من المواطنين وسط هذه الظروف الاقتصادية من هذا الوجود الأجنبي.

في العام 1956 ورداً على العدوان الثلاثي على مصر التهبت الأجواء في أغلب أنحاء البلاد تضامناً مع (الشقيقة مصر) التي اعتذرت عن المساعدة قبل توقيع الاتفاقات ونشأ عن ذلك أضرار طالت المواطنين المستفيدين ففي درنة مثلا اضطرت القوات البريطانية إلى الانسحاب الكامل من المدينة واتجهت إلى طبرق.

خلت المعسكرات والمباني ومواقع الرماية والملاعب والنوادي والمساكن وترتب عنه أيضاً فراغ اقتصادي تحمله سكان المدينة الذين كان يعيش أغلبهم على وجود تلك القوات ولعل الكثير منهم أيضاً لم يرق له ما حدث من حماس البعض في المدينة وتأثره بشعارات المد القومي المجاورة.

.. ثم كان الصدام الرهيب الذي أحدث شرخاً ترتبت عنه صدوع في جدار الاستقلال أصابته بالتشظي.. اغتيال ناظر الخاصة الملكية في أكتوبر 1954.

ثم كان المزيد أيضاً فيما تبقى من طريق الاستقلال.. تهدأ وتسكن ثم لتنفجر بمزيد من الحرائق.

يتبع

***

سالم الكبتي ـ كاتب ومؤرخ ليبي

_________

مقالات

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *