ابراهيم عبد العزيز صهد

قبيل الفجر أفقنا على أصوات طلقات متفرقة قريبة من النافذة، وكنا نترك النافذة مفتوحة دائما نظرا للحر الشديد.

كان واضحا أن الجنود كانوا يطلقون الرصاص في الهواء من حين لآخر، وكان إطلاق الرصاص بتكرر من مواقع متعددة حولنا.

عند الضحى جاءوا لنا بأكواب حليب مع الشاهي ورغيفي خبز. أدخلهما أحد الجنود وانصرف. بعد قليل طرق الباب ودخل علينا أحد الضباط برتبة ملازم مستفسرا إن كنا نريد شيئا، وأخبرنا أن هناك ضابطين في الغرفة المجاورة وأنهم في حكم المعتقلين لأسباب أمنية، وقدم لنا نصيحةبألا نتحادث معهما.

قال له جاب الله إذا كانوا هم في حكم المعتقلين فما هو وضعنا؟ وكيف نتحادث معهم ونحن مغلق علينا هذا الباب؟ ارتبك الملازم، وقال على كل حال هذا الذي طُلب مني إبلاعه لكما، وعندما سألناه من الذي طلب منك ذلك، تردد قليلا ثم قال النقيب خيري“.

قال له جاب الله شكرا لك على أي حال“. أضاف الضابط بأن خيري هو الذي يتصرف في المعسكر ويتلقى تعليمات مباشرة من معمر.

بعد قليل من خروج الضابط، طُرق الباب فوجدنا جنديا أدى التحية العسكرية وقدم لنا نفسه بأنه حارسنا الجديد، وقال إنه وزميله استلما من الحارسين السابقين، وأن نوبتهما تنتهي في الليل. وقال لنا إذا أردتم أي شيء يستطيع أن يقوم به فلا تترددوا في طلب ذلك، وكان يريد أن يشعرنا بأنه يرغب في التعاون معنا.

 عند الظهر طرق الباب، وكان الطارق ضابطا أعرفه جيدا (أشير إليه باسم علي)، وكان يلبس ملابس مدنية، سلم علينا ودخل وعرفنا منه أنه هو وضابط آخر (صالح) معتقلان في الغرفة المجاورة.

سبق لي أن عرفت الضابطين، عليكان من منطقة القبة، وصالح كان من البيضاء، وكانا برتبة نقيب، وهما من الدفعة السابعة، أي أنهما قد رقيا إلى رتبة نقيب منذ أقل من شهر. عرفنا أنهما هما من حذرنا خيريمن الحديث معهما. بعد قليل دخل (صالح). سمعنا منهما قصة اعتقالهما.

كان الضابطان يعملان في كتيبة المدفعية، بعد الانقلاب بأيام كلفا بمهمة في معسكر باب العزيزية، وبعد يومين من وصولهما فوجئا بخيري خالد ومعه ضابطين آخرين يشهرون عليهما السلاح، ويعتقلانهما.

قال لنا الضابطان أنهما –كغيرهما من الضباطقد تقبلا الانقلاب ولم يقاومانه، ولم يفعلا شيئا يكون سببا لاعتقالهما. وأخبرانا أن هناك ضباطا آخرين معتقلون في غرف أخرى، وأن كل المعتقلين الآخرين –بمن فيهم هميستطيعون الخروج إلى الممر ولكنهم لا يستطيعون مغادرة المبنى، ولكن غرفتنا نحن فقط هي التي عليها حراسة على باب الغرفة.

وقالا بأنهما عندما استيقظا في الصباح فوجئا بالحراسة على الغرفة، ثم عرفا منذ قليل فقط من أحد الحراس بهوية المعتقلين في هذه الغرفة فجاءا للسلام علينا.

علمنا منهما أن الاعتقالات في صفوف الضباط أكبر بكثير حتى مما ظننا، وأن معظم ضباط الجيش قد جرى اعتقالهم في سجن الحصان الأبيض[*]” في طرابلس وفي سجن الكويفيةفي بنغازي.

كذلك عرفنا منهما أن الاعتقالات لم تتوقف ولم تقتصر على الأيام الأولى للانقلاب، وأنهم اعتقلوا بعض من تعاونوا معهم. لكن الضابطان لم يبقيا طويلا عندنا، وعادا إلى غرفتهما، إذ أن دخولهما عندنا هو من تسهيل الحراس، ولا نريد أن نسبب لهما أية مشكلة.

زادت الأخبار التي أخبرنا بها علي وصالح من قلقنا. فإذا كانت الاعتقالات بهذا الحجم، فمن بقي في الجيش من الضباط؟

وإذا كانت الاعتقالات طالت حتى هاذين الضابطين، فمن هو بمنجاة من الاعتقال؟

ولماذا يرسل خيري من يحذرنا من هاذين الضابطين وهما لم يفعلا شيئا؟.

وإذا كانت هذه هي تصرفات القائمين بالانقلاب في وسط الجيش، فكيف هي تصرفاتهم خارج الجيش؟

وغيرها من التساؤلات.

لكن كان واضحا لنا الأسلوب القذر الذي اتُّبع في الانفراد بهما ثم اعتقالهما، فقد اُبعدا عن كتيبتهما بحجة مهمة في معسكر باب العزيزية، ثم اعتُقلا تحت تهديد السلاح.

كانت هذه الصورة قد أضافت بعدا آخر لحقيقة الأسلوب الذي يتبعه الانقلابيون.

في اليوم الثاني، كنت أصلي صلاة العصر، حين سمعت صوت طلقة نارية من ناحية النافذة صاحبه صوت ارتطام.

كان جاب الله مستلقيا في فراشه فقد سبقني إلى الصلاة، سمعته يقول والله قبل حوتك رحت فيها .. ما بينك وبينها شي“. كانت الرصاصة قد دخلت من النافذة ومرت خلفي وارتطمت بأعلى جدار الغرفة. بعد أن أتممت الصلاة، اتجهنا إلى النافذة لنرى ماذا حدث فرأينا عددا من الجنود في الساحة قريبين من النافذة، وعرفنا أن رصاصة طائشة قد انطلقت من إحدى بنادقهم، وكانوا لا يعرفون أن الرصاصة قد دخلت عندنا.

أحد الجنود جاء وأدى التحية وسلم على بالاسم، كان برتبة نائب عريف (على ما أذكر وكان اسمه محمود)، وعرفني بنفسه بأنه كان يعمل في سرية المخابرة الأولى في معسكر قريونسعندما كنت في نفس المعسكر، وقد نقل إلى سرية المخابرة الثانية في معسكر الفرناج منذ أشهر فقط، وهو الآن مكلف مع عدد من الجنود بالحراسة في أحد المباني الواقعة على الساحة التي نطل عليها من نافذة الغرفة. وقال لي إنه لم يكن يعرف بوجودي في هذه الغرفة إلا هذه اللحظة عندما رآني.

في اليوم التالي كنا نائمين بعد الظهر، عندما سمعنا طرقا خفيفا على النافذة وصوتا ينادي باسمي، وعندما تطلعت من النافذة وجدت نائب العريف محمود، كان يحمل في يده وعاء كان يدخله بين قضبان النافذة، قال لي هذي شرمولة وسامحني على هذا الصونية ما قبل لقيت حاجة تدخل بين القضبان، وجاء معه بخبز.

شعرت بالحرج، فربما هذا يتسبب في أذية للرجل، لكنه قاطع أفكاري وقال ولا يهمك والله واجعتني انشوفكم في ها الدار، إن كان تبوا أي حاجة أنا دائما موجود من بعد الظهر إلى المغرب، وسأوصي الجماعة في النوبة الصباحية.

ثم قال إذا أردتم أي شيء نادوا علي من ها الشباك. كنت في غاية الحرج، فقال لي تؤمر بحاجة الآن، وقبل أن أشكره سمعت جاب الله يقول إن كان درتوا شاهي احسبونا معاكم“.

 لم يكتف هذا الرجل ورفاقه بحسابنا معهم في الشاهي، ولكنهم كانوا يأتوننا بسندويتشات التن وبالشرمولة يضعونها في وعاء يستطيعون تمريره من بين قضبان النافذة.

ورفضوا أن يأخذوا منا شيئا، كانوا يقولون لنا أنتم ضيوفنا.

وللحديث بقية إن شاء الله

________

المصدر: مدونة جولات من التاريخ الليبي

مقالات

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *