صلاح علي إنقاب
نحن قبليون بطبيعتنا.
القبائل اليوم ليست مثل القبائل قبل آلاف السنين: “إنها ليست مجرد قبائل دينية، أو قبائل عرقية. إنها عشاق الرياضة. إنها مجتمعات. إنها جغرافيا“.
هكذا يصف رجل الأعمال الأمريكي، هاوارد بيتر جوبر، القبيلة في مفهومها الحديث، فالبشر بطبيعتهم يجدون أنفسهم دائماً ينتمون إلى قبيلة ما، بشكل أو بآخر.
وكما تطورّت كل أشكال حياة المجتمعات البشرية، تطوّر مفهوم القبيلة المبني على العصبية، ليأخذ أشكالاً أقل ظهوراً وتحديداً، بحيث أصبح بإمكان المرء أن ينتمي إلى أكثر من قبيلة في آن واحد.
لكن في ليبيا، لا تزال القبيلة تأخذ شكلها البدائي البسيط
القبيلة في شكلها البدائي تسجن الفرد وتمنعه من الحصول على مكان أقوى منها نفوذاً أو فوقها أو أخذ موقف ضدّها، فالقبيلة في ليبيا كانت وما زالت حاضرةً قبل الاستقلال وبعده.
استخدمها القذافي للبقاء واستخدمته هي لإسقاطه.
واستخدمت القبيلة الدولة لفرض وجودها فوق الدولة نفسها، فعاد الليبيون إلى الدائرة الأولى لما قبل الدولة، ليتمترس كل منهم خلف قبيلته.
قبائل منتصرة ضد قبائل مهزومة
وثارات وتحالفات تتم إعادة إحيائها بعد خمودها لأكثر من مئة عام لتطفو فوق السطح في كل أشكال الحياة والحرب أيضاً.
والقبيلة بطبيعتها تضع نفسها أولاً فوق كل شيء.
بما في ذلك حقوق أفرادها وخياراتهم بل حتى حيواتهم. فالجماعة لها الحق في كل شيء، والفرد تابع لهذه الحقوق التي يجب أن يخضع لها حتى لو كانت تكلّفه نفسه. وشدة قسوة القبيلة في إجبار أفرادها على اتّباع خياراتها تختلف باختلاف الطبقة والقوة والجنس.
هذه كانت مقدّمة لا بد منها للحديث عن قصة قهر القبيلة لامرأة وجدت نفسها ضحيّةً بلا صوت، في دولة بلا قانون، ومجتمع بلا ضمير.
فالمواطنة الليبية (ح. أ.)، من مدينة ليبية على هامش صحراء ليبيا الساحلية، ضحية قصة ترويها لرصيف22، بنفسها.
هي تمتلك نصف صوتها، الذي فقدته عندما حاول زوجها قتلها خنقاً، بعد أن واجهته باكتشافها أنه تحرش بابنتهما المراهقة، وابنه الذي لم يبلغ من العمر عقده الثاني، والذي طعن والده وهو يحاول الفرار من بين يديه اللتين حاول بهما نزع بنطاله، قبل أن يصل إلى نقطة تفتيش ليخبرهم بأنه قتل أباه.
الزوج لم يمت، والفتى لم يستطع الوصول إلى مركز الشرطة للتبليغ عن الواقعة، إذ اتّجه أفراد نقطة التفتيش بعد اتصالهم بأشقاء الوالد إلى المزرعة التي أخبرهم الطفل بأنه طعن والده فيها، ليجدوه مضرّجاً بالدماء، ويقوموا بإسعافه وإمساك الطفل وإرساله إلى البيت مضرّجاً بدمائه ودماء والده، منتظراً عودة والده ليعاقبه على جريمة الدفاع عن نفسه.
كل هذا حدث ببساطة، لأن رجال الشرطة كانوا من قبيلة الزوج، ورئيس المركز أيضاً، لكن الواقعة عادت إلى الحياة بعد عام كامل، بعد أن تأكدت الزوجة من أن زوجها يتحرش بابنتهما، لتحدث المواجهة التي كادت تكلّفها حياتها، وليجد ابنها نفسه يصارع والده للمرة الثانية، مانعاً إياه من خنق أمه.
لكنه فشل في مصارعته لتسقط أمه مغشياً عليها، ويذهب الابن إلى بيت الجيران ليخبرهم هذه المرة بأن أباه قد قتل أمه.
الزوجة لم تمت. أتى إخوتها برفقة رجال الشرطة، ليلقوا القبض على الزوج ويسعفوها، وتنتهي القصة بفرار الزوج من السجن.
اختفاء المحضر، وعدم عرضه على النيابة العامة، وغيرها من الأمور، حدثت لأن قبيلته هي التي تدير مركز الشرطة في المدينة، بألف ذراع.
بعد خروج الزوجة من المستشفى، قررت ألا تعود إلى بيت الزوجية.
ولأن قبيلة الزوج تتحكم في كل مؤسسات الشرطة القضائية، والبحث الجنائي، ومديرية الأمن ومكافحة الجريمة، لم تجد أمامها سوى الذهاب إلى الأمن الداخلي، وهي مؤسسة أعلى من المؤسسات المحلية الأخرى، وخارج سيطرة قبيلة الزوج، لتقدّم لهم حقيبةً مليئةً بالوثائق والصور، والتي تؤدي إلى سجن الزوج أطول مدة ممكنة، بتهم الشروع في القتل، والتحرش، والتزوير، والنصب والاحتيال.
هنا بدأت الحرب المعلنة بين الضحية وأطفالها الخمسة، والقبيلة وأذرعها الألف.
فبعد أن تم التحقيق مع الزوج، ومواجهته بالوقائع والوثائق، وبعد توكيل محامية لتمثيل ح. أ.، وأبنائها، وجدت المرأة نفسها تواجه قبيلتها وقبيلة زوجها، ليطلب منها الجميع التنازل عن القضيّة، حفاظاً على سمعة القبيلة وشرفها، ثم تتوقف المحامية عن الحضور إلى جلسات النيابة العامة، وتستقبل (ح. أ.)، اتصالاً من محرر العقود الذي كتب صيغة الدعوى، يطلب منها خلاله التنازل عنها، ويطلب منها أشقاؤها أيضاً الأمر نفسه.
ولأن الدولة الليبية نائمة في سبات غياب سلطة تنفذ القانون منذ عشر سنوات، استطاعت القبيلة أن تقنع الزوجة بأن الدولة تنازلت عن حقها العام، وأن لا مفرّ أمامها للنجاة سوى التنازل عن حقها وحق أبنائها أيضاً.
تقول (ح. أ.) : “ذهبت إلى المحكمة للتنازل بعد موافقة زوجي على تطليقي، وبينما نحن في المحكمة رفضت ابنتي التنازل عن حقها، ورفض زوجي تطليقي، وتنازل ابني بعد أن أقنعوه بأني لست أمّه“.
وهذه قصّة أخرى، فعلى جري عادة القبيلة، فإن الوتر الأكثر استخداماً وتأثيراً هو وتر الشرف؛ أقنعوا الابن بأن والدته لديها علاقات مع رجال آخرين، وأنّه وإخوته عليهم إجراء تحليل لمعرفة من هو والدهم.
لقد حوّلت القبيلة الأم إلى زانية في نظر الابن غير الراشد، الذي تنازل عن حقّه ونسي من هول الصدمة معركته بالسيوف مع والده، واتجه لضرب أخته الكبرى لأنها أصرّت على موقفها، وخرجت على مواقع التواصل الاجتماعي تحكي قصتها للعالم أجمع.
وخوفاً من أن يتحول الأمر إلى قضية رأي عام –وهو أمر نادر الحصول في ليبيا، حيث لا يمتلك الليبيون ذاكرةً تكفل عدم نسيان مآسيهم، والاهتمام بحل مشكلات بعضهم البعض– قرر شيخ قبيلة (ح. أ.)، أن يتدخّل ويعدها بأن تأخذ حقّها، لكن داخل بيت القبيلة.
وبعد أن تحصلت على ورقة الطلاق، والخروج من بين الزوجية إلى بيت مستأجَر بعيد عنه، رفض الزوج دفع نفقة أطفاله لأن الابنة رفضت التنازل، لتعيش (ح. أ.)، لأشهر، حياةً صعبةً.
تقول: “كنت وأطفالي ننام من دون عشاء، بعد أن اتهمتنا القبيلة بأننا جلبنا العار لها، ونسي شيخ القبيلة وعده، ونسي الجميع وجودنا، لكن زوجي لم يفعل، إذ بدأ يرسل رسائل التهديد، ويداوم على القدوم إلى باب العمارة التي أسكن فيها، ليجعلني أراه عبر قضبان الحديد التي أحدّ بها أبواب الشقة ونوافذها. يقف ويصيح باسمي وبأسوأ العبارات النابية، لأجد نفسي أهرب إلى مدينة أخرى تبعد ألف كيلومتر تقريباً، حيث لا يستطيع أحد من القبيلة الوصول إليّ، لقطع رقبتي أو رقبة ابنتي“.
حدث هذا بعد أن حاول أعمام الأطفال الهجوم على البيت وانتزاع الأطفال من والدتهم، وبعد محاولة الابنة الانتحار بعد أن سمعت شائعةً مفادها بأن والدها تمت تبرئته من كل القضايا ضدّه، ليكون الفرار من أيادي القبيلة الألف، نحو مكان آخر، في رابع أكبر دولة في القارة، الخيار الوحيد الممكن.
وخسرت (ح. أ.)، ابنها الذي قرر العودة إلى أبيه الذي تبادل معه الطعنات قبل أشهر، وخسر بقية الأطفال الحق في الذهاب إلى المدرسة بعد أن رفضت القبيلة إعطاءها ملفاتهم الدراسية ليتمكنوا من التسجيل في مدرسة مدينة الفرار الجديدة، وبقيت قضية ابنتها معلقةً في الفراغ بعد أن رفض المحامون في المدينة استلامها.
هذه القصة تسرد باختصار تأثير القبيلة على الفرد والدولة، وهي قصّة ضحيتها دائماً المرأة التي عندما تقف ضد أعراف القبيلة وخصائصها الأبوية لتحاول التحول من كائن تابع مسلوب الإرادة، إلى شخص مستقل له حقوقه المستقلة عن رغبات القبيلة نفسها، تصبح عدواً يمثّل عاراً حتى لو كانت ضحية عنف يصعب تحمله كالذي تعرضت له ح. أ.، مع أبنائها على امتداد رحلة زواج دامٍ امتد لأكثر من تسعة عشر عاماً.
____________