عمر المختار

مما اراه دائما واتذكره وانا في تلك الغرفة الصغيرة (برج المراقبة) في مدينة فاداالمليئة باجهزة الاتصال، انا وزميلي الذي لست ادري ان كان حيا ام لا، وكلانا في حالة طوارىء طول اليوم وطول الليل.

كنا نتبادل الراحة كل اربع ساعات. وفي يوم1-1-1987 كنت نائما وكان زميلي الملازم احمد القليب جالس امام الاجهزه. فايقظتني اصوات الاجهزة، فعلمت ان هناك شيء ما يحدث، فسالت زميلي ماذا هناك.؟ فاجابني: يبدو ان العدو يهاجم قواتنا، ارتابني بعض الخوف للحظات ثم تيقنت بان المصير الذي اراده الله لنا فلا مغير له، ولا مفر منه.

وشعرت بالطمانينة، وباشرت العمل فكان زميلي على اتصال بغرفة عمليات المنطقة، بينما توليت انا مهمة الاتصال بالقواعد الخلفية والطيارين في المطار. حيث اقدم التقارير الى غرفة العمليات في وادي الدوم وانقل طلبات امر عمليات المنطقة الى القواعد الخلفية.

وطلبت من الطيارين المتواجدين في قاعدتنا الترابية بالاقلاع واستطلاع مكان العدو، ولكن المعلومات التي جاءتنا تحدد مكان العدو كانت خاطئة. فلم يكتشف طيارونا مكان العدو لانهم اتجهو جنوبا وما رأوه سوى بضعة سيارات نقل قاموا بتدميرها وعادوا، بينما العدو كان قريبا جدا منا وبالتحديد في بوابة الـ17 بعد ان دمر المواقع الامامية لقواتنا.

امر المقدم فتح الله امر المنطقة بان نطلب قاذفات من السلاح الجوي في قاعدة السارة للاسناد. وفعلت ذلك لكنهم قالوا ستقلع طائرات السي خوي 22 من السارة بعد ساعة وطائرات الميغ من الكفره، فانتظرنا ساعة وعاودنا الاتصال بهم فقالوا بعد ساعة، وكلما عاودنا الاتصال بهم قالو ستقلع بعد ساعة والعدو يتقدم ويسحق مواقعنا. الواحد تلو الاخر. بقينا على هذا الحال من الساعة الخامسة صباحا حتى الثانية عشرة ظهرا.

تلقيت اتصالا من قاعدة السارة يطلبون مني احداثيات مكان العدو فقام زميلي بالاتصال بالمقدم فتح الله فاجاب بانه لا يعرف، لان سرية المخابرة كانت تنقل اليه معلومات خاطئة وهم فارّون من ميدان المعركة متجهين شمالا ناحية وادي الدوم ويقولون ان قواتنا تطارد العدو خارج المنطقة. بينما كان العكس هو الصحيح وقال المقدم فتح الله بانه سيتقدم الى بوابة الـ 17 ليستطلع الامر بنفسه.

وبعد حوالي ربع ساعة حاولنا الاتصال به دون جدوى ولم يستجب للنداء، فكرر زميلي النداء وفجاة أجاب أحد افراد العدو قائلا أسكت يا ابن الوسخة.

فتاكد لنا أن آمر المنطقة قد توفي او أُسر. كررت النداء لكي أسمع الاجابة للقواعد الخلفية كي يعلموا حقيقة الامر، فاجاب نفس الشخص من افراد العدو. عندها طلب منا أن نقوم بأمر طائرة الأنتينوف التي قدمت من الكفره لغرض التموين وكان على متنها المقدم الدعيكي الذي قَدم لتفحص مواقع الدفاع الجوي ولكنه عندما علم بان آمر المنطقة المقدم فتح الله يمكن ان يكون قد قتل أصر على البقاء الى جانبنا في محنتنا وبالفعل طلبت من طائرة الأنتينوف الاقلاع.

وتم ذلك بالفعل ولكن باعجوبة حيث كانت القذائف تنهال علينا في المطار بشكل مكثف. وطلب منا أن نأمر طائرات السيمركيتي بالاقلاع ولكن كان ذلك بعد فوات الاوان، وفرّ الطيارون بطريق البر.

ثم اخذت قذائف الهاوون تنهال علينا وكذلك صواريخ أرض أرض، فاقترحت على زميلي بان نغادر غرفة برج المراقبة لكنه لم يستجب لي. فخرجت بنفسي والى تحت التبّة التي فوقها غرفة برج المراقبه فوجدت هناك بعض افراد الدفاع الجوي.

بقينا لبضعة دقائق محتمون من قذائف العدو وفجاة رأيت رتلا من قوات العدو تتقدم عبر الوادي فطلبت منهم التفرق لان الموقف حرج لعل بعضنا ينجو لكنهم بقوا جامدين في أمكنتهم وانطلقتُ أنا عبر الوادي وكان العدو يقوم باطلاق النار علي من رشاشات 14 ونصف دون أصابتي والحمد لله لكنني لا زلت اسمع صفيرالرصاص قرب ادني وحرارتها ايضا.

تعبت من الركض فقمت بالتستر تحت تبة رملية صغيرة حتى وقفت علي سيارة تيوتا كراوزر وقفز منها بعض الجنود التشاديين فوقفت وحاولت استعمال بندقيتي ولكن لم تخرج منها طلقة واحدة لانها كانت مليئة بالرمل ولم تنظف لمدة طويلة وهم ينظرون الي دون ان يقومو باطلاق طلقة واحدة علي.

فألقيت بندقيتي التي لا جدوى منها وأسروني وقال أحدهم لي بعد أن أخذ حفنة من التراب (تراب ده هنا مين) فقلت لهم تشاد.

فأخذوني وانطلقوا بي في سيارة تيوتا وفجأة صادفتهم بعض الدبابات الليبية فقفز من كان في الرتل من سياراتهم وتستروا وراء صخرة عالية وأخدوا يتقنصون الدبابات الليبية بصواريخ الار بي جي الواحده تلو الاخرى وكنت مقيدا في إحدى السيارات، وانتظر ان تقوم أحدى هذه الدبابت بتدمير السيارة التي كنت فيها والقى حتفي، ولكن لم يحدث ذلك.

استمرّ التشاديون في تدمير الدبابات الليبية حتى قضوا عليها جميعا، والتهمت النيران كل الجنود الذين كانو في تلك الدبابات وهم أحياء ولا تزال تلك الاحدات في مخيلتي.

ثم انطلقوا بي حتى أتوا الى قيادة العمليات داخل المدينه وانزلوني من السيارة، فوجدت نفسي امام العقيد حسن جاموس القائد العام للجيش التشادي، وبرفقته النقيب محمد عبد الرحمن الدقاش الدي تعرف على بمجرد أن رأني فأخذ يتكلم مع العقيد حسن جاموس بشأني بلغة القرعان، تم صافحني وهو يبتسم وطمأنني بأن المعاملة التي سألقاها ستكون مختلفة كليا عن المعاملة التي يعامل بها الليبيون الاسرى التشاديين.

النقيب محمد عبد الرحمن الدقاش كان آمر القوات الصديقة من التبو وكان يأتي الينا في المطار باستمرار ويعرف كل من في المطار حيث كان يلعب معنا الكارطه ويبقى حتى ساعات متأخره من الليل.

غير أنه تمرد عن القوات الليبية بسبب تدخل الليبيين الى جانب النقيب مسعود آمر القوات الصديقة من العرب المحاميد ضد قواته، وقد أرسل النقيب الدقاش برسالة الى القوات الليبية يطلب منهم عدم التدخل لان المشكلة بين التشاديين انفسهم، لكن القوات الليبية تدخلت في الحرب الى صالح النقيب مسعود وأجبروا النقيب الدقاش على الفرار والانضمام الى حسين حبري ضد القوات الليبية.

بعد تلك المقابلة البسيطة أخذوني بالسيارة معهم وقاموا بتطهير المنطقة كلها بحثا عن جنود ليبيين، فرأيت الجنود التشاديين يجمعون جثت جنودنا ويقومون بدفنها، ورأيت آخرين يجمعون المؤن أو أي شيء كغنائم.

وكان المظهر مؤلما. جثت متفحمة، وأطراف متناتره هنا وهناك، والجنود التشاديين يبكون ويتألمون من هول ما رأوه، وبعضهم يقرأ آيات قرانية.

استمر هذا الوضع لمدة ساعات حتى حلّ الليل وعادوا بي الى قيادة العمليات ورأيت 3 اسرى ليبيين أخدوهم معي في نفس السيارةه وانطلقوا بنا جنوبا بعد أن قدمو لنا بعض التمر والماء والحليب مما جلبه لهم السكان وكان هذا كل ما يملكونه، فأخبروني بان النقيب الدقاش أمرهم بان يعاملوننا معاملة حسنة.

وبعد أن أنهكهم التعب أي بعد 3 ساعات توقفوا في مكان ما عند حوالي منتصف الليل، وقامو بفك القيود، وقاموا بصيد الغزال، واتو لنا بالشواء فاكلنا وشربنا.

وكانت دهشتي كبيرة حيث انهم أصروا ان لا يأكلوا شيئا حتى نأكل نحن أولا، وكانو يحاولون تجاذب الحديث معنا، لكن وضعنا لم يكن يسمح بأن نحكي معهم، وهم يطمأنوننا باستمرار.

زاد في دهشتي أنهم لم يقوموا بالتحقيق الميداني وهو أصعب ما يكون لأنه يتظمن الضرب لأخذ اعترافات منا بالقوة نمنا هناك تلك الليلة حتى الصباح ثم انطلقوا بنا الى مدينة الكلاعيط بعد أداء صلاة الفجر.

يتبع

____________

المصدر: صفحات التواصل الاجتماعي

مقالات

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *