الدبلوماسي الداعية (قصة قصيرة)**
علي جبريل
كان رجوعي مساء الخميس –ليلة الجمعة – من العمل متأخرا في تلك الليلة من ليالي شتاء سنة 1993. وصلت الى البيت متعبا مرهقا، وزادني الطقس البارد الممطر وازدحام الطرقات في مدينة أتلاتنا الكبيرة ارهاقا وتعبا.
ما أن دخلت المنزل حتى استقبلتني زوجتي بمعلومة أن حليب طفلتنا الرضيعة “وصال” قد نفد ولا مفر من الذهاب لشراء علبة واحدة على الأقل قبل أن تقفل المحلات … اسقط في يدي.. أمري لله.. ركبت سيارتي متذمرا وذهبت الى اقرب متجر مفتوح.
اخذت عددا من علب حليب الأطفال ووقفت أمام موظفة المبيعات في انتظار الدفع. كان أمامي شابين أسمرين يثرثران ويضحكان مع الموظفة..من لهجتهما عرفت أنهما ليسا من الأمريكان السمر. ..خمنت انهما ربما من أحدى الدول الأفريقية . .استمرت الثرثرة والضحكات بين الموظفة والشابين ولم ينهيا عملية دفع مشترياتهما..بعد عدة دقائق قلت لهما وللموظفة أنه بامكانهما الاستمرار في الثرثرة حتى الصباح لكن دعوني أنهي عملية الشراء فلم يعد بمقدوري الأنتظار أكثر..استاءت الموظفة من طريقة كلامي واستاء الشابان لاستياءها ..قال لي أحدهما: عليك أن تتعلم الصبر. . أجبته بأني في هذه الليلة أنا تلميذ فاشل في مدرسة الصبر..قال: يبدو أنك انك “عربي” ..نعم… من أين؟ من مصر***… اه مصر .. ما رأيك في قتل السادات ؟
أنهى الشاب الأخر معاملته من الموظفة وجاء دوري فدفعت ثمن علب الحليب للموظفة فأخذت مني النقود بامتعاض .. حاولت أن اتجاهل سؤال الشاب الذي كرر سؤاله، واتجهت الى باب المحل.. سار الشابان معي الى خارج المحل.. لم تجب عن سؤالي ما رأيك في قتل السادات؟ أعاد صاحبنا سؤاله ..ساورني الشك أنه ربما كان مخمورا..والوقت متأخر .. ولاداعي لمشاجرة لا معنى لها ..فقلت له: السادات كان رئيسا لمصر، ومن قتله مصريون وهم أدرى برئيسهم مني … سألني مستغربا الست مصريا؟ .
قلت له: الحقيقة أن لست مصريا .أنا من ليبيا*** ..قال الشاب مندهشا ليبيا ؟؟ وقال زميله : اه اذا أنت رئيسك القذافي !.. لا ليس رئيسي ! رددت بلهجة حازمة.. رويدك قال صاحب السؤال..لا تغضب ..فنحن نعرف أن القذافي ليس جيدا … قلت له: هذا غريب فأنتم الأفارقة ترون في القذافي قائدا افريقيا بامتياز!..أجاب نحن لسنا أفارقة..من اين أنتم ؟ من غويانا !. من غويانا؟ نعم، ونحن هنا في زيارة لقريب لنا في أتلانتا.. أضاف الشاب الأخر :ونحن نعرف أن القذافي ليس جيدا …ارتحت للحديث معهما بعد ذلك..سألتهما وكيف عرفتم أن القذافي ليس جيدا ؟ .هنا قال لي صاحب السؤال: لأنه قتل رجلا من رجال الله (He murdered a man of God).. لم افهم ؟ ..
بدأ صاحب السؤال في البكاء … يا والله ليلة …ممكن يكون سكران وخش في دور بكاء .. والوقت متأخر والمطر يهطل بغزارة ولم أرجع الى البيت…. هون عليك يا صاحبي قلت له مواسيا بينما بدأ الشاب الأخر يربت على كتفه .. قال لي وهو يمسح دموعه: أسمع سأقول لك شيئا..أنا اسمي كذا …من غويانا ..ولدت مسيحا ونشأت مسيحيا .. الى أن جاء يوم اصطحبني ابن عمي الذي كان قد دخل الاسلام من فترة للقاء سفير ليبيا في بلادنا …التقينا به، كان ودودا للغاية ..لكن نسيت أسمه ..قلت : لعلك تقصد السفير الليبي أحمد احواس..اه أظنه هو..وهومن قتله القذافي لاحقا اليس كذلك؟.. نعم هو نفسه رحمه الله……. حدثني السفير عن الاسلام…وأسلمت ذلك اليوم … لكن ..لا أعلم ….بعد فترة رجعت للمسيحية ..قلت : هون عليك، لا بأس، المهم أن يظل قلبك معلقا بربك وخالقك …هنا بدأ يكبر ويقول بلهجته المميزة الله أكبر الله أكبر ..ثم قال أخي : اسمع مني..أشهد أن لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله..وكرر التكبير..
انحبست الكلمات في حلقي..فلم اعرف ما كان يجب علي قوله..سوى أني ربت على كتفه ومسحت على رأسه .ثم قلت له ..الحمد لله الحمد لله..أخي ..هذ ساعة بركة..ما رأيك أن نلتقي غدا في صلاة الجمعة في مسجدنا.. وهو قريب من هنا؟..قال . نعم ..ذلك سيكون جيدا ..أعطيت عنوان المسجد لصاحبه ودللته عليه… وسلمت عليهما …وذهبت تحت المطر الى سيارتي ..وقفلت عائدا الى البيت .
قلت في نفسي : رحمك الله يا حاج أحمد ..لقد دعوت هذا الانسان الى الاسلام مرتين ..مرة وأنت حي في هذه الدار.. ومرة وانت حي – ان شاء الله – في تلك الدار.
====================
** هذه القصة حقيقية ولم أذكرها من قبل الا الى عدد محدود من الأخوة
*** في تلك الفترة، بعد محاولة ضباط ورفله للاطاحة بالقذافي (اكتوبر 1993) وهروب بعض من شاركوا في العملية الى خارج ليبيا، وصلت معلومات بأن القذافي قد يجند بعض الأفارقة في الولايات المتحدة وأوربا للقيام بعمليات تصفية لشخصيات معارضة في الخارج، فكنا نتحوط في الحديث مع أي افريقي نقابله فلا نبادر بالكشف عن جنسيتنا الليبية أمامه
________________
المصدر: صفحة الكاتب على الفيسبوك