بقلم إبي هيثم

ما كان أحد يصدق ما جرى .. حتى أن الفدائي مجدي، الذي حقق تلك المعجزة الصغيرة توهم أنه في حلم أو كابوس أو أكذوبة يصنعها الخيال .. علما بأنه ليس من النوع الذي يحلم يتوهم أو النوع الذي تغلبه الظنون، كما أنه ليس خياليا وليس من عشاق الكتب الصفراء التي تنقل عوج بن عناق والزناتي خليفة.

لهذا كان غريبا وغامضا بل وعجيبا ما جرى للفدائي مجدي في أزقة المدينة القديمة .. كان مجدي داخل أعشاش مزحومة بالرصاص، داخل بناء من القنابل والصورايخ والشظايا، وكان قد وجد نفسه فجأة داخل شرك يشبه المقصلة، في فخ يشبه المشنقة والمسلخة الرهيبة.

مجدي ذلك الشاب الفطن .. الوسيم، الذي تعلم الحب في شارع عمر المختار، ودرس الهدوء من شواطئ البحر الأبيض، وتعلم في أزقة أبي الخير الرجولة والصبر ونكران الذات والكرم .. كرم الروح والفداء.

هو الآن في منطقة آمنة .. لا يمكن أن يفكر في تمشيطها أحد، في أرض العدو الذي اغتصب أرضه منذ قرابة ستة آلاف ليلة .. ومئات الآلاف من الساعات، فقد تمكن من قتل ستة من رؤوس (اللجان الثورية) في أبي سليم وهو الذي رفض يوما قتل دجاجة عمرها شهر واحد فقط، وبعد أن أنسحب كبّر وهلّل بصوت فرح عميق، وراح يزحف الشعاب والزوايا والممرات الأخرى، وداخل البيوت والشوارع والدكاكين بسيارته (الهوندا) .. يبحث عن عدو أو مغتصب آخر .. في أكبر شوارع المدينة ..

لكنه بعد وقت لا يعرف كم طال عليه .. حاول البحث عن ملجأ مضمون .. فلم يجد سوى حضن أمّه .. وبين الأزقة الضيقة النديّة التي قضي بها أجمل أيام صباه .. وتأكد مجدي منذ اليوم الأول أن رفاقه قد انتقلوا جميعا إلى قائمة الشهداء .. فصمّم أن ينتقم لهم جميعا، الآن وقبل أن تخمد النار التي اشتعلت في أعماق أعماقه .. ما كان يدري أي سلاح يختار بين العشرات من القنابل والرشاشات والمدافع الصغيرة التي تناثرت في أحدى مغارات الجبل الجنوبية .. ليس لديه وقت للإختيار لأنه يريد الإنتقام بسرعة وبشدة، ومهما كان الثمن .. إنه يريد الإنتقام ولكن ليس من شئ اسمه الرعب أو الهلاك أو الخوف..

إنه يحارب من أجل هويته .. ومبادئه، ومن أجل حقوق حبيبته .. ومن أجل إنقاذ البيت والجامع والنادي ، والمكتبة العامة، ومن أجل التي أحبها كما يحب الأرض والبحر والسماء.

إنه يعرف حدود الخارطة التي هو في وسطها .. هو في أرض الأجداد .. وإذا تمكّن من فعل شيء .. أي شيء .. مهما كان صغيرا، فقد حقق بعض حلمه في النصر .. وبعض حلمه في تقديم أجمل الهدايا لمحبوبته التي تنتظره من وراء الشباك .. في الدور الثاني ..

تسلل مجدي بهدوء وصبر .. في سيارته (الهوندا) كمن يخرج في نزهة .. حين رأى العديد من الأخشاب تتحرك في ذعر تجاه المثابة الثوريةوبعد الغروب وعلى ضوء القمر الساطع، الذي ساهم في الكشف عن رؤوس بشرية وأسلحة خفيفة .. رؤوس حان وقت قطافها .. وفي ذلك المكان المزحوم بالأعداء في أبي سليم الذي لم يسلم بما في بال مجدي ..

في ذلك المكان قرر أن يعلّمنا كيف تصنع أحرف التاريخ الذهبية ..

في أقل من ثانية واحدة فكر مجدي في لعبة صعبة يلعبها مع العدو .. حتى وإن خسر حياته ثمنا لها فهو الذي سيفوز حتماً .. واستمر مجدي في أخطر لعبة يمارسها بشري في الوجود .. وتساقطت عشرات البيادق الخشبية .. وهو يمسك العديد من الأسلحة بكلتا يديه .. شامخا في إباء وكبرياء .. وعزلة شعورية ليس لها حدود.

من شبر إلى شبر، من جوع إلى عطش، ومن نصر إلى نصر، كان مجدي يتنزه، مصرا على أن يحضر كل الوطن المشهد الأخير من الملحمة، وراح منتصبا في ثبات .. لا يدري إن كانت ساقاه جزءً من جسمه أم هما بعض من الأرض الخصبة .. فهما لم تتعبا على الإطلاق .. لم تتعبا حتى وصل إلى أحضان أمه وأرضه وحبّه ..

وقال مجدي كلماته الأخيرة والتي طالما ما تغنينا بها معه .. وقالها أمام الله وفي سبيل الله .. وقالها أمام الوطن ومن أجل الوطن .. وانطلقت رصاصة ذهبية من بندقية قنّاص أعور معلنة ابتداء رحلة الخلود.

وسمع صوت المؤذن في جامع ميزران .. وفي غير وقت الصلاة، معلنا حي على الجهاد .. حي على الجهاد .. حي على الفلاح ..

____________

المصدر: مجلة الإنقاذ ـ أغسطس 1985

مقالات

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *