عبدالمجيد الصغير
بالرغم من كل المعوقات التي وضعت في طريق إعادة بناء الدولة الليبية بعد ثورة الشباب في فبراير 2011، إلا أن وجود تيار وطني أصبح أمرا ضرورة قصوى، وأن أي جهد يبذل في هذا الاتجاه سيدفع إيجابيا نحو الحلول الناضجة للأزمة الليبية، وبالتالي إلى الخيار الديمقراطي على المدى المتوسط والبعيد.
هذا التيار الوطني الذي أفرزته الأزمة السياسية الليبية قادر على أن يحول المعركة إلى منافسة سياسية تتعدل فيها موازين القوى بين الأطراف المتصارعة، وربما في نفس الوقت وبعد خمسة عقود مؤلمة، أربعة منها كانت تحت الاستبداد والقهر والاستعباد، وخامسها سادت فيه الفوضى والحروب والفساد، قد يتمكن التيار الوطني من تجاوز آلام معاناة التجارب السياسية والإدارية المأساوية والمؤلمة.
لا شك أن مطلب الخروج من المأزق والتغيير السلمي للأوضاع الكارثية عبر آليات إعادة بناء الدولة المدنية هو من المتفق عليه بين الغالبية الساحقة من الليبيين، ولكن يظل السؤال المحوري هو” كيف يمكن للتيار الوطني تحقيق ذلك؟
ليس هناك إلا مسار واحد، وهو الضغط المتواصل والمتصاعد، للدفع بعمليات إعادة البناء للدولة بالسرعة المطلوبة وبشمولية مرجوة، بحيث تشمل كل المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية والدستورية والاجتماعية والتنموية والثقافية.
إذا أراد التيار الوطني المدني تحقيق المعجزة، فإنه مطالب بـ:
ـ تبنى مبادئ الصراع السلمي والتعامل بموضوعية مع أعداء الأمس.
ـ تبني علاقات تعايش وتنافس صادق على مستوى الجماعات الوطنية ومؤسسات الدولة المنسجمة مع مسار التحول الديمقراطي وإعادة بناء الدولة.
ـ الدفع بالمجتمع المدني والجماعات الأهلية لإقامة مؤسسات اجتماعية وسياسية وثقافية فاعلة، لرسم جو عام من إمكانية التأثير في القرار السياسي، ومن خلال المشاركة السياسية الفعالة والمفيدة.
ـ تبني رؤية شاملة وتصور واضح، من خلال تقصي الحقائق الماثلة عن كل ما حدث في الماضي، أخذا في الاعتبار الشهادات والقراءات ووجهات النظر المتباينة الصادرة عن مختلف أطراف الصراع.
هذا من الناحية المثالية المفرطة في التفاؤل، أما من الناحية الواقعية، فإن ِإعادة بناء الدولة يكون كالتالي:
ـ إعادة بناء الدولة، ليس بالأمر السهل تحقيقه في ضوء مسيرة القمع والاستبداد والفوضى والعنف.
ـ إعادة بناء الدولة، ليس عملا معزولا أو حدثا طارئا، وإنما عملية متواصلة ومستمرة ومضنية، تتطلب التزاما واستعدادا مشتركا ودائم من أجل التصدي للعنف والقمع والقهر ومحاربة المحاصصة وإقصاء الآخر.
ـ إعادة بناء الدولة، لا يتحقق بالبيانات والقرارات واللجان والدراسات، مهما حسنت النوايا، بل يحتاج إلى جهد دستوري وقانوني، وتبذل فكري ونفسي، ووقت طويل وتضحية كبيرة من كل الأطراف.
ـ إعادة بناء الدولة، هي مغامرة رابحة بالنسبة للتيار الوطني المدني، ولكن قد يصعب التحكم في نتائجه، إذا استمرت الدولة العميقة في وضع العصي في الدواليب، لأن المسألة تتطلب تغيرا في الأساليب وطرق التعامل مع الأزمات، من جميع الأطراف، وفي كل مرحلة من مراحل التحول الديمقراطي وبناء الدولة.
ـ إعادة بناء الدولة، هي عملية تراكمية، كل خطوة فيها محسوبة، وكل جهد يبذل له قيمة، وأي تقدم نحو الهدف، مهما كان صغيرا، هو تقدم إيجابي وله أثر.
ـ إعادة بناء الدولة، هي عملية معقدة، تحتاج إلى كثير من الحيطة، فحركة المسار ليست خطا مستقيما وفي اتجاه واحد، إما إلى الأمام أو إلى الخلف، وإما إلى الأعلى أو إلى الأسفل، بل أن المراحل متداخلة ولا تتابع بشكل مبسط بل تتشابك وتتبدل من وقت إلى آخر.
ـ إعادة بناء الدولة، هي عملية غير مضمونة بالكامل، فالعودة إلى أساليب العنف والفوضى والإقصاء أمر متوقع في أي لحظة، ما لم تصل الأطراف كلها إلى نفس القناعات التي قد تتطلب وقتا طويلا.
ما ليس إعادة بناء الدولة
ـ إعادة بناء الدولة، لا يعني مجرد الإعلان عن بعض الإجراءات الشكلية لتجاوز مرحلة ساسية انتقالية معينة، أو وضع متأزم ما، أو مأزق سياسي لبعض الوقت، بعدها يتم النكوص عن أية عهود واتفاقات وتفاهمات وتوافقات.
ـ إعادة بناء الدولة، لا يعني النسيان الكامل للماضي وما حدث فيه من انتهاكات وتجاوزات ومعاناة آثارها السلبية لا تزال فاعلة في حياة الذين تضرروا من مرحلة الاستبداد والظلم.
ـ إعادة بناء الدولة، لا يعني قفل الملفات بشكل عشوائي، دون كشف الحقائق، ورد الحقوق إلى أهلها، ودون تحديد المسؤولين عن الجرائم التي ارتكبت في حق الوطن والمواطن.
ـ إعادة بناء الدولة، لا يعني التعايش بين الاطراف المتضادة بين ليلة وضحاها، وكأنه وجبة معلبة سريعة تُأكل وتُهضم في آن واحد.
ـ إعادة بناء الدولة، لا يعني حصر الحوار بين أفراد يختارهم طرف من الأطراف، فالقضايا أكبر من أن يحيط بها أي طرف لوحده، بل لابد أن تطرح بحقائقها وتفسيراتها وتوقعاتها للنقاش والحوار الموضوعي بين الجميع، ودون أية مبالغات وإيحاءات غير دقيقة.
في الختام، ليس هناك تجربة، للتحول الديمقراطي وإعادة بناء الدولة، صالحة لكل زمان ومكان، فما نجح في بلد ما قد يخفق بالكامل في ليبيا، ولذلك لابد من إجراء عملية “فحص الواقع” لوضع تصور واضح لاستراتيجية مشروع وطني لإعادة بناء الدولة الليبية الديمقراطية.
______________