سالم الكبتي
يبدو في واقع الأمر أن التنازع في الاختصاصات داخل كل ولاية بين الوالي والمجلس التشريعي والمجلس التنفيذي، وعلى ضوء القوانين الأساسية التي صدرت، ظل يلاحظ في السنوات الأولى من إعلان الاستقلال كما يظل يلاحظ أيضا في بدء التنازع نفسه بين الحكومة الاتحادية والولايات .
عولجت المسألة في فزان بتعديل القانون الأساسي بمرسوم ملكي صدر في بنغازي في اليوم الثاني والعشرين من إبريل 1953 ونتج عن ذلك إلغاء المادة 49 التي أثارت حفيظة بعض نواب المجلس التشريعي عن منطقة الشاطيء واستبدلت بالنص الأتي : (يعين الملك بالتشاور مع الوالي أعضاء المجلس التنفيذي كما يخصص لكل منهم نظارة أو نظارات يكون مسؤولا عنها أمام المجلس وخاضعا في إدارتها لإشراف المجلس وتوجيهه وللملك أن يقبل استقالة أي عضو من أعضاء المجلس التنفيذي أو أن يقيله وله كذلك أن يعين نظارا بلا نظارات) كما ألغيت المادة ثمانين من القانون ذاته واستبدلت بما يلي ..(تجرى الانتخابات للمجلس التشريعي الأول في ميعاد لا يزيد عن خمسة أشهر من يوم العمل بقانون الانتخاب. يجتمع المجلس التشريعي في بحر ثلاثين يوما من إعلان نتيجة الانتخاب)
ولعل هذه الأزمة الطارئة التي شهدتها ولاية فزان كانت مدخلا للمزيد من التعديلات على قانونها الأساسي. لقد تم ذلك في السابع والعشرين من يونيو 1954 ثم عدل في الثامن عشر من يوليو 1955 ثم في العاشر من مارس 1958 وصولا إلى إلغائه في العاشر من يناير 1963 حيث أصبحت الولايات تدار بالمجالس الإدارية بدلا من التنفيذية عقب الشروع في التعديلات الدستورية في ديسمبر 1962 تمهيدا لإلغاء النظام الفيدرالي وإعلان الوحدة الإدارية الاندماجية في البلاد.
وفي غضون تلك الفترة لوحظ أحيانا ظهور عدم الانسجام بين المجلسين التشريعي والتنفيذي بولاية فزان أيضا الأمر الذي استدعى صدور مرسوم ملكي في الرابع عشر من يونيو 1956 بحل المجلس التشريعي الموجود آنذاك على أن تجرى انتخابات جديدة في خلال تسعين يوما.
وهذه التجربة البرلمانية المحلية داخل الولاية دارت فيها جولات عاصفة من محاولات التوفيق وترميم الصدوع الدستورية في الولاية ويلاحظ أن بقايا (الإدارة الفرنسية) التي ظل جزء من رجالها وأعوانها يعملون في إدارات الولاية للحاجة الماسة إليهم والافتقار الشديد إلى العناصر المحلية تلك الأيام كانوا يتحركون وراء الستار ومرات بوضوح وعملت على شق الصفوف بدفع الأموال والرشى لبعض العناصر المحلية التي ارتضت بهذه الوسيلة في التعامل. لكن القوى الوطنية في الولاية بمزيد من الحرص والمسؤولية واجهت هذه الأمور وتغلبت عليها وعولجت كل المسائل بالتراضي وتحقيق العديد من تكافؤ الفرص.
وفي ولاية طرابلس عند شاطيء البحر والبعيدة عن هموم فزان نشبت هناك أزمة دستورية ظلت تكبر وتتدحرج مثل كرة الثلج الضخمة. فقد نشأ خلاف أيضا بين المجلسين التشريعي والتنفيذي لولاية طرابلس في سبتمبر 1953. وكان سبب الخلاف في الأصل حول مشروع القانون الأساسي الخاص بالولاية. كان قد أحاله المجلس التنفيذي على المجلس التشريعي لمناقشته وإدخال مايراه من تعديلات.
كان السيد على الديب رئيسا للمجلس التشريعي ويذكر في كتابه عن تلك الأزمة (مؤامرة بن حليم على الديمقراطية في ليبيا 1954) بأن الخلاف كان يتعلق بالفصل الخاص بالسلطة التنفيذية لاسيما المادة 54 التي تحدد مركز الوالي الذي يمثل الملك في الولاية وعلى هذا حدث انقسام في الرأي فالبعض رأى تجريد الوالي من سلطاته التنفيذية وتوزيع مسؤولياتها على النظار أعضاء المجلس التنفيذي ويبقى الوالي مجرد رمز يمثل الملك في الولاية وهو رأي مثلته أقلية من الأعضاء على وجه العموم.
أكثرية الأعضاء في هذا الحال كانت ترى وجوب أن يبقى الوالي محتفظا بسلطاته ويكون مسؤولا أمام المجلس التشريعي.
اتسعت شروخ الأزمة بين الوالي السيد الصديق المنتصر والسيد الديب رئيس المجلس التشريعي. ومع اتساع الهوة العميقة بين الوالي والمجلس رفع الوالي المسألة إلى الملك الذي أصدر أمرا بحل المجلس التشريعي في التاسغ عشر من يناير 1954. وظهرت هنا أزمة أخرى فقد وقع الملك الأمر وحده ولم يوقع عليه أحد بجانب توقيعه وهو رئيس مجلس الوزراء.
واكتنف هذا الصراع الدستوري عدة ملابسات وظروف قانونية ودستورية حين لجأ رئيس المجلس التشريعي إلى المحكمة العليا الاتحادية التي كانت حديثة النشاة وافتتحها الملك في يناير 1954 فأصدرت حكمها في إبريل 1954 ببطلان الأمر الملكي القاضي بحل المجلس.
وإضافة إلى هذه المواقف ظهر أيضا موقف السيد محمد الساقزلي رئيس الحكومة وتمثل في تأييده لحكم المحكمة فأقيل من الرئاسة ولم تكمل حكومته مدة ثلاثة أشهر وكلف بدلا منه السيد مصطفى بن حليم الذي واصل النظر في الموضوع واقترح أن يتم تعديل المادة ثلاثين من قانون المحكمة العليا بحيث يتماشى وأمر الملك ثم عززت المحكمة قرارها السابق برفض الطعن فيه مؤكدة صحته وترتب عن ذلك عودة المستشار المصري الأستاذ علي علي منصور إلى بلاده (أعيد إلى منصبه في ليبيا بعد سبتمبر 1969).
استمر الجدل القانوني والدستوري حول المشكل طويلا بين حكومة ولاية طرابلس والحكومة الاتحادية والديوان الملكي وتم الاستعانة بآراء وتوجيهات بعض فقهاء القانون الدستوري ومنهم الأستاذ في جامة لايدن بهولندا ريبردا فيير دسما. ووسط هذه الظروف العاصفة بالتجربة البرلمانية أرسلت برقيات عديدة إلى الملك من مختلف الأفراد والهيئات في المملكة تؤيد الملك وتعتبره مصونا وفقا للدستور ودعت إلى سقوط العدالة والمحكمة العليا!
وما حدث لاحقا هو إصرار الملك على موقفه فقد أصدر مرسوما آخر بتاريخ الثالث من نوفمبر 1954 يؤكد حل المجلس بتاريخ رجعي هو اليوم التاسع عشر من يناير 1954.. وأصبح ماقرره حقيقة راهنة لكن هذا المرسوم حدث حوله أيضا لغط دستوري وقانوني إذ تم توقيعه إلى جانب الملك من رئيس مجلس الوزراء بالنيابة وهو د.علي نورالدين العنيزي وقد أضيفت هذه العبارة باليد مع كتابة تاريخ صدور المرسوم أيضا. وفي الواقع توالى الجدل والخلاف الدستوري لكنه لم ينته إلى أية نتيجة تذكر سوى حل المجلس السابق واستمرار المجلس التشريعي الجديد المنتخب بدلا عنه في مهامه بعد معركة دستورية دامت عاما كاملا.
هذا العام 1954 شهد أزمات أخرى في الدولة ألقت بظلالها على مسارها بطريقة مباشرة فقد اغتيل في الخامس من أكتوبر ناظر الخاصة الملكية من قبل أحد أفراد الأسرة السنوسية.
ثم قام الملك بإعفاء أو إقالة عمر باشا الكيخيا من عضوية مجلس الشيوخ ورئاسة المجلس في الخامس عشر من إكتوبر. وحدث أثر ذلك نقاش دستوري طويل في عدم صواب مرسوم الملك الذي ربما التبست عليه أيامها مجريات الأمور المتلاحقة نتيجة لصدمة واقعة الاغتيال العنيفة لناظر خاصته وهو الشخصية المقربة منه والذي تميز بالإخلاص له في كل الظروف. وقد أشرت بتوسع مع المزيد من الوثائق المحلية المهمة في هذا الشأن إلى ذلك كله في كتابي (إدريس السنوسي الأمير والملك). الصادر عام 2013
وفي كل الأحوال تعتبر المجالس التشريعية في الولايات تجربة استفاد منها المواطن والمسؤول وأسهمت في علاج الكثير من المشاكل ووضع الحلول وشهدت الدورات التشريعية العديد من الأعضاء من كافة المناطق في الولايات الذين راعوا وطنهم وضميرهم بكل مسؤولية وأمانة. استمرت هذه التجربة وتوقفت بإلغاء النظام الفيدرالي ووفقا للدستور في مادتيه 198 و199 أجاز تنقيح الدستور بموافقة مجلس الأمة والمجالس التشريعية في كل ولاية وهذا ماحدث تماما في إبريل 1963 .
فكيف كان بقية مسار دورات مجلس الأمة (الشيوخ والنواب) وتجربتها؟
وفي كل الأحوال تعتبر المجالس التشريعية في الولايات تجربة إستفاد منها المواطن والمسؤول وأسهمت في علاج الكثير من المشاكل ووضع الحلول وشهدت الدورات التشريعية العديد من الأعضاء من كافة المناطق في الولايات الذين راعوا وطنهم وضميرهم بكل مسؤولية وأمانة .
إستمرت هذه التجربة وتوقفت بألغاء النظام الفيدرالي ووفقا للدستور في مادتيه 198 و199 أجاز تنقيح الدستور بموافقة مجلس الأمة والمجالس التشريعية في كل ولاية وهذا ماحدث تماما في إبريل 1963.
فكيف كان بقية مسار دورات مجلس الأمة (الشيوخ والنواب) وتجربتها؟
_______________