بقلم محمود محمد الناكوع

الشجاعة والصدق والوضوح والوطنية، هي من أبرز خصائص شخصية المرحوم على عبدالله وريّث، وإلى جانب تلك الخصائص يتمتع بدماثة أخلاقية، وبروح مرحة، وإقبال نفسي جذاب، وابتسامة محببة، تجعله محبوبا من كل من عرفه من قريب أو من بعيد.

إضافة لتلك الفضائل فهو من أصحاب الوسامة والأناقة، وبذلك تكاملت في شخصيته مقومات الجاذبية “الكارزمية” وجعلته مرموقا في عيون وقلوب الناس، وخاصة في مدينة طرابلس.

كان عندما يمشي في شوارع طرابلس لا تكاد تتوقف يده عن التلويح ردا على تحيات من يحيونه تعبيرا عن احترامهم له، ولا يكاد لسانه يتوقف عن رد السلام، فقد كانت شعبيته واسعة بين شتى فئات المجتمع.

عرفته في لقاءات كثيرة جمعتنا في منتديات عامة، ومن أهمها جمعية الفكر بطرابلس، كما جمعتنا لقاءات خاصة في منازل بعض الأصدقاء، وآخرى في مكتب مشترك بينه وبين صهره إبراهيم الغويل المحامي، وهو المكتب الواقع في شارع 24 ديسمبر حسب تسميته في العهد الملكي.

كان علي وريّث كثير النشاط، ونشاطه ثقافي اجتماعي سياسي، وفي سنوات الستينيات، وفي أواخر العهد الملكي، كانت الحياة الثقافية في أفضل حالاتها، وتمثل ذلك في المحاضرات، وتنوع الصحافة، وفي النشاط السياسي من خلال مجلس النواب، والنقابات، وما جسدته حيوية الطلاب في المعاهد المتوسطة وفي الجامعة، وفي داخل المعسكرات والثكنات والمكاتب العسكرية التابعة للجيش الليبي، الذي تعددت داخله الاتجاهات والتنظيمات المسيسة والمتطلعة إلى التغيير.

علي وريّث كان من أكثر المثقفين حيوية ونشاطا، يحاضر في طرابلس، وخاصة في جمعية الفكر، ويحاضر في مصراتة، وغريان، ومدن أخرى.

وفي 1963، وفي عهد حكومة محي الدين فكيني أصدر صحيفة “البلاغ” واستمرت لمدة قصيرة جدا، وكانت تمثل الصوت المعارض القوي، وفيها يجد القارئ مادة نقدية للسياسة الحكومية، وكانت تنفد من مراكز البيع خلال الساعات الأولى من توزيعها.

وكنت على صلة بالصحيفة وكثير من كتابها، وشاركت بكتابة ونشر بعض المقالات على صفحاتها.

في تلك المرحلة كنت في بداية نشاطي الصحفي، وفي إحدى الأمسيات مررت على المطبعة الحكومية، ووجدت علي وريّث يتابع عملية طباعة الصحيفة لعددها الذي يصدر اليوم التالي، وبادرني قائلا: مقالتك يا أخ محمود كانت ممتازة، وستنشر في الصفحة الأخيرة لعدد الغد، والصفحة الأخيرة من الصفحات المهمة في الجريدة، وكانت فيما أظن مقالة فكرية. وجل مقالاتي في تلك المرحلة كانت تعالج موضوعات فكرية، أو ثقافية، أو اجتماعية تربوية.

وكان من كبار كتاب “البلاغ”: الدكتور أحمد صدقي الدجاني، والاستاذ عبداللطيف الشويرف، وإبراهيم الغويل، وآخرين. وأظن أن أعداد البلاغ التي نشرت في تلك المرحلة، كانت سبعة أعداد فقط، ثم مُنعت من الصدور بسبب شدة مادتها النقدية للحكومة ومشروعاتها التي لا تلبي ما يريده الشعب.

في عام 1964 قرر علي وريّث الترشح لعضوية مجلس النواب، وكانت شعبيته تؤهله للفوز بمقعد في البرلمان ولكن كانت هناك توجيهات من أعلى السلطات من الملك او من رئيس الحكومة بعدم السماح للاشخاص المعارضين لسياسات الحكومة وللمعاهدات الاجنبية بالمشاركة في الانتخابات البرلمانية، وشمل المنع علي وريّث، واعتقل خلال أيام الترشيح حتى لا يتمكن من تسجيل اسمه مرشحا في دائرة حي “بالخير” بوسط مدينة طرابلس ـ حسب ما أذكرـ وذلك في عهد حكومة محمود المنتصر الثانية، إلا أن المنتصر كان غائبا بسبب السفر إلى لندن لغرض العلاج .. وكل تلك التصرفات من جانب الحكومة قد زادت من شعبية علي وريّث.

ولد علي وريّث بطرابلس عام 1934، ودرس المراحل الأولى من تعليمه في طرابلس، ثم أكمل دراسته الجامعية في القاهرة، ونال درجة الليسانس في علم الاجتماع منها عام 1959، ثم عاد إلى أرض الوطن، وعمل بوزارة العمل والشؤون الاجتماعية.

كان علي وريّث في محاضراته العامة يعمل على توظيف كسبه العلمي في مجال الدراسات الإجتماعية، لتطوير ثقافة المجتمع بما يحقق له رغباته وتطلعاته المشروعة في حياة أفضل.

وفي نظرته إلى المجتمع وتطوره السياسي يقول عام 1962: “إن اي تطور سياسي لأي مجتمع أو أي قطاع منه، يعتمد بالدرجة الأولى على وجود أسس فكرية تنبع من العقائد الأساسية ذات الإتجاهات الواقعية الموضوعية، بمعنى أن تكون هذه العقائد ملبية لمطالب الفرد الروحية والفكرية، ومطالبه التي تتصل بحياته اليومية”.

وقال أيضا في حديثه مع الصحفي الطاهر النعاس في الجزء الأول من كتابه “مع الناس”: “إن شعور الفرد بضرورة تحسين وضعه أمر ضروري لحدوث الحركة الإجتماعية، وأن هذه الحركة أذا لم تقم على أساس من الاعداد الراسخ بقيمة الفرد المستمدة من تقديسه لحريته وإحترامه لحرية الآخرين، سوف لن تنتج إلا إنقاصا يؤدي إلى تفتيت المجتمع وتشتيته”.

عندما تعرفت على علي وريّث في بداية الستينيات، كان يعمل هو وإبراهيم الغويل المحامي في مكتب واحد، ويظهر من مكتبهم ونشاطهم أن وضعهم المالي كان جيدا، كما أن وضعهم الاجتماعي والسياسي جعلهم من طبقة النخب اللامعة في تلك المرحلة من تاريخ البلاد.

وفي الأجواء الصحية إعلاميا وثقافيا في تلك السنوات، برز ذلك الثلاثي المثقف “أحمد صدقي الدجاني، وعلي وريث، وإبراهيم الغويل” فكانوا دائما لا يكاد أحدهم يفارق الآخرين، هم في سيارة واحدة، في إتجاه واحد، ويشاركون في الندوات والمحاضرات.

أما خطابهم السياسي فهو خطاب عروبي إسلامي ناصري وثقافتهم الإسلامية واضحة، كما سلوكهم العام، وكانت الحوارات تجري بيننا حول المفاهيم والسياسات التي يتبناها التيار القومي الناصري. وكنا على خلاف سياسي معهم، لكن العلاقات مع ذلك الثلاثي ظلت جيدة، وفيها الكثير من المودة والاحترام.

تميز علي وريّث في محاضراته، وفي مقالاته الصحفية بخطاب وطني يتسم بالحماسة والحدة أحيانا، ولكنه يتسم في الوقت ذاته بالوعي المؤسس على قواعد علم الاجتماع التي درسها بالجامعة، والمؤسس أيضا على ثقافتة العامة.

كان علي وريّث انموذجا للسياسي الشجاع في عقد الستينيات من القرن الماضي، وأصبح شخصية لامعة وذات شعبية واسعة وخاصة في مدينة طرابلس حيث ولد ونشأ ومارس النشاط العام في دوائره الثقافية والاجتماعية والسياسية.

وعندما وقع التغيير، وانتهى النظام الملكي كان علي وريّث من المرحبين بالتغيير، أو بالإنقلاب، أو بالثورة، وقد تعددت الاسماء والحال واحد.

وشارك على وريّث في ندوة الفكر الثوري، وظل جريئا في طرحه ومواقفه، وحاول قادة حركة الضباط الأحرارأن يحتووا كل الشخصيات والنخب الليبية المثقفة والمسيّسة ولو إلى حين .. كما حاولوا أن يكتشفوا التيارات الفكرية ورموزها للتعامل معها حسب رؤية تصنيفية لتلك التيارات والشخصيات المتبنية لها.

وشاء قدر الله ألا تطول علاقته وتجربته مع الحكام الجدد، فقد توفى في 14 أغسطس 1970 في حادث وهو يقود سيارته عائدا من مصراتة إلى طربلس، وكان معه إبراهيم الغويل الذي أصيب بكسر في يده، وتم علاجه فيما بعد.

اهتزت مدينة طرابلس لموته، وهو في السادسة والثلاثين من عمره، وهي سن النضج والقدرة على العطاء. ولعل الله قد أراد به خيرا فجعله من الناجين من المحرقة، التي التهمت الكثير من النخب المميزة في البلاد، وكادت نيرانها أن تحرق البعض من أقرب الناس اليه.

وفي أحدى أحاديثي مع عبدالسلام البكوش عندما كنا في الزنزانات (السجن الانفرادي) عام 1977، تناولنا مسألة الاعتقالات، ومواقف بعض الشخصيات الوطنية، وذكرنا فيما ذكرنا علي وريّث، فشهد عبد الحميد البكوش لعلي وريّث بالصدق والشجاعة، وقال: “لو كان على وريّبث حيا لكان معكم في السجن”، أي أن الاعتقال سيشمله باعتباره من الشخصيات غير القابلة للإحتواء والتبعية.

والجدير بالذكر أن علي وريّث كان من أشد النخب نقدا لسياسات عبدالحميد البكوش عندما كان رئيسا للحكومة.

للّه درّك يا علي وريّث، عشت وأنت تملأ الأبصار والأسماع، ورحلت محبوبا، وتركت صيتا حسنا.

رحمة الله عليه وأحسن مثواه.

_____________

المصدر: كتاب “أسماء في النفس وفي الذاكرة” لمؤلفه الاستاذ محمود محمد الناكوع، دار الحكمة ـ لندن (الطبعة الأولى 2011)

مقالات

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *