بقلم محمود الناكوع

هو المثقف السياسي الشجاع، وقج تميز بمواقفه الشجاعة وبقيادة تنظيم معارض، وانفرد بذلك دون غيره من السياسيين القدامي، الذين عملوا في العهد الملكي، وإن كان لبعضهم مواقف جيدة.

ولد البكوش في مدينة طرابلس عام 1933، والده كان قاضيا، درس المرحلة الاولى من التعليم في طرابلس ثم سافر إلى القاهرة وأكمل دراسته الجامعية هناك ونال شاهدة ليسانس الحقوق.

أثناء دراسته في القاهرة عرف عنه أنه من الشباب الذين تأثروا بالفكر الماركسي، لكنه عندما عاد إلى البلاد ومارس الحياة العملية وخاصة عندما تولى مناصب وزارية، ثم رئيسا للوزراء عكست خطبه وسياساته أفكارا ليبرالية.

وأثناء لقائنا في القاهرة، وفي أبو ظبي، كان يشير إلى القيم والتصورات الإيمانية، وأن نظام هذا الكون يدل على وجود خالق له.

وتلك سنن الحياة، فمرحلة الشباب وثقافتها عادة تجبها خبرة وتجارب الممارسة العملية ودروسها أبلغ من كثير من النظريات والشعارات.

استغل في طرابلس بعد عودته إليها في القضاء، ثم في المحاماة، وبعد ذلك دخل معترك السياسة من باب الانتخابات النيابية، وفاز عام 1964 ممثلا عن دائرة الظهرة الإنتخابية. وعين بعد ذلك وزيرا للعدل، ثم قفز في سلّم العمل السياسي عندما اختاره الملك إدريس ليصبح رئيسا للوزراء عام 1967، إلا أنه لم يستمر طويلا في رئاسة الوزراء، حيث لم تتجاوز مدته بها أكثر من عشرة أشهر تقريبا.

وخلال تلك المدة كان لامعا في خطابه، ومتميزا، وهو رئيس الوزراء الوحيد الذي كان يخطب ارتجالا وبكلام سلس. وكان مجتهدا ومبادرا في سياساته وقراراته، وأثار جدلا واسعا في أوساط النخب الليبية وخاصة حول دعوته إلى “الشخصية الليبية”، والاهتمام بالوطن وظروفه بدلا من التعلق بشعارات القومية العربية الرائجة في تلك السنوات.

وفي مذكرات بشير السنّي المنتصر”شاهد على العهد الملكي الليبي”، الذي كان وزيرا للدولة لشؤون مجلس الوزراء، شهد لعبد الحميد البكوش بالجرأة غير المعتادة، في عدة خطوات منها:

ـ ترقية المستشارين القدامى في وزارة الخارجية إلى درجة سفراء، بعد أن كانت وظائف السفراء مقصورة على السياسيين.

ـ ومن منجزاته الهامة أيضا أنه فتح المكاتب الحكومية أمام الصحفيين، وأصبح يعقد مؤتمرات صحفية، ويصدر بلاغات عن أية إجراءات وأعمال تقوم أو تنوي الحكومة القيام بها، وكان يخاطب الشعب مباشرة.

ـ كما أنه أصبح يقيم علاقات مع رؤساء تحرير الصحف والمثقفين، وأبدى اهتماما أكبر بضباط الجيش وبالطلبة بإلقاء المحاضرات والاجتماع بهم.

لاقت هذه الخطوات الاصلاحية رضا معظم المثقفين وفئات الشعب والسفراء الأجانب.

بعد نهاية دوره في رئاسة الوزراء عّين سفيرا لليبيا في باريس، ومن سوء حظه عاد في زيارة إلى ليبيا قبل وقوع الانقلاب بيوم أو يومين، وبذلك تم اعتقاله لفترة من الزمن، ثم أفرج عنه، وظل في الإقامة الجبرية في بيته.

وفي تلك الفترة حاول الهروب إلى تونس، لكن تم اكتشافه قبل أن يقطع مسافة كبيرة في محاولته تلك، وتم إعادته إلى السجن، وكان كعادته ذكيا في تبرير محاولة الهروب، وأرجعها إلى أسباب شخصية وخاصة جدا، وليست لأسباب سياسية، ويبدو أن السلطات اقتنعت بما قدمه من مبررات لمحاولة خروجه من البلاد.

ومن الصدف أنني أثناء اعتقالي عام 1973، تم حبسي لفترة في إحدى غرف السجن الانفرادي، وكان عبدالحميد البكوش في الغرفة المجاورة، وكانت تجري بيننا أحداديث طويلة كلما ابتعد جنود الحراسة عن تلك الغرفة. وكان بالقرب منا أيضا العقيد عبدالعزيز الشلحي، والطالب محمد البشتي. هكذا بدأ التعارف بيننا ثم تواصل حتى تحول إلى صداقة.

فهمت منه أنه كان مرتاحا لما قاله القذافي وأن السلطات أصبحت على قناعة بأن محاولة هروبه ليس لها أية أهداف سياسية، وذلك يعنى أنه نجح في خطته، ولن يستمر طويلا في السجن، وفعلا بعد فترة لم تتجاوز سنة من ذلك الحديث تم الافراج عنه، وعاد إلى نشاطه في مجال المحاماة، وزرته في مكتبه بميدان الجزائر بعد الافراج عنه في ديسمبر 1974.

وبعد ثلاث سنوات تقريبا تمكن من مغادرة البلاد وتوجه إلى مصر في عهد السادات، وبدأ نشاطا سياسيا ملحوظا، وأدلى بعدة تصريحات قوية، وشارك عام 1982 مع آخرين في تأسيس “منظمة تحرير ليبيا” وكان من أبرز قادتها.

وبذلك صار هدفا للملاحقة من قبل النظام الليبي، وجرت محاولة لتصفيته في مصر، ولكن المحاولة أحبطت من قبل المخابرات المصرية، واتضح أن تم اختراق المجموعة المكلفة بالعملية. وكانت فضيحة كبيرة تدل على سذاجة وجهل خطط عملاء النظام الليبي، وظل مستهدفا إلى أن غادر مصر.

لم يستمر الخلاف الرسمي الليبي المصري طويلا، فقد تحسنت العلاقات في التسعينيات، وبدأت الأموال الليبية تلعب دورها في كسب أهداف سياسية وأمنية، وتجلى ذلك في الضغوط على شخصيات المعارضة الليبية ومطالبتها بالتعاون مع النظام الليبي والعودة إلى ليبيا أو بالصمت تماما.

بُلغ عبد الحميد بذلك التوجه، وشعر عام 2001 بأن مؤشرات خطيرة كانت تحف بحياته، وبذكائه الشديد أدرك أنه لا خيار أمامه إلا مغادر مصر بخطة سريعة ودون أن يعرف الحرس المكلف بمتابعته كل تحركاته، فخرج متخفيا، واستطاع أن يجد مكانا في إول طائرة متجهة نحو سويسرا. وأثناء توقفه في سويسرا أتصل بي هاتفيا وأخبرني عن تفاصيل رحلته أو مغامرته تلك. ومنها أكمل ترتيب الذهاب إلى أبوظبي، حيث نزل ضيفا على الشيخ زايد بن سلطان. وظل هناك إلى وقت وفاته في مايو 2007.

علاقتي بعبد الحميد البكوش بدأت في السجن المركزي بطرابلس عام 1973، واستمرت في عدة محطات ومدن، منها لقاءات في الرباط، ثم في القاهرة وهي الأكثر، وفي لندن، وأخيرا في أبوظبي عام 2005.

__________

المصدر: كتاب “أسماء في النفس وفي الذاكرة” لمؤلفه الاستاذ محمود محمد الناكوع، دار الحكمة ـ لندن (الطبعة الأولى 2011)

مقالات

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *