سليمان الباروني .. رسالة .. وخصال “المعلم المقاتل“
في عام ما، من عشرينات القرن العشرين، كتب أبٌ من “طرابلس الغرب” إلى إبنه الفتى، الذي يتلقّى العلم خارج البلاد، رسالة “أبوية” يعلمه فيها بمنزلة جدوده عبر التاريخ … يقول:
“إقرأ هذه الرسالة المشتملة على تاريخ أجدادك، يا بني، لتعلم أنك من سلالة رجال علم وحكم. ثم اختر لنفسك أن تكون عالما جليلا أو حاكما عادلا. ومع ذلك لا تعتمد على فخر الجدود، بدون أن تتحلىّ بحليتهم وتقتفي أثرهم، فإنه إذا اجتمع في الانسان تمجيده باعماله وأعمال جدوده، كان جامعا لصفات الحمد، فاجهد نفسك ان يكون لك مجد اكتسابي ذاتي، تجمعه إلى مجد جدودك، فتكون كاملا، معظّما بين أقرانك، يفتخر بك أبناؤك من بعدك. والله يلهمك الرشاد“
ثم يروح ويسرد على ولده صفحات مما دونته كتب التاريخ من أمجاد جدوده، الذين كان منهم الأمراء وكان منهم الأئمة، وكانوا دائما يتصفون بالعلم والتقوى، والأخلاق الحميدة المجيدة.
ذلك الأب هو “سليمان الباروني” … الذي كان واحدا من ألمع قادة الجهاد في ليبيا، أيام الغزو الإيطالي الأثيم، وكان له شأن كبير في توجيه دفّة سياستها خلال فترة من عمر الزمان.
وكانت، في انتظار “سليمان الباروني” مصادفة من مصادفات القدر النادرة … ومنها بدأ رحلته الأولى في العذاب.
البداية … وراء القضبان
ولد “سليمان بن عبدالله الباروني” سنة 1287 هجرية (1870 ميلادية)، في مدينة “جادو” من أعمال “الجبل الغربي” ـ المعروف في التاريخ ـ بـ “جبل نفوسة” ـ الواقع إلى الجنوب من مدينة طرابلس الغرب، في ليبيا.
وإذ بلغ الثامنة عشرة من عمره، بعثه أبوه إلى تونس حيث تلقّى العلوم العربية، في “جامع الزيتونة“، على أيدي كبار أساتذته وعلمائه. وقد لبث في تونس سنوات خمس، ارتحل بعدها إلى مصر، فدرس في “الأزهر” الشريف مدة ثلاث سنواتن ثم غادرها إلى الجزائر ليستكمل علومه في “وادي ميزاب” على يد “الشيخ طفيش” عالم الدين الشهير في زمانه.
فلما آن له أن يعود إلى طرابلس، من رحلته العلمية الطويلة، كان قد بلغ الثامنة والعشرين … فاغترف بذلك من العلم ومن تجارب الحياة ما يؤهّـله لأن يخوض غار تجارب جديدة تكون أكثر عمقا ونفعا.
وهل كان يدري ما تخبئه له الأقدار؟
***
إن أول ما يستلفت نظر الباحث في حياة “سليمان الباروني” الشاب، هو: حبه للأدب، وإخلاصه للدين، وتطلعه إلى بناء دولة اسلامية ترقى إلى ما يليق بها من مستوى بين أمم الأرض.
وهكذا كان إعجابه بالغا بدولة آل عثمان، التي تجمع بعض الشعوب العربية والاسلامية … وعندما كان يمرّن يده على “الخط العربي“، كان يطيب له أن يجلو خطه بكتابة أسماء سلاطين آل عثمان الذين يحبهم .. وربما قلّد ـ متأنقا ـ “الطغراء” العثمانية الشهيرة … وربما أمعن في تسليته، فخطّ ، على وريقة صغيرة، طغراء باسمه، على نحو ما يعبث شاب حالم، “السلطان سليمان الباروني“، ثم جعل هذه الوريقة بين أوراقه الخاصة.
وإذا كان نزوعه الديني قد حمله على أن يشرع ـ وهو في رحلته العلمية الأخيرة ـ في تأليف رسالة عن “المذهب الإباضي“، فإنه كان، إلى ذلك، متحرر الفكر، يتطلع إلى الأخذ بأسباب الحظارة الحديثة … وله في ذلك مواقف ونوادر، منها أنه كان في مجلس استاذه “الشيخ طفيش“، الذي ينكر التصوير الفوتوغرافي ويعدّه بدعة ! وكانت الحرب عامئذ قائمة بين الدول العثمانية واليونان. فأخذ الباروني الشاب يحدث استاذه عن انتصارات العثمانيين المظفرة على أعدائهم، ويطلعه في ذلك على مجلة مصوّرة، شارحا له ما فيها من صور تمثل “أبطال آل عثمان وهم على صهوات خيولهم، وجنود اليونان صرعى هنا وهناك .. ففرح الشيخ بذلك فرحا شديدا وكان صاحب نكتة، فقال:
ـ إن كان التصوير هكذا، فهو حسن إذا!
عاد “سليمان الباروني” إلى وطنه إلى وطنه الصغير طرابلس، سنة 1898، على جناحي شوق، يحدو به حب وحنين، وعزم مكين على خدمة أمته والإسهام في رفع مستواها بين الأمم.
ولكن كان في انتظاره مصادفة شقية من مصادفات القدر النادرة .. ومن هذه المصادفات بدأ “الباروني” رحلته الأولى في العذاب!
عند وصوله إلى طرابلس الحبيبة، ومعه من المتاع ما معه، فتّشه رجال السلطة، ودقّقوا في التفتيش .. فوجدوا في أمتعته، ما وجدوا.
ماذا وجدوا؟
مسودات الكتاب، الذي هو بصدد تأليفه عن “المذهب الإباضي“، ذلك المذهب الذي ـ كما قيل ـ لا يعترف بالخلافة العثمانية، ويحض على الخروج عليها! وقرأوا في رسالة بين أوراقه الخاصة، كان قد تلقّاها من ناقم على العثمانيين … وأما الدولة العثمانية، فهي أشبه بسراب، يحسبه الضمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا“!
دليل ثان، أشد من الأول نكرا!!
وأما ثالثة الأثافي، فتلك “الطغراء” المقلّدة، التي خطها الشاب سليمان يوما، وتأنق في خطها: “السلطان سليمان الباروني“!!
أدلة ثلاثة، كفيلة بأن تقدم عنقه ـ في ذلك العهد وفي كل عهد يشيع فيه الدس والتجسس والتأويل ـ لقمة سائغة إلى … حبل المشنقة، وهوالمتفاني في حب أل عثمان! وإنّى له أن يبرئ ساحته من هذه التهم، الدامغة، الباطلة؟!
وأوقف “سليمان الباروني” رهن التحقيق .. ثم حوكم .. وحكم عليه بـ .. الحبس المؤبد! فالتهم كانت جسيمة، وتصب كلها في جريمة واحدة: العمل ضد أمن الدولة!
وهاج الناس لما تسامعوا بالحكم .. واستاء العقلاء، ومنهم الوالي العثماني “هاشم باشا” نفسه، نظرا لما يعرفون من براءة “الباروني“، وصدقه وإخلاصه.
وتسكينا للخواطر أخلت محكمة الاستئناف سبيله مؤقتا، بكفالة جماعة من الأعيان، على أن يحلف على المصحف على الإخلاص للدولة والسلطان.
ثم .. بإشارة من الولي ـ الذي كان يرى في الشاب “سليمان” إبنا له عزيزا ـ أصدرت المحكمة ـ بالأغلبية ـ حكما بالبراءة.
ويالها من فرحة عمّت أصحابه وقومه!
خمسون فارسا صحبوا الشاب ـ العائد من رحلته العلمية، المطلق لسراح ـ إلى مدينة “فسّاطو” في الجبل الغربي .. وهناك نحرت الخراف، وأقيمت المآدب .. ولا أحد يأكل أو يشرب إلا في بيت .. الباروني!
انجلت الغمّة الطارئة، إذن … ولكن الغمّة الطارئة، لم تنجل!
كان حكم البراءة قد رفع في حينه ـ عام 1898 ـ إلى المراجع العليا في الآستانة … حيث تنقّل هناك، بـ “إضبارة الدعوى” من دائرة إلى دائرة، عاما ثم عاما أخر .. وإذا المراجع العليا لا ترى في الدعوى إلا الأدلّة الدامغة، فحكم المحكمة بالبراءة إذن مناف للقانون! فتنقض الحكم، وتردُّ الدعوى إلى طرابلس، وتطلب إعادة النظر فيها من جديد، على مقتضى الحق والعدل!!
وكم كان صعبا أن يلقى القبض، في يوم من أيام العام 1900، على “سليمان الباروني” وهو بين أهله وعشيرته! وذلك ما اضطر قائمقام “فسّاطو“، “محمد بك الأسير” (البيروتي)، إلى أن يتولى بنفسه القيام بهذا الإجراء القاسي، ترافقه قوة من الدّرك والمشايخ.
وتلقى “سليمان الباروني” الحكم بالحبس مدة خمس سنين … على أن يقضيها في جزيرة “رودس“. واضطرب الحبل لهذا الحكم الغريب الجائر، فراى “النائب العام” إبقاء “السجين” في طرابلس، خشية القتنة.
فلبث في سجن طرابلس، المخصص للمنفيين من الترك، فترة كان خلالها الوالي الآخر “حافظ باشا“، يقوم بمساع حميدة لتخفيف الحكم عنه … فأطلق سراحه بعد عام، بضمانة أعيان طرابلس، على أن يبقى ـ مع ذلك ـ تحت أعين الشرطة، فلا يتجاوز سور طرابلس طوال العام التالي.
وكان ـ وهو وراء القضبان ـ قوي الإيمان بعدالة الله، لم يتسرّب الوهن إلى نفسه قط … وما كفّ عن نظم الأشعار، فكان يتغنى في السجن منشدا:
الروض باكرها الغمام، وهزها روح النسيم، فغنت الأطيار
وتعانقــت أغصانها، وتبسمـت منها الزهور، وفاحت الأنوار
وبــدا لألحـان الحـمـام تـرنــم باسم الجليل المجتبى المختار
فهل كان محض مصادفة أن يُلقى بـ “سليمان الباروني” وراء القضبان، ليبدي ما يبدي من الصبر والتجلد واحتمال الشدائد، تلك السمات التي سترافقه في سائر مراحل حياته المقبلة؟
***
بدا أن “سليمان الباروني” المطلق السراح منذ عام 1902، لم تعد تميل نفسه إلى البقاء في طرابلس … فغادرها إلى مدينة “يفرن” (مركز الجبل الغربي)، وقد قدّر أن في استطاعته يعمل بحرية، بعيدا عن أعين الرقباء، وعن المكائد التي تحوكها المصادفات الشقية!
فكان أن أسس، في عام 1904، مدرسة في “يفرن” سمّاها “المدرسة البارونية“، وتولى الإشراف عليها أبوه “الشيخ عبدالله الباروني“. وأخذت المدرسة تعلّم: القرآن الكريم، والحديث، والفقه، وعلم الكلام، واللغة العربية … الخ.
وأنشأ بجوار المدرسة، مكتبة سماها “المكتبة البارونية” وضمّ إليها نفائس الكتب والمخطوطات. وتابع، في هذه الفترة، تأليف كتابه: “الأزهار الرياضية في أئمة وملوك الإباضية“.
وفي أوائل نيسان\أبريل 1908، أصدر جريدته “الأسد الإسلامي“.
وفي صيف 1908، ولد في الدولة العثمانية “الدستور” الجديد وفيه يؤسس “مجلس المبعوثان“، أي برلمان الأمة. وطرابلس الغرب هي إحدى ولايات الدولة العثمانية، ومن مقاطعات هذه الولاية: الجبل الغربي .. ومن أعيان الجبل: “سليمان الباروني“، الذي أصبح نائبا في “مجلس المبعوثان” بالآستانة، عن الجبل الغربي في ولاية طرابلس، منذ 1908.
وعندما ظهرت قطع الاسطول الإيطالي في مياه طرابلس مساء الخميس 28 سبتمبر، كان “سليمان الباروني” في يفرن مركز الجبل الغربي وقد حضر من الآستانة لتعزية والده بوفاة والدته. فلم يكد يبلغ مسامع الناس نبأ ظهور قطع الاسطول في مياه مدينة طرابلس، حتى اجتمع عند “الباروني” في “يفرن” كثير من رؤساء القبائل العربية والأمازيغية، وتفاوضوا في وضع ميثاق يديرون بمقتضاه دفة الدفاع عن الوطن، ويبنون على أساسه قواعد الجهاد.
كان من أول الأسس التي قررها المجتمعون في يفرن هو تأسيس “الجيش الإسلامي الطرابلسي” ضاربين بذلك عرض الحائط بالاختلافات المذهبية (مالكي وإباضي)، والعنصرية (عربي وأمازيغي).
رغم أنه وإن لم يستطع المجاهدون والحامية العثمانية دحر الغزاة، لكنهم وفقوا في إعاقتهم عن التوسع، وقد ظن الطليان، أن حملتهم المتوجهة إلى طرابلس لن تكون سوى نزهة بحرية لمدة اسبوعين ثم يفرغون من احتلالها.
وأدت نتيجة معركة الأصابعة (جندرمة)، إلى انسحاب المجاهدين إلى “يفرن” وعلى رأسهم “سليمان الباروني“، وقصدوا “نالوت” طلبا لاجتياز الحدود إلى تونس، وما أن تجمع قادة المجاهدين في الاراضي التونسية حتى طلبت منهم السلطة الفرنسية المتحكمة في تونس، الخروج من الاراضي التونسية فمنهم من رجع إلى طرابلس ومنهم التحق بالمجاهدين في فزان، ورغب سليمان الباروني السفر إلى الآستانة.
ولما وصل الباروني إلى الآستانة، أستقبله السلطان محمد رشاد، وأنعم عليه برتبة الباشاوية. ولبث “الباروني باشا” في الآستانة، منذ وصوله إليها في ربيع 1913، ولكنه ظل يتحين الفرص للرجوع إلى طرابلس الغرب لمعاودة الجهاد من جديد.
يتبع
_____________
المصدر: كتيب رقم 13 من سلسلة نوابغ العرب بعنوان سليمان الباروني “المعلم المقاتل” ـ إصدار دار العودة ـ بيروت (1975).