المحرر
الواضح أننا في عملنا السياسي الوطني وباختيارنا تجاهلنا البعد الغيبي في صراعنا مع الاستبداد والتطرف أي اننا اخرجنا التوكل على الله سبحانه وتعالى من حساباتنا عند اقتحام حلبة الصراع السياسي عندما اخترنا أن نتجاهل الجانب الإيماني في عملنا النضالي الوطني.
الصراع السياسي له أسبابه وسننه وأدواته، والنصر السياسي على العسكرتاريا يتطلب شروطا لا يتم النصر إلا بتحققها. فعندما يستبعد المناضلون البعد الغيبي في مسيرتهم التحررية من الاستبداد يجدون أنفسهم في مواجه قوى الاستبداد على صعيد واحد من حيث قوانين الصراع المادية البحثة، بمعنى القوة المادية مقابل للقوة المادية.
أي أننا عندما فرّغنا الصراع من محتواه الروحي ووضعناه في قوالب مادية بحثة، منفصلة عن معاني المجاهدة، أفقدنا قضيتنا الدعم الذي يأتي به الدعاء والتوكل على الله والرجاء في نصرته، وبالتالي نكون قد اخترنا أن نتوكل على انفسنا أي أننا قطعنا عن قوتنا المدد الروحي والزخم المعنوي، وبالتالي تكون الهزيمة من نصيبنا لأننا لا زلنا الطرف الأضعف ماديا سياسيا وتنظيميا وحركيا.
لا شك أن ترك الجانب التكويني الفكري والثقافي والأمني والسياسي والحركي في تجربتنا جعلنا نعيش حالة القلق والترقب والإضطراب النفسي مما أدى بالبعض منا إلى الفشل على مستوى الممارسة التنظيمية والحركية.
من الأخطاء التي ينبغي أن نعترف بها بعد انقضاء هذه الفترة الطويلة من تجاربنا المختلفة خلال عقدي الثمانينات والتسعينات، والتي تتعلق بمسألة ارتباطنا بالأمة، حيث أن الأمة الإسلامية عانت من عدة أزمات وكوارث انسانية، كان أثرها كبيرا على الإنسان المسلم، وقد اهتز لها ضمير الإنسان الحر في العالم ولكننا لم نعطها الأولوية التي تستحقها، ولم نكثرت لها على المستوى التنظيمي والذاكرة الجمعية لاننا كنا مشغولين بالنظام الاستبدادي في بلادنا.
التجارب أثبتت أن المناضل في حاجة دائمة إلى تنمية المحتوى الفكري والعقائدي كما أنه في حاجة ماسة إلى بذل الكثير من الجهد والعسير من المهام ولفترة زمنية طويلة يخوض خلالها صراعا عميقا، بدء بنفسه قبل عدوه، حتى يصبح بعد ذلك مناضلا مؤمنا قوي الإرادة لا يمل العمل النضالي وما يلازمه من صعوبات وتحديات ومحن.
ضرورة توفر خاصية المناضل المؤمن في “الكتلة الحرجة”
العمل الجماعي في المجال السياسي يتطلب وجود قدر من القدرات البشرية التي لا تقل عن “الكتلة الحرجة” وهي الحد الأدنى من المناضلين المؤمنين الذين هم على قدر كبير من الوعي والالتزام والتصميم والتوكل لتحقيق الأهداف.
مسألة الكم في العمل السياسي قد لا تكون بتلك الأهمية إذا توفرت الكتلة الحرجة، فالأعداد المحسوبة على التنظيم قد تكون كثيرة ولكن الكمية الفاعلة قد لا تمثل إلا نسبة ضئيلة في أحسن الأحوال، فهناك الكثير من الناس من هو على استعداد أن يرتبط بالتنظيم بالكلمة دون قدرة أو رغبة في البذل والعطاء، وهناك من يرتقي بعطائه إلى مستوى التفرغ الكامل للعمل النضالي ولكنه يفتقد إلى الوعي والخبرة وخصائص المناضل المؤمن، مما يجعله عالة على التنظيم يحتاج من يوجهه ويتابعه باستمرار، وهناك من يعمل بكل جد ولكنه يدين بالطاعة العمياء دون رأي مستقل أو قدرة على الإبداع ويتبع خطى القائد الرمز إلى مواقع الشبهة، ويعينه بصمته على الإستعلاء الذي يتحول مع مرور الزمن إلى استبداد مغلف.
المطلوب هو توفير الكتلة الحرجة من النوعية ذات العملة النادرة.
إن ظاهرة التضخم البشري في التنظيمات السياسية غالبا ما تؤدي إلى تضييع الوقت والجهد على المستوى الفردي والجماعي خاصة في غياب جهود الإعداد المعنوي والروحي والفكري والتكوين السياسي الحركي، مما يؤدى إلى تكديس النوع المكرر أو ما يمكن تسميته بـ “النسخ الباهتة”، ومن ناحية أخرى يؤدي التضخم إلى فقدان النوع المتميز الذي وللأسف الشديد غالبا ما تلتهمه الظروف الخاصة وتعيده إلى زحمة القطيع الذي يعيش فيها الفرد لمشاكله وهمومه الخاصة تستهلكه يوميات الحياة المعبأة بأسباب التثاقل إلى الأرض.
هذا التحليل يقودنا إلى مسألة الإمكانيات النضالية ومحدداتها، فتجربتنا في المعارضة الليبية في الخارج أثبتت أن التنظيمات، بحكم نشأتها وبقائها في الخارج، قد انزلقت إلى مربع التصدي لمهمة صعبة وقضية كبيرة لم تستوعبها على الوجه الأكمل، فرفعت شعارات التغيير وإقامة البديل، ولكنها لم تعد للأمر عدته، فأوحت للناس بامكانية تحقيق ذلك بدون تضحيات، وتبنت مشروعا أكبر منها، ولم تكن تملك من المتطلبات إلا الأماني والأحلام، فالإمكانات البشرية والفكرية محدودة والاستعداد لم يكن متوفرا لدى الغالبية من المنطوين في التنظيمات المختلفة . بل أن التنظيمات لم تضع أقدامها على طريق الإعداد الفكري والسياسي والحركي للقيام بتلك المهام، وتبين ذلك بعد سقوط النظام بانتفاضة شعبية لم تكن لها علاقة بأي من تنظيمات المعارضة في الخارج.
ولكي لا نخدع أنفسنا مرة آخرى، علينا تفهم مسألة محدودية إمكانياتنا مقابل الاهداف المراد تحقيقها، ولذلك علينا ان ننطلق من البدء بمهام متواضعة نبذل فيها جهودا كبيرة لكي نحقق من خلالها انجازات صغيرة متوضعة، لعلنا نشعر بقليل من الحركة نحو تحقيق الهدف الكبير وهو المساهمة في إقامة البديل الوطني الديمقراطي.
______________