(المحرر: قدم المناضل بشير العامري رحمه الله هذه الورقة في سبتمبر 1993، ولذلك على القارئ أن يقرأها في سياقها التاريخي التي تناولته)
هذه الورقة تناولت كمحاولة لعلاج ثلاث مواضيع أساسية في أجندة المعارضة الليبية في الخارج، وهي: أولا، تقييم عقد ونصف من النضال من أجل الحرية، وثانيا، التطورات التي طرأت على أسس استراتيجية النضال، وثالثا، تصور جديد لقيادة النضال من أجل تحرير الإنسان الليبي وتمكينه من أن ينال حقوقه الطبيعية.
الجزء الثاني
الحلف الشريف
منذ قيام دولة آل سعود في نجد وتحالفاتها في سبيل ذلك مع الإخوان الوهابيين في أوائل القرن الماضي وحركة الإلتقاء والتباعد بين الأصوليين والعلمانيين في توالى ليس فقط بسبب حاجة الأول لفنون السياسة وحاجة الثاني للدعم الشعبي واكتساب الشرعية، بل أيضا للتخفيف من وطأة الغرب الذي يملك وسائل البأس على الإسلام والمسلمين.
لعل ما حدث من التفاف ودعم من الإسلاميين للحركة السياسية الليبية المعارضة والجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا، هو من ذلك القبيل، فقد كانت الجبهة في حاجة ماسة إلى اتباع لهم الرغبة في المعارضة الحقيقية لنظام القذافي، وقادرون على العطاء في سبيل ذلك المطلب وأين تجدهم في المهجر خارج الحركة الإسلامية العارمة بين الليبيين في أوروبا وأمريكا، وبالمثل فقد ظن الإسلاميون أنهم وجدوا في هذه الحركة السياسية خيرا وجاء لهم من رصد الراصدين وأسهل وسيلة تمكنهم من الانتقال والاتصال دونما حاجة إلى الإعلان عن توجهاتهم الحقيقية من جهاد وإقامة الشريعة وتوحيد الأمة وحرمان الغرب من استغلال الشعوب الإسلامية لما لهذه المطالب من علاقة مباشرة بتصنيف الحركة الإسلامية بأنها حركة متطرفة.
وبسبب هذا التبادل النفعي إتفق المعارضون على قاسم مشترك “إسقاط نظام القذافي” أما البديل فقد كان له أكثر من بديل. لكن التجربة السياسية كما خاضها الإسلاميون من خلال الجبهة أظهرت لكثير منهم على فترات مختلفة من الزمن أن ما تصوروه من قدرة على التمترس وراء واجة سياسية خارج بلادهم لم يكن إلا تصورا ساذجا دلّ على ضيق خبرتهم السياسية واتساع المشكلة التي تواجههم.
ورغم أن التحالف الإسلامي الليبرالي الذي أوجدته الجبهة نجح في إرساء دعائم حركة دامت إلى ما بعد موقعة باب العزيزية إلا أنه لم يستطع المحافضة على استمرار الدعم الإسلامي لهذه الحركة ولو أمكنه ذلك لكان له اليوم شأن آخر لكن كفة الجناح الليبرالي قد رجحت ومرجع ذلك أن الإسلاميين لم يحرصوا على مواقعهم في هذا الإئتلاف ولأن الجبهة بالغت في التخوف من أن توصم بأنها حركة أصولية أو أن توصف بأنها استمرار لحركة الإخوان المسلمين رغم أن الجهاد الإسلامي الصريح وقتئذ في أفغانستان يلقي كل دعم من الولايات المتحدة ومن الغرب بأسره خلال سنوات زامنت نشوء الجبهة وإرتقائها.
وعلى الرغم من قصر عمر ذلك التحالف الليبرالي الإسلامي إلا أنه كان محاولة رائدة أثبتت أن الليبيين قادرين على الإرتقاء فوق خلافاتهم الناشئة من اختلاف توجهاتهم الفكرية ليحققوا معا مطالب أعظم تتصل بالحياة والحرية لكل فريق منهم وأن وحدة الوطن والمصير أقوى من خلافات الفكر والسياسة، واثبتت المحاولة أيضا حاجة الإسلاميين إلى السياسة وحاجة السياسيين إلى الإسلام في نضالهم من أجل تغيير الواقع.
نعم هناك من الذين ينتمون إلى التيار الإسلامي من يرفض التعاون مع الآخرين من الأحزاب الوطنية إما لغياب الشمولية المعروفة في الإسلام أو لأنه يرفض الديمقراطية والانتخابات والمجالس النيابية، لأنها مسميات غريبة يريد أن يسميها لما يقابلها في الفكر الإسلامي من بيعة وشورة … الخ، أو لأن هذه الأسماء ارتبطت في ذهنه بملة الكفر، ولكن ليس هناك من الإسلاميين من يرفض جوهر هذه المسميات من سيادة القانون وفصل السلطات وحقوق الإنسان فكيف يرفض العدل والحرية وهما من أهم مقاصد الشرع.
وعلى الصعيد الآخر فالذين يخشون الحكم الإسلامي ويناهضون الصحوة الإسلامية من أجل ذلك، يبنون مخاوفهم أولا على تجارب الغرب الحضارية وما سجله التاريخ الأوروبي من صراع بين الكنيسة ودعاة التطور والتنوير في بداية عصر النهضة، وثانيا ـ وليس على نفس المستوى من الأهمية ـ على تصريحات الخطباء والوعاظ الإسلاميين وهم يدينون بحماس الخطباء المعهود بعض مظاهر التطور الغربي (الانحلال) التي تعتمد على أصول لا أخلاقية أو تعارض مقاصد الشريعة الإسلامية ويتوعدون مظاهر الفساد الإجتماعي المتمثلة في الزني والخمر والمخدرات والشذوذ الجنسي وما إلى ذلك.
ولو أمكن للطرفان الإسلامي والليبرالي أن يتحاورا حوارا هادفا بنية الوصول إلى نقاط الألتقاء لتبين لهما أن خلافاتهما غير موضوعية وأن عوامل اللقاء والتعاون بينهما كثيرة وصالحة، فالصراع بين الدين والعلم ليس من خصائص الدين الإسلامي فالشريعة تضع العقل في موقع المسؤول الوحيد تصرفات الفرد حتى أن الفرد لا يبلغ درجة المسؤولية الشرعية والقانونية على السواء حتى يبلغ العقل طالت النضج (البلوغ) فإذا فقد المرء عقله بعد ذلك سقط عنه التكليف وسقطت عنه المسؤولية لفترة ذهاب العقل طالت تلك الفترة أو قصرت.
ولذلك يحاج الإسلاميون مخالفيهم قائلين كيف يعقل أن يعطل الإسلام دور العقل بعد ذلك وهو الأداة المكلفة والمسؤولة، ورغم أن الأوروبيين قد تجاوزوا مرحلة النمو الحضاري التي تتميز بالصراع بين العقل والدين منذ قرون بعد أن انتصر العلمانيون واستقلوا بالدولة تاركين للكنيسة أعمال الآخرة، نجد الليبراليين من المسلمين لا يزالون يخشون هذا الصراع إذا ما أتيح للحضارة الإسلامية أن تعيد الكرّة رغم خلوها من ذلك الصراع في جولتها الأولى، والأجدر بالتيارين الإسلامي والليبرالي في العالم الإسلام اليوم إذا أراد الإقتباس من الغرب ليس باقتفاء آثارهم في كل أمر حتى ـ لو دخلوا جحر ضب دخلوه وراءهم ـ بل عليهم أن يقتبسوا منه أدب الأختلاف.
ورغم أن الصراع لا يزال اليوم على أشده بين الدينيين والعلمانيين في الغرب كما يظهر من صراعهم على تعليم الدين في المدارس العامة وعلى قضايا الإجهاض والشذود الجنسي وما شابه ذلك من القضايا الأخلاقية، تجد اتفاقهم يفوق كل خلاف عندما تكون القضايا القومية في الميزان مثل قضايا الاقتصاد القومي وحماية البيئة والأمن القومي ونشر الدين المسيحي وغير ذلك من القضايا التي لا يكاد يعرف فيها الجنرال العسكري من القسيس إلا ببزتيهما. فليت شعري لو استطاع المسلمون الليبراليون والأصوليون في ليبيا أو في غيرها الاقتباس من أعظم ما انتجت هذه الحضارة المعاصرة.
تملك الحركة السياسية الإسلامية في ليبيا كل إصرار وتصميم على مقارعة السلطة وتملك القدرة على مواصلة الحرب مع شدة الخسائر وتوالي النكبات وتملك استمرارية المدد بل تزايده كما طال أمد الحرب واشتد إواره، ويضاد هذه المزايات انقسام الحركة وتفرقها إلى جماعات صغيرة مختلفة في مذاهبها وبين أقصى اليمين وأقصى اليسار، وكل فرقة تهزأ بل تنكر ما عليه أختها من راي ومنهج وتراه إما فسادا في الرأي أو ابتداعا في الدين.
وبجانب هذا التفرق والإنقسام تفتقر الحركة الدينية إلى ما عند الحركة السياسية من إدراك لفن سياسة الناس والتعامل مع العالم الخارجي، فهؤلاء الشباب المتحمس المليئ بالإيمان واليقين لتعركة التجربة ولا يجد في جعبته من حيل لمواجهة ما يطرأ من أمور إلا التحدي والتصادم في الوقت الذي تكون فيه الحكمة وضبط النفس أولى، ولعله من نافلة القول أن نشير إلى أن هذا الأسلوب ليس من وحي الإسلام بل من غياب المناخ الحر اللازم لفهم الإسلام.
إذا صح وجود حركة أوصولية جادة تنقصها الخبرة بالواقع، وحركة سياسية تراكمت لديها تجارب وخبرات في العمل السياسي الدولي والمحلي، فهل يا ترى من أمل في دعم خبرة الأخيرة بجلد الثانية؟. قد يكون هذا الإلتقاء ضربا من ضروب الخيال لو طرحت فكرته في أوائل العقد المنصرم أو أواخر الذي قبله، لكنه اليوم لم يعد كذلك بعد ما أبدته الحركة الإسلامية في الجزائر من نجاح في توحيد صفوف الشعب ضد الاستبداد والفساد السياسي وأظهرته الحركة الإسلامية السودانية من مرونة سياسية امتدت إلى دعوة العلمانيين إلى مؤتمراتها وقبول غير الإسلاميين في تنظيماتها وما تدعو إليه الحركة الإسلامية في تونس من انخراط العوام في عضويتها.
ليست الحركة الإسلامية هي التي ترفض الإلتقاء والتوفيق بين المذاهب السياسية فهي تسمح لكل مجتهد ومجدد ولا تضيق برأي لا ينكر ما عرف من الدين بالضرورة ولا يبنى على التقية والمراء، لكن الحركة السياسية “الديمقراطية الليبرالية” هي التي ترفض هذا الإلتقاء ولا تحتمله لسببين:
الثاني: أن ثقافة قادتها ومريدوها الغربية التي لا ترى الدين السياسي إلا دولة ثيوقراطية يستمد الحاكم فيها إرادته من التفويض الإلهي له مما يجعل رأيه فوق القانون وذاته مصونة لا تمس، والناس رعايا يغدق عليهم من ريعه إن شاء أو يذيقهم وبال أمرهم إن خالفوه، وتلك صورة للدولة لا تستند على نص في الإسلام ولا في التاريخ، ولسنا في حاجة إلى شرح ذلك في هذا الموقف ويكفينا القول أن شؤون السياسة والإدارة في الإسلام يقع في أطار المباح من الدين لا جبرية فيه ولا الزام، وأن مخالفة السلف فيما اتبعوه من سياسة الرعية وإدارة شؤون الدولة حلال لا إثم فيه، من ذلك مثلا انتخاب الأفراد الذين يتولون مناصب هامة في الدولة أو في جزء منها وتقنين مدة خدمة المنتخبين والاقتراع على بنود الدستور والقوانين التي لا تحرم حلالا ولا تحل حراما.
ثانيا: إعتقاد الحركة السياسية بضرورة الإرتباط والموالات للغرب هو ما يضعها في حرج مع الحركة الإسلامية التي لا تتنازل عن مبدأ الاستقلال التام عن الغرب أو الشرق حتى وإن كانت غير قادرة على مواجهته، ليس لسبب عقيدي فقط بل بسبب عمل أيضا، لأن العالم الغربي المسيطر اليوم يجد في الإسلام منافسا حضاريا له ولن يقبل بالتعايش السلمي مع المسلمين إلا متى امتلك أسباب القوة عندهم ليضمن ولاءهم وسيادته عليهم.