المهدي يوسف كاجيجي

***

أنا أهواك يا بلدي

لأنك لست لي وحدي

فحضن الأم ما أحلاه مزدحما

كعش النحل بالولد

وحتى عندما ادفن

فلن أحزن

لان أحبتي والأهل فى بلدي

سيبكوني ولن ينسوا بأني من روائحهم

أحب روائح الورد

فيلقوا فوق جثماني

أكاليل من الورد

***

أربعة عشر عامًا مضت على رحيل الشاعر، ولم تتحقق أمنيته بوضع إكليلا من الورد على قبره ، حتى وبعد سقوط نظام سبتمبر لم يتذكره احد، ولا زال جثمانه الطاهر يرقد بعيدا عن الأرض التي أحبها والتي حلم كثيرا ان يعود لها وندر حياته للدفاع عن قضيتها.

انه عبد الحميد البكوش، المحامي والقاضي ووزير العدل، وأصغر رئيس وزراء فى تاريخ ليبيا، الدبلوماسي والشاعر والكاتب و واحد من قادة الرعيل الأول من المعارضين الأوائل لنظام القذافي.

***

عرفت الرجل فى حقبة الستينات فى بداية عملي الصحفي، كان وقتها نائبا فى البرلمان في تلك الحقبة كانت أعلام القومية العربية ترفرف عاليا، وكان هو من الأصوات المعارضة حاملا لشعار ليبيا أولا، وبعد نكسة يونيو واجتياح إسرائيل للحدود العربية والهزيمة الموجعة.

وقتها تلقى تكليف من الملك إدريس بتشكيل حكومة جديدة خلفا لحكومة عبد القادر البدري المستقيلة، وكانت أول حكومة ليبية فى عهد الاستقلال تحمل مشروعا وطنيا تحت اسم (الشخصية الليبية) عملا جريئا ذو رؤية مستقبلية، كان من الصعب استيعابه من قبل شارع عربى يقوده وقتها التيار الناصري وأجهزة إعلامه المسيطرة على المشهد والمتمثلة فى إذاعة صوت العرب من القاهرة.

اختلفنا معه، لم يبقى فى الحكم طويلا، وقدم استقالته، وعين سفيرا لليبيا في العاصمة الفرنسية، هذا التعيين لم يكن يعنى اختفاءه عن المشهد السياسي في ليبيا، وفى نهاية الستينات مرت البلاد بمرحلة مخاض.

خرج الملك إدريس من ليبيا وأقام فى تركيا رافضا العودة، تسربت أخبار عن رحلات مكوكية قام بها البكوش ما بين طرابلس ومدينة بورصة التركية حيث يقيم الملك في محاولة لإقناعه بالعودة بل قيل وقتها انه كلف من قبل الملك بتشكيل حكومة أزمة والتمهيد لشكل الحكم الجديد القادم.

وقع الانقلاب فى سبتمبر واعتُقل الرجل وسُجن، تعرّض خلال عملية الاعتقال لكم هائل من الإهانات بل والتعذيب، وعندما تم إطلاق سراحه وُضع تحت الإقامة الجبرية، ولقد قام بمحاولة غير ناجحة للهروب عبر الحدود التونسية وعند اعتقاله تم تسجيل شريط كامل بواقعة القبض علية تم عرضُه على شاشات التلفزيون.

وعندما اعتقد انه أستكان ورضخ للحكم الجديد سمح له بالسفر للخارج، ولقد اعلن بعد خروجه معارضته للنظام وطلبه لحق اللجوء السياسي في مصر.

***

لا أبدا يا ولدي

لا ما هاجرت

لكنى خيمت بعيدا عن عرس الدم

أحزنني جداً يا ولدى

فى العرس الدم

لكن العيد سيقبل يا ولدي

في يوم العيد

وأجئ بلادي مشتاقا فى يوم الوعد

سأجيءك يوما يا بلدي خذ هذا العهد

سأجيءك يوما يا ليبيا .. يا أم السعد

***

في قصيدته ليبيا يا أم السعد ردا على من إتّهموه بالهرب وإيضاحا عن سبب خروجه من أرض الوطن. ربع قرن قضاها البكوش على أرض الكنانة لم يستكين لحظة، أسس فيها منظمة تحرير ليبيا كتنظيم معارض لما يجري في وطنه.

تعرض لأكثر من عملية اغتيال كان من أشهرها فضيحة المجموعة المالطية التي دفع بها النظام ولجانه الثورية مقابل مبالغ مالية هائلة، وعند وصولهم للقاهرة تم القبض عليهم ودفعهم من قبل الأجهزة الأمنية المصرية بتنفيذ المطلوب في شكل تمثيلي واتصالهم بليبيا وتأكيد نجاح العملية وخرجت أجهزة الإعلام الليبية على الملأ معلنه نجاح أحرار وأبطال ليبيا في تصفية الكلب الضال عبد الحميد البكوش، وكانت فضيحة مدوية.

على أرض المهجر اقتربنا منه وتعرفنا عليه أكثر، كانت جلسته اليومية فى فندق ميريديان مصر الجديدة، ندوة يومية يتجمع فيها عدد من السياسيين العرب والكتاب والصحفيين كان يمتاز بعمق الثقافة والحضور المثير للجدل، وسببت كتاباته على صفحات الجرائد العربية وخاصة الحياة اللندنية انزعاجا لدوائر الحكم فى ليبيا.

ولقد تداول الوسط الصحفي فى القاهرة حكاية تجنيد السفارة الليبية لإحد المراسلين التابعين لجريدة عربية ودفع مبلغ ألف دولار شهريا مقابل تزويدهم بنسخة من مقالة عبد الحميد البكوش قبل النشر.

عندما تم التصالح بين نظام القذافي وحسني مبارك، تم الاتفاق على الحد من نشاط المعارضة الليبية من الأرض المصرية، وخاصة للرموز المعروفة، تبع ذلك عملية إغراء ومساومة من خلال عروض وظيفية وتمويلات مالية في شكل مشاريع استثمارية.

وعلى سبيل المثال قبل السيد عبد المنعم الهونى وظيفة مندوب ليبيا لدى جامعة الدول العربية في الوقت الذي رفض فيه البكوش كل العروض، وحتى يعفي المضيف المصري من الحرج شد الرحال إلى دولة الإمارات لاجئا ليواصل معارضته على صفحات الصحف ووسائل الإعلام المتاحة،

في قصائده الشعرية ظل يحلم بالعودة الى أرض الصبا والشباب، وعاهد الأحبة على ذلك بقوله: سأجيئك يوما يا بلدي خذ هذا العهد، انتظر يوم العيد طويلا ولكن يوم العيد جاء متأخرا أربعة سنوات بعد أن تمكن المرض اللعين من الجسد الطاهر ومات غريبا على ارض غريبة ، ولا زال يحلم بان أحبته والأهل سيبكوه ولن ينسوا بأنه من روائحهم فيلقوا فوق جثمانه أكاليل من الورد.

_______________

المصدر: صفحة الكاتب على وسائل التواصل الاجتماعي

مقالات