أنيس العرقوبي

الثورة الجزائرية

ركز الملك ادريس جهوده المادية والمعنوية لدعم ثورة الجزائر منذ اندلاعها في 1 من نوفمبر/تشرين الثاني 1954 ضد المستعمر الفرنسي. وقد أثبتت الوثائق التاريخية جهوده العظيمة وأعماله القديرة في هذا الجانب، حيث ذكر مصطفى بن حليم في كتابه “صفحات مطوية من تاريخ ليبيا السياسي”، ما يقيم الحجة والبرهان على صدق الملك إدريس لدعمه للثورة الجزائرية.

وكانت ليبيا عبارة عن قاعدة خلفية ولوجستية للثورة الجزائرية، يتدفق منها السلاح والعتاد، إضافة إلى احتوائها على مراكز تدريب وإقامة خاصة لقادة جبهة التحرير وأمّنت تنقلاتهم.

وأكد الرئيس الجزائر أحمد بن بله في مقابلة تليفزيونية أنّه أجرى آنذاك اتصالات بالحكومة الليبية والفعاليات الشعبية، وأنّ التعاون بينهم كان قائمًا، مشيرًا إلى أنّ المساعدات كانوا يتلقونها سرًا، فيما كان السلاح يدخل عن طريق تونس.

واستقبل الملك الليبي أيضًا أعضاء الحكومة المؤقتة الجزائرية في ليبيا سنة 1959، إضافة إلى فريق جبهة التحرير لكرة القدم.

بعد انقلاب القذافي في الأول من سبتمبر/أيلول 1969، استقر الملك في مصر ولم يغادرها إلا مرتين حج فيهما بيت الحرام، إلى أن توفي في القاهرة في 25 من مايو 1983 وهو في سن الـ74، ونقل جثمانه من القاهرة إلى المدينة المنورة ليُدفن في البقيع بالمدينة المنورة، ودخلت ليبيا عصرًا جديدًا لا تعترف فيه الجماهيرية العظمى بالتعدد الحزبي أو الحريات، ولا تستوعب فيه الذاكرة التاريخية الجديدة سوى شخص واحد (العقيد).

شهادة بورقيبة

لا يمكن الحديث عن دور الملك ادريس دون استحضار حادثة “البلماريوم” الشهيرة التي يعرفها التونسيون والليبيون جيدًا، حين أشاد الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة بالملك ادريس السنوسي وعدّد مناقبه وفضائله على الحركة الوطنية ومسار الاستقلال عن الاحتلال الإيطالي في حضرة العقيد.

كان معمر القذافي يُلقي خطابًا حماسيًا بالبلماريوم (أبرز قاعات السينما في العاصمة التونسية)، فيما كان بورقيبة مريضًا ولكنه يستمع عبر المذياع إلى ضيفه الذي أطنب في الحديث عن الوحدة، فسارع إلى مكان الاجتماع وأخذ الكلمة قائلًا: “لم أكن أنوي إلقاء خطاب مثل العادة لكن ما دُمت مسؤولًا عن هذه الدولة، والمسؤولية لم تحملني بثورة مسلحة أو بانتقاضه (القذافي)، بل رغمًا عن أنفي بعد كفاح دام ما يقرب من نصف قرن”، مشيدًا بدور إدريس السنوسي في استمالة البريطانيين والتحالف معهم ضد الإيطاليين شريطة التصويت لليبيا لنيل استقلالها.

وفي ذات الاجتماع سخر بورقيبة من دعوة معمر القذافي للوحدة مع تونس مذكرًا إياه بالتجارب العربية الفاشلة كوحدة سوريا ومصر.

القذافي و”المختار”

وفي هذا السياق، قال الكاتب الصحفي الليبي عصام الزبير في حديث لـ”نون بوست” إنّ القذافي حاول صياغة التاريخ من جديد وأضفى عليه مشاهد غير حاضرة وحاول إخفاء بعض الأحداث والحقائق من أجل إثارة النزاعات بين القبائل فقام بإخفاء عدد من الشخصيات المجاهدة للغزو الطلياني الفاشستي، مضيفًا “لقد أخفى تاريخ الملك الذي يعتبر من المؤسسين لمنظمة الوحدة الإفريقية وحاول بكل قوّة طمس صورة إدريس رحمه الله من المنظمة في إثيوبيا وبذلك سعى بقوة لتغير الاسم إلى الاتحاد الإفريقي حتى يغير تاريخها”.

وأشار الزبير إلى أن القذافي ركز على أن ليبيا ملكية فاسدة متناسيًا أنّ في تلك الفترة كان يوجد بها دستور وقوانين، وقام بتغيير العلم والنشيد الرسمي للبلاد، وألغى الدستور وقلب ليبيا إلى فوضى باسم شرعية الثورة، واستبدل القوانين باللجان الشعبية.

وأوضح الكاتب الليبي أن نظام القذافي عمل على إخفاء تاريخ المملكة الليبية وإلغائه من المناهج المدرسية، إضافة إلى أنّه استعمل اسم عمر المختار وسيرته لتهميش دور الملك وبعض المجاهدين من القبائل التي تنازع معها، متابعًا: “نظام القذافي لعب على نفسية المواطن الليبي المتدين ومدى تعلقه بالمقاومة والجهاد ودفع بسيرة المجاهد لضرب أي وجود للملك في حين أنهما كانا على نفس النهج والطريقة”.

ويُتهم نظام العقيد بتزوير تاريخ الرجل واتهامه بالعمالة والخيانة وعمل على تلطيخ صورته في عقول الأجيال التي لم تنشأ في تلك الفترة، وهو ما ساهم في تهميش شخصية وطنية وإلغائها مِن الذاكرة التاريخية ومناهجها وبرامجها التعليمية، إضافة إلى طمس دوره السياسي.

فيما كشف الصادق شكري في مقال سابق أنّ الانقلابيين (القذافي) استولوا على مذكّرات الملك المسجلة في مفكراته الشخصية، وفبركوا يومياته وملاحظاته وخواطره التي وجدوها في المفكرات، قصص وحكايات، ووضعوها في مجلّد أسموه “حقيقة إدريس.. وثائق وصور وأسرار”، وصدرت طبعة المجلّد الأولى في بدايات السبعينيات، والثانيّة عام 1983، وأشار إلى أنّ نظام القذافي وضع ما جاء في مفكرات الملك من تسجيلات في سياقات أُريد من ورائها تشويه سيرة الملك وعهده.

الملك “الولي”

انتماء الملك الليبي إلى الطريقة السنوسية (صوفية)، دفع معاصريه من الموالين له والمعارضين إلى رؤيته من هذا الجانب وبذلك تعسّر الأمر على كتّاب التاريخ والمؤرخين دراسة هذه الشخصية بصفة واقعية تضمن له حقّه التاريخي كونه رجل دولة بامتياز وصاحب رؤية سياسية تنم عن معرفة ودراية بالتحولات الجيوسياسية التي تعيشها المنطقة في تلك الفترة.

ومن هذا الجانب، يقول الباحث الليبي، محمد المفتي، إن “صورة الملك ادريس السنوسي بين معاصريه، سواء كانوا خصومه أم مناصريه، تتفاوت في التعليل والأحكام، وأنّ أغلبية العامة رأته أقرب إلى نموذج الولي الصالح الذي جاء بالفرج، في حين تباينت النظرة إليه على المستوى السياسي فوقف أنصاره بين الولاء أو المصلحة، واعترف له المحنكون بواقعيته ومهارته في استثمار الأحداث”.

ويعود حصر الليبيين لتاريخ الملك ادريس في الطريقة السنوسية والصوفية إلى العامل النفسي وشخصية الأفراد في تلك الحقبة (الليبي المتدين) التي تميل مع الرموز الدينية كالجهاد ومقاومة محتل (عمر المختار) وبالتالي فهي لا تولي اهتمامًا للشخصيات السياسية أو السلطة التي يُمثلها الملك السنوسي.

بالمحصلة، عرفت ليبيا منذ فترة ما قبل الاستعمار إلى الاستقلال وانقلاب العقيد القذافي ديناميكية كبيرة على مستوى الأحداث، لم تُسايرها حركة بحثية تكشف خفايا تلك الحقبة وتؤرخ ذلك المسار وفق أدوات علمية تستند لمصادر ووثائق رسمية وشهادات لشخصيات عايشت الوقائع، لكشف الحقائق وإنصاف من ظلمهم التاريخ كالحركة السنوسية التي أرادها القذافي أن تكون خلال فترة حكمه جزءًا عابرًا من التاريخ، فهل ستُنصف ثورة 17 فبراير المنسيون من الحركة الوطنية وتُعيد لهم الاعتبار؟

***

أنيس العرقوبي ـ محرر في نون بوست

______________

مقالات