محمد عبد الحفيظ الشيخ

خامساً: فرص نجاح الانتقال الديمقراطي في ليبيا

في ظل استمرار تصاعد أعمال العنف، بذلت العديد من الجهود الدبلوماسية لتسوية الأزمة، وعودة الهدوء إلى المشهد السياسي والأمني الليبي، وفي هذا الاتجاه برزت محاولات أممية عديدة من أجل لمّ شمل فرقاء العمل السياسي، ودعت كل الأطراف إلى حل النزاع عبر الحوار بما يسهم في الحد من عبث فوضى جماعات العنف.

وسعياً منها لإيجاد مخرج للأزمة الليبية الراهنة بعد فشل حوار «غدامس أعلنت بعثة الأمم المتحدة في ليبيا من خلال مبعوثها الخاص إلى ليبيا برناردو ليون عن اعتزامها الدعوة إلى جولة جديدة من الحوار السياسي بين الأطراف المعنية، في كانون الأول/ديسمبر 2014 بهدف إيجاد حل سريع وعاجل للوضع المتأزم في ليبيا، حيث قالت البعثة إنها تواصلت مع جميع الأطراف في محاولة منها للتوصل إلى إنهاء الأزمة السياسية والأمنية في البلاد من خلال الحوار، ودعت جميع الأطراف المؤثرة لبذل المزيد من الجهود لوقف العنف والاقتتال وإتاحة المجال أمام الحوار الذي سيشارك فيه جميع الفرقاء.

في السياق ذاته، دعا د. علي الصلابي عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، أطراف الأزمة الليبية إلى ضرورة الجلوس إلى طاولة الحوار لحل الخلافات وإلى عدم الارتهان للخارج، وأدان الدور الذي تؤديه دول إقليمية لعرقلة الحوار الليبي الداخلي، مرحباً بالدور الجزائري في رعاية الحوار الوطني الليبي، مشيراً إلى الدور الإيجابي الذي يمكن للجزائر أن تؤديه في حل الأزمة السياسية.

وقد رجح مراقبون فشل حوار «غدامس في ظل تعنت الأطراف المعنية وإطلاقها شروطاً تعجيزية، حيث اعتبر مجلس النواب في طبرق أن تمسك ميليشيا فجر ليبيا بشرعية المؤتمر الوطني العام المنتهية ولايته سيساهم بشكل كبير في عرقلة المشاورات من أجل بلورة حلول عاجلة للأزمة، فيما اعتبر الطرف المقابل أن مجلس النواب قد انتهت شرعيته بحكم المحكمة الدستورية، غير أن الكثير من المحللين السياسيين فنَّدوا هذا الحكم بالقول إن حكم المحكمة كان نتيجة لضغوط المتشددين بقوة السلاح.

تمثل فرصة الحوار الوطني التي أضحت الشغل الشاغل للساحة السياسية الليبية الآن، فرصة ذهبية لجميع الأطراف، وهي مطالبة بالالتفاف حول الحوار كأضمن الطرق نحو إنجاح الانتقال السياسي. فأوضاع ليبيا الراهنة لم تعد تحتمل مزيداً من الصراع، لذلك ينبغي أن يعمل الجميع على إنجاحها، حتى يتوقف نزف الدم والموارد التي أصبحت السمة الغالبة على حال البلاد.

إن فرص نجاح الحوار الوطني تتوقف على مدى التنازلات التي ينبغي أن يقدمها الأطراف المتحاورون، ومدى المرونة التي يجب أن تبديها الأطراف السياسية والمسلحة. حتى لا تضيع هذه الفرصة التي يبدو في حال فشلها أن البلاد ستنزلق إلى مستنقع الفوضى.

وعلى جميع الأطراف السياسية والحركات المسلحة أن يكونوا حُصفاء في هذه المرحلة الحرجة، وأن يتسموا بالمرونة التي تضمن أمن البلاد واستقرارها، وعلى وجهاء وحكماء القبائل أن ينشطوا في أداء مهمتهم التي ينتظر الشعب والوطن منهم أداءها، وهي أن يكونوا مقربين لوجهات النظر بين الفرقاء السياسيين.

من هنا يصبح نجاح عملية الانتقال الديمقراطي مرهوناً بعملية التوازنات والتوافقات. هذه التوازنات والتوافقات تبدو أصعب نيلاً بفعل تراكمات ما جرى في مرحلة الثورة، مثلما يجعلها التدخل الخارجي هدفاً صعب المنال، على جميع المستويات، وتسير إلى كثافته وتقر بوجوده كل أطراف اللعبة السياسية.

تبدو آفاق نجاح الانتقال الديمقراطي في ليبيا رهينة لهذه الأنساق من القيم السائدة، وهو ما يجعل تمكُّن الليبيين من إنجاح العملية الديمقراطية محفوفة بالمخاطر.

ومن هنا ضرورة التشديد على مجموعة من القضايا أهمها:

1 – أهمية توافر إرادة سياسية لدى الأطراف، تتبلور في إطار بناء مؤسسة أمنية وعسكرية وفق أسس وطنية بعيداً من الولاءات والمصالح الفئوية والمناطقية الضيقة، والاهتمام بقضايا الأمن والخدمات، ومحاربة الفساد والإفساد.

2 – السير على نهج التعددية السياسية من أجل الوصول إلى تعددية حزبية حقيقية، وخلق واقع ديمقراطي يتجاوز القبلية والمناطقية.

3 – مصالحة وطنية شاملة بين كل الأطراف الليبية من أجل تحقيق الديمقراطية الحقيقية، والانتقال الديمقراطي السليم.

4 – اعتماد خطاب إعلامي وسياسي يقوم على العقلانية والتسامح وعدم تأجيج المشاعر والكراهية، وتعزير رؤية التعايش المشترك في إطار احترام التباين في الرؤى.

5 – عدم إغفال دور الجماعات المتشددة في تحرير البلاد من قبضة النظام السابق، ومساهمتها في المحافظة على أمن المدن، والانطلاق من فرضية أنهم ليبيون يمكن أن تتحول طاقاتهم إلى عمل نافع يسهم في تعزيز أمن البلاد وتطورها.

6 – حث جماعات العنف المتشددة على التحول إلى مؤسسات مدنية تعبّر، كيفما شاءت، عن أفكارها بشكل سلمي، ويتطلب ذلك تبني استراتيجية متعددة الآجال، الطويل منها والقصير، تتضمن تطوير مناهج التعليم، وتطوير وسائل الإعلام، وتحقيق العدل الاجتماعي والاقتصادي والشفافية والمحاسبة، وحفظ الحقوق السياسية والمدنية واحترام القيم والمبادئ الإسلامية، وتضمين كل ذلك في دستور لكل الليبيين.

7 – الحرص على عدم تدخل القوى الخارجية، الإقليمية والدولية، والغربية بشكل خاص، في السياسات الداخلية والخارجية للنظام الجديد في ليبيا، بما يسهم في تحقيق مصالحة وطنية بين كل مكونات المجتمع الليبي.

خاتمة

كارثة الأوضاع الأمنية التي تمر بها ليبيا في ظل غياب المؤسسة العسكرية الفاعلة المبنية على أسس وطنية تركت الساحة الليبية مرتعاً لفوضى جماعات العنف والميليشيات المسلحة المتناحرة على اختلاف مسمياتها بأبعادها السياسية والمناطقية وفق حسابات ضيقة الأفق، ما ساهم في تعثر المسار الديمقراطي، وجعل الساحة الأمنية أكثر انكشافاً على تجاذبات إقليمية ودولية تحاول تسجيل وقائع ترجح كفة توجهاتها المصالحية، في ضوء الحراك الشعبوي التي تمر بها الساحة الليبية.

كل ذلك يستدعي الاهتمام بإعادة بناء المؤسسة العسكرية وفق أسس وطنية لتجنيب البلاد ويلات استمرار العنف، حيث إن أكبر تهديد في الواقع يتصل بالفشل في عدم التوصل إلى توافقات حول التوجهات والمسائل الرئيسية المتصلة بالانتقال الديمقراطي، الذي يبدو مهدداً باستمرار الانتهازية السياسية لأطراف اللعبة الداخلية متمثلة بجماعات العنف المتشددة الواقعة تحت تأثير العامل الخارجي.

أحد أهم محددات النجاح يتعلق بالتنبّه إلى الانكشاف الأمني والسياسي الناتج من صراع بين قوى ثورية وقوى انقلابية تسعى إلى العودة إلى السلطة مستفيدة من نهم التدخل الخارجي الكبير لتثبيت أركان قوتها في الساحة الليبية. أما الأمر الأكثر أهمية، فيتعلق بحدود قدرة النظام السياسي في ليبيا على بناء بيئة ديمقراطية تقلص اللجوء إلى العنف.

إن نجاح ليبيا في إتمام عملية ديمقراطية حقيقية بعد ثورة 17 فبراير والتغلب على حالة الاستقطاب الحالية، سيكون فارقاً في إعادة تعريف السيناريو الديمقراطي، ويعتمد قدرٌ كبيرٌ من مستقبل الديمقراطية على مخرجات حالة الاستقطابات والتجاذبات الراهنة بين بعض تيارات الإسلام السياسي والتيارات العلمانية والتي ستمثل اختباراً حقيقياً لمدى قدرة النظام السياسي في ليبيا على دمج جماعات العنف في العملية السياسية، فضلاً عن قابلية هذا التيار للاندماج التعددي أساساً.

من الحكمة أن يتمسك الجميع بالديمقراطية كآلية للحكم والحوار ونبذ العنف مع احترام حق التعبير والاختلاف، فبلا الديمقراطية لن نستطيع بناء «الدولة النموذج». وليبيا اليوم تحتاج إلى بناء اتفاق وطني عام على من يحكمها، وتحييد العامل الخارجي في صياغة مستقبلها، بما يجذب ولاءات المواطنين من مختلف المناطق والقبائل، ويكرّس لدولة القانون، مع ضرورة أن يترفع الجميع عن المصالح الخاصة، ويغلّب المصالح الوطنية العليا للبلاد والتكاثف حول خريطة طريق واضحة لإنقاذ البلاد من الدمار والسير نحو مستقبل أفضل لشعبها.

***

محمد عبدالحفيظ الشيخ – عميد كلية القانون، جامعة الجفرة ـــ ليبيا

_____________

مركز دراسات الوحدة العربية

مقالات