مليكة بوضياف

ثالثا، على الصعيد الداخلي:

يمكن القول إن القذافي استطاع طويلا الحفاظ على سلطته ونظامه، عبر سياسة فرق تسد، والتبشير بمجموعة من الأفكار شديدة العمومية التي ضمنها كتابه الأخضر ، وما عرف بالنظرية العالمية الثالثة، والتي استمدها من الأيديولوجيات المختلفة (عروبية، إسلامية، اشتراكية … الخ)

ومن القيم الأساسية للثقافة الليبية، منها شركاء لا أجراءو البيت لساكنهو الأرض ليست ملكا لأحد” … الخ)، والتي استطاع تأطيرها في مجموعة من المؤسسات ممثلة في المؤتمرات واللجان الشعبية، أضفت قدرا من الشرعية المؤسسية وقدرة على الضبط والسيطرة،

إضافة إلى استخدام النظام قدراته الاقتصادية التي توفرت له من عوائد النفط في نشر أفكاره وإيديولوجيته إلى مدى أبعد بكثير من قيمتها ومضمونها، وممارسة القمع الشديد ضد كافة صور ورموز المعارضة داخل وخارج البلاد، والذي بلغ قمته في التسعينيات من القرن العشرين، مستغلا في ذلك الحظر المفروض على التعامل مع النظام الليبي والذي حال دون تكشف تلك. الانتهاكات.

ومع ذلك استطاعت القبيلة أن تلعب ادوار كبيرة في العديد من الدول من أجل خدمة المصلحة العامة ومساندة القوى السياسية الوطنية على احتواء الأوضاع الجديدة، والعمل على إقامة حكم ديمقراطي في البلاد.

لهذه الأسباب تم احتواء القبيلة في ليبيا لمميزاتها التالية:

1 – أن القبلية ذات جذور ضاربة في عمق تاريخ المجتمع الليبي، ولها دور اجتماعي واقتصادي دائما ما كان دورا إيجابيا.

2- لعبت القبيلة الدور الرئيسي في البلاد قبل ميلاد الدولة الليبية الحديثة، وتحديداً في فترة الاستعمار الإيطالي .

3- دور القبيلة لا يعنى بالضرورة العداء والتعارض مع الدولة كسلطة ومفهوم، فالقبائل تقبل قيام الدولة الحديثة من أجل تحقيق التنمية والعدالة، وتأمين الخدمات الأساسية ورفع مستوى معيشة الفرد في ليبيا، وكل فرد هو ابن قبيلة.

4 لا تجد الزعامات والقيادات في القبائل والعشائر صعوبة في التعاون الجاد والبنّاء مع القيادات والنخب السياسية والفكرية المستقلة ذات التوجه الوطني.

الأهمية الكبيرة لدور القبيلة في ليبيا يرجع إلى عددها الكبير حيث تشير التقديرات إلى أن ليبيا تضم حوالي 150 قبيلة متفاوتة الأحجام ،وتنقسم بدورها إلى فروع قبلية ولكن هذا العدد يتضائل بسبب ارتفاع معدلات التحضر من جهة، والتداخل في تسمية المدن والمجموعات القبلية من جهة ثانية وقد عرفت الخارطة القبلية الليبية بعد ثورة الفاتح من سبتمبر تحالف بعضها، و بعد استلام القذافي للسلطة سعى لتقويض النظام القبلي، حيث اعتبره متخلفا مرتبطا بالممارسات الملكية الرجعية>

لم ينسجم النظام القبلي مع رؤيته التقدمية القومية ولا مع حقيقة أنه هو شخصيا كان ينحدر من قبيلة صغيرة وغير هامة نسبيا ونتيجة لذلك، وبعد فترة قصيرة من استلامه السلطة، اتخذ سلسلة من الخطوات لتعديل الحدود الإدارية التي كانت تستند إلى الخطوط الفاصلة بين القبائل وعزل جميع المسؤولين الذين كان الملك قد عينهم على أساس قبلي، ومع بذل الجهود للتحديث والتنمية الاقتصادية في السبعينيات وما نجم عنها من الهجرة على نطاق واسع مهن المناطق الحضرية، بات دور القبائل أقل أهمية، وهذا بفعل سياسة القذافي للحفاظ على طول فترة حكمه.

ومع ذلك بقت القبيلة تلعب ادوار كبيرة في المجتمع الليبي وهي متفاوتة الحجم والأهمية من منطقة إلى أخرى، يمكن أن نسلط الضوء على أهم القبائل في هذه الورقة البحثية كمت يلي :

نجد إن هذه القبائل تتوزع في ليبيا على الشكل التالي:

  • قبيلة أولاد سليمان في الجنوب الليبي

  • وقبيلة البراعصة شرق ليبيا

  • وقبيلة ورفلة، وهي تعد أكبر القبائل الليبية عددا وانتشارا جغرافيا، وتبلغ عدد سكانها نحو مليو نسمة، وتتميز علاقات أفرادها بترابط اجتماعي وولاء قبلي متين، وتتركز خاصة في غرب ليبيا.

  • قبيلة القذاذفة في الوسط والجنوب ومركزها الرئيس في سبها وتعد من أكثر القبائل تسليحا

  • قبيلة المقارحة: تتمركز هذه القبيلة في وادي الشاطئ في الوسط الغربي لليبيا وينحدر منها عبد السلام جلود الرجل الثاني في النظام الليبي الذي أبعده القذافي عام 1993، وكذلك عبد الله السنوسي الرجل الثالث في نظام القذافي, وعبد الباسط المقرحي المتهم في قضية لوكربي الذي أطلق سراحه في صفقة أثارت الكثير من الجدل, وتعتبر هذه القبيلة أيضا من أكبر القبائل الليبية تسليحا.

  • قبيلة ترهونة: وهي تضم عددا كبيرا من القبائل الفرعية يقدرها البعض بنحو 60 قبيلة، وتتمركز في منطقة ترهونة في الجنوب الغربي لطرابلس، وينتمي إلى هذه القبيلة فئة واسعة من ضباط القوات المسلحة الليبية، ويشكل عناصرها حوالي ثلث سكان العاصمة طرابلس.

إضافة إلى الأمازيغ في جبال غرب البلاد، والطوارق في دواخل الصحراء المجاورة لتشاد و النيجر و الجزائر ومالي.

أما ما يعرف بقبيلة التبو فتستوطن مناطق اوزو غدامس والقطرون جنوب البلاد والكفرة جنوب شرق ليبيا.

ولان الشعب الليبي ذاق همجية وغطرسة القذافي فقد اجتمعت القبائل الليبية على قلب رجل واحد فبعد أن قررت قبيلة ورفلة الانضمام إلى المعارضة والثوار ضد تصرفات القذافي انضمت قبيلة ترهونه وقبيلة الزوية في حنوب ليبيا وهي البقعة النفطية الهامة وكذلك قبيلة الزنتان وقبيلة بني الوليد وقبيلة العبيدات والمقارحة وأولاد سليمان لوضع حد للدكتاتورية.

وقد شهدت قبيلة القذاذفة نفسها انشقاقات وانقسامات نظرا لسقوط العديد من الضحايا والقتلى من الشعب الليبي من اجل الانتقام للنظام.

وإذا أردنا أن نبحث عن طبيعة المتغيرات المختلفة التي تعكس حقيقة استمرار «نظام» القذافي على امتداد أكثر من أربعة عقود، فلا يجب إغفال حقيقة البعد القبلي.

وما زاد من انتشار النفوذ القبلي في العملية السياسية، وإن كان بشكل غيرسمي في المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية باعتبار أن القذافي كان، ومن خلال عمليات التصعيد والاختيار الشعبي منذ سنة 1977 يعتبره مصدرا للشرعية له ولثورته وما وصوله إلى السلطة إلا نتيجة لضعف الملكية آنذاك وليس بدعم شعبي قوي لأنه كان ينحدر من قبيلة ضعيفة، حينها بدا العمل من منظور أيديولوجي يضفي الشرعية على النظام وينزع أي سلاح من أيدي منتقديه.

وفي هذا السياق يرى برهان غليون أن نظام القذافي هو من خلق حالة الفوضى وأطلق فزاعة الإنقسام القبلي، بهدف مواصلة سيطرته على الشعب الليبيوقال:

إن غياب أحزاب في ليبيا ربما يجعل مهمة الشعب الليبي صعبة قياسا لحالتي تونس ومصر، ولكنه ستمكن بفض نخبه وقياداته من القيام بها، وفكر القبيلة لا يعني بالضرورة العداء والتعارض مع الدولة، فالقبائل تتفاهم وتتعاقد على قيام الدولة“.

أما عن الأقليات في ليبيا فيوجد عدد قليل من الأقليات الصغيرة التي رفض نظام القذافي الاعتراف بها. ولهذا الموقف عدد من التفسيرات: فالأقليات لا تنسجم مع الأيديولوجيا القومية العربية للنظام؛

ولأنه إذا تم الاعتراف بهذه الأقليات فقد تطالب بالتمثيل وهو أمر مرفوض في الجماهيرية من حيث المبدأ؛ وبشكل أكثر عمومية، فإن القذافي كان مصمما على منع ظهور أي مركز سلطة بديل لسلطته.

يشكل البربر، الأقلية الأكثر أهمية. ما يعرفون بالأمازيع في ليبيا كانوا في الأصل يقطنون سهل جفارة في الشمال الغربي، حيث كانت زوارة مركزهم الرئيسي. لكن، ونتيجة لعمليات الغزو العربية، فقد تم دفعهم تدريجيا باتجاه المناطق الداخلية في الغرب الليبي، رغم أن مجموعات كبيرة منهم لا زالت تعيش في جبل نفوسة وزوارة ومضت عملية تعريب البربر بشكل أكثر سرعة واكتمالا مما تم في أي من بلدان المغرب العربي الأخرى.

قام النظام بقمع أي علامة على النشاط الأمازيغي في أوخر السبعينيات، على سبيل المثال، شنت الأجهزة الأمنية موجة اعتقالات ضد رابطة شمال أفريقيا الأمازيغية ومحاكمة رئيسها «علي الشروي بن طالب»، وبعض رفاقه من قبل المحاكم الثورية وحكم عليه بالإعدام.

واجه الأمازيغ أشكالاً مختلفة من التمييز مثل القانون 24 لعام 2001 يمنع أن يعطى الأطفال أسماء غير عربية وأي طفل يحمل إسما غير عربي لم يتم تسجيله من قبل الدولة وبالتالي يحرم من التعليم، كما عمل النظام إلى جعل الأمازيغ يتزوجون من غير البربر من أجل القضاء على إحساسهم بالهوية.

بالاضافة إلى أقليات من التوارق والتبو ، وهم شعب بدوي رعوي يقطن مناطق متجاورة داخل المناطق الصحراوية ويتواجدون أيضا في الجزائر ومالي والنيجر وبوركينا فاسو، ويقدر عددهم في ليبيا بـ 10 ألاف شخص، معظمهم في الواحات الصحراوية مثل غات وغدامس ومرزق في الجنوب الغربي.

أما التبو يتواجدون بشكل رئيسي في سلسلة جبال تيبستي على الحدود بين جنوب ليبيا وشمال تشاد وليس هناك تقديرات دقيقة لأعدادهم وقد ظهرت بعض المشاكل وبشكل منتظم بينهم وبين القبائل العربية في الجنوب مع تزايد أعداد التبو الذين عبروا الحدود في جنوب ليبيا واستقروا في بلدات الكفرة أو في مراكز أصغر مثل تغرو و أم الأرانب>

وبعد ان استقروا، بدأوا ببناء بيوتا في مخيمات غير قانونية وبدأوا البحث عن العمل وكانت النتيجة تنامي الإستياء بين السكان العرب المحليين حتى وصلت إلى حد صدامات في الكفرة في نوفمبر 2008، بين التبو وزوية وهي أكبر وأقوى قبائل المنطقة.

وما زاد الأوضاع سوءا في ليبيا في فترة القذافي بعدما احتلت سنة 2010 المرتبة 146 في الفساد من بين 178 دولة طبقا لمؤشر الفساد العالمي ،ويعكس ذلك أساسا الطريقة التي يتم بها اقتسام الثروة البترولية في البلاد>

فالعوائد السنوية من البترول والغاز كانت تؤول في جزء كبير منها إلى عائلة القذافي وان كبار المسؤولين بشركات البترول والبنوك يلعبون دورا مهما في إيداع هذه الأموال في الحسابات الخاصة بالقذافي وأسرته ومعاونيه، وهي الأموال التي كان يتم استخدام جزء منها لتمويل حركات التمرد في عدد من دول إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، فضلا عن شراء الأعوان في الداخل والخارج.

يتبع

***

مليكة بوضياف ـ دكتوراه في علوم سياسية، من كلية الحقوق والعلوم السياسية، الجامعة الجزائرية

______________

مقالات