مليكة بوضياف

الإنتقال إلى الدولة المدنية بالحفاظ على النسيج القبلي

منذ قيام الانقلاب العسكري في ليبيا سنة 1969 لازال النظام الليبي يعتمد على القبيلة بين المغازلة والمهاجمة وبين التوظيف والتعنيف وتظهر تناقضات عديدة في هذه الدولة.

إن توظيف القبيلة الذي يعتبرها النظام الليبي الهيكل الاجتماعي الأقدر على احتضان الأفراد والتحكم في مساراتهم السياسية في ظل غياب تنظيمات مدنية كالأحزاب والنقابات والجمعيات، جعل لها دور كبير في المجتمع الليبي.

لذا يرى المراقبون والمحللون السياسيون أن ليبيا في ظل هذه الظروف لا يمكن أن تشهد التغيير والحراك لأن ثرواتها كفيلة بألا تجعل الشعب الليبي يثور، غير أن الليبيين أنفسهم كان لهم رأي آخر، حيث تصاعدت الاحتجاجات ضد النظام السياسي لتصل إلى صدام مسلح مفتوح بين النظام ومعارضيه، كاشفة الستار عن أسباب أخرى كانت تحت الرماد دفعت الليبيين لاختيار الثورة رغم الثروة.

وبهذا ذهبت ليبيا في فبراير 2011 إلى ميدان الحراك الشعبي لتطوي صفحة من عقود الديكتاتورية، وذلك عندما كسرت جموع الثوار حلقة الخوف، وأشعلت ثورة امتد أوارها في كل ربوع المواجهة مع القذافي الاستبدادي، نادت آمال المحتجين واسعة النطاق إلى إقامة ديمقراطية تضع في اعتبارها الإنسان وحريته أولا.

بيد أن آذان النظام لم تستجب كما هي حال الدكتاتوريات الصماء، بدأت هذه الاحتجاجات سلمية جًدا، ولكن عجرفة القذافي وتعاليه على شعبه ألهب نخوة العزة فرمت بالقذافي إلى مقبرة الظلم من خلال انتفاضة مسلحة بينها والنظام الهالك.

تسعى هذه الورقة إلى تسليط الضوء على مسار الثورة، مع إبراز دور القبيلة في إعادة بناء الدولة في أهم التحديات التي تواجه بناء الدولة في ليبيا بين العشائرية القبلية والتوجه المدني، مع تبيان أهم القوى الإقليمية والدولية في الإنتقال الديمقراطي وما مصير المصالحة الوطنية مع ضرورة الاستفادة من تجارب الدول المجاورة في هذا الشأن.

وعليه يمكن طرح الإشكالية التالية:

  • فيما تكمن أهم الأسباب الداخلية والخارجية في تعقيد الوضع في ليبيا وفيما يبرز البعد القبلي في هذا الصراع؟
  • فيما تتمثل أهم الجهود التي يبذلها الليبيون و المجتمع الدولي لإيجاد حل للأزمة؟

للإجابة عن هذه الإشكالية ارتأينا وضع ثلاث محاور تندرج تحتهم عناصر أساسية نبينها فيما يلي:

المحور الأول: دور القبيلة في إعادة بناء الدولة في ليبيا، وتصعيد الصراع العسكري.

المحور الثاني: أهم التحديات التي تواجه بناء الدولة في ليبيا.

المحور الثالث: مستقبل بناء الدولة في ليبيا : في ظل سيناريوهات متباينة

*******

المحور الأول: دور القبيلة في إعادة بناء الدولة في ليبيا، وتصعيد الصراع العسكري.

يتشكل النسيج الاجتماعي في ليبيا من عدة قبائل متآلفة وتتعايش فيما بينها في مناخ من السلم الأهلي الذي وفّر أرضية اجتماعية وثقافية محافظة ومتضامنة بعيدا عن أي نوع من أنواع النزاع أو الفوضى، وتعود جذور تلك القبائل إلى العرب بدرجة أولى وإلى الأمازيغ بدرجة ثانية، بحيث تُعرّف القبيلة: اصطلاحا على أساس انتمائها الثقافي والاجتماعي لمجتمع البدو، وتوجد التنظيمات القبلية بأشكال مختلفة بين البدو والرحل وفي القرى الفلاحية والمدن.

أن القبيلة تفهم أساسا على قاعدة شكلها الجماعي الذي يربط الفرد كذات وكموضوع بالجماعة.

من الجانب السياسي تعمل القبيلة من خلال أفعالها وأنشطتها السياسية للوصول إلى السلطة بالتأسيس للدولة بالمفهوم المعاصر.

وعلى الرغم من استقرار ليبيا في فترة زمنية كبيرة إلا أن ، الكثيرين من داخل ليبيا وخارجها يرون إنه منذ استيلاء القذافي على السلطة بانقلاب عسكري ضد الملك إدريس سنة 1969، فقدت ليبيا فرصا عديدة لنهضة شعبها وتقدمه.

فالحكم الشخصي الذي اعتمد على عائلة القذافي ودائرة ضيقة من المقربين والأتباع، أدى إلى حرمان الجماهير˼ العريضة من عوائد الثروة في بلادهم، بل استخدم تلك الثروة في شراء الأنصار، وترويض المعارضة أو قمعها.

وهو ما دفع الليبيين للخروج في عمليات احتجاجية تفاوتت قوة وضعفا عبر الزمن وصولا إلى الصدام المفتوح مع النظام وأنصاره في منتصف فبراير 2011م، بفعل شعورهم بعدم العدالة في توزيع الثروات، وأن خيرات بلادهم يتم نهبها دون أن يحصلوا منها إلا على الفتات.

إضافة إلى تعارض برامج الإصلاح التي قادها رئيس الوزراء شكري غانممن 2006 إلى غاية 2008 مدعومة من سيف القذافي، مع مصالح بعض قيادات الحرس القديم من اللجان الثورية، ورجال الأعمال الذين تضررت مصالحهم بفك الحصار عن ليبيا والانفتاح على الغرب، والتي قادت إلى استقالة شكري غانم وتولي نائبه البغدادي المحمودي ذي التوجه المحافظ.

أولا، على صعيد البعد القبلي:

يمكن القول إن العقيد القذافي وإن كان ـ في بداية حكمه ـ قد جعل إلغاء نظام القبلية واحداً من المبادئ الأساسية لثورته، إلا أنه بعد نحو ربع قرن من الحكم وتحديدا في سنة 1994م، ورغبة في ضخ مزيد من الحيوية والمشاركة الشعبية في مؤسساته الشعبية، قام بإنشاء لجان شعبية للقيادات الاجتماعية، قوامها الأساسي القيادات القبيلة.

وهو ما ترسخ وازداد وضوحا سنة 1997م مع توقيع قادة القبائل على ما عرف بـ »وثيقة الشرف» التي تعهدوا بمقتضاها بالولاء للنظام الثوري، والتكاتف ضد أي عشيرة أو قبيلة تقوم بأي معارضة مسلحة للنظام.

وكثيرا ما استغل الخصومات الداخلية بين القبائل من أجل إحكام قبضته على السلطة، وخلال مدة حكمه انشأ « القذافي» شبكة من المؤسسات المتناحرة، يتلاعب بهم في مقابل بعضهم البعض لمنع ظهور أي منافس له.

وإضافة إلى هذا فان الشعب الليبي يُعد من أكثر الشعوب العربية والإفريقية انسجاما دينيا ومذهبيا، وعلى الرغم من وجود نسبة قليلة من الأمازيغ إذ تبلغ حوالي 3% لم تشهد البلاد أي شكل من أشكال الصراع الثقافي أو التوتر الاثني.

وهو ما يعني أن ليبيا تمتلك من عوامل القوة الاجتماعية والثقافية أكثر مما تمتلك من عوامل التفرقة، وعلى الرغم من كل ذلك فقد تفجرت صراعات ونزاعات بعد فبراير 2011، وتعود تلك الصراعات والنزاعات إلى عدة عوامل.

ثانيا، على الصعيد السياسي

يمكن القول إنه عبر عقود حكم القذافي تآكلت شرعية النظام الليبي، والتي تمثلت في ركائز أساسية، وهي: الثورية القومية، والمساواة والعدالة الاجتماعية، وشرعية الكرامة والهوية الوطنية،

يتبع

***

مليكة بوضياف ـ دكتوراه في علوم سياسية، من كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة جزائرية

______________

مقالات