مصطفى عمر التير

مقدمة:

الهجرة القسرية هي إحدى أهم المشكلات الاجتماعية الملازمة للمجتمعات التي تتعرض لحروب خارجية أو داخلية.

وتعاني ليبيا منذ عام 2011 هذه المشكلة، التي تعد من بين نتائج انضمام ليبيا إلى بلدان الربيع العربي.

منذ انطلاقها، تميزت ثورة 17 شباط/فبراير 2011 بالعنف وبالتدخل الأجنبي. ومع أنها ثورة بادر بها الشباب المحلي، إلا أنها استقطبت وبسرعة فئات مختلفة من كبار السن من المنتسبين لجهازَي الجيش والشرطة، وآخرين قدموا من الخارج وخصوصاً العناصر الليبية التي انضمت إلى الجماعات الجهادية في أفغانستان والعراق.

لم يقبل القذافي بما بدا واضحاً أن المنطقة تمر بمرحلة حراك اجتماعي من نوع جديد. انتقد حراك تونس، ولما وصلت ثورة الشباب إلى مصر انتقدها هي الأخرى، وكان طبيعياً أن يستنكر بشدة خروج الشباب الليبي في تظاهرات، لذلك وصف المتظاهرين بأقذع الصفات، وأطلق العنان لكتائبه الأمنية باستخدام العنف.

لم يستسلم الشباب ومن انضم إليهم، وقرروا السير قدماً، لتحقيق الشعار الذي سُمع في المنطقة العربية لأول مرة «الشعب يريد إسقاط النظام».

انتظموا في فرق (كتائب) مسلحة، وردوا على إطلاق النار بالنار، وتطور الصدام إلى حرب أهلية بدعم دولي، بعد صدور قرار مجلس الأمن الرقم (1973)، الذي تضمن فقرة اعتبرتها الدول المؤيدة للتدخل في الثورة الليبية، غطاءً شرعياً لتدخل عسكري لحماية المدنيين‏.

وتحول المشهد إلى حرب أهلية استمرت زهاء 246 يوماً. انقسم الليبيون إلى قسمين متخاصمَين، وعمل كل قسم على تحشيد أكبر عدد ممكن من المؤيدين، يسيرون في مسيرات كبيرة، ناعتين الطرف الآخر بأقذع الصفات.

يفترض أن الصدامات المسلحة ستتوقف عند انتصار الثورة وانتهاء عهد القذافي. لم يتحقق هذا الفرض، وبدلاً من ذلك، عمت البلاد حالة من حالات الفوضى العارمة، بسبب الانتشار الواسع للسلاح في أيدي أعضاء الفرق المسلحة (الميليشيات)، الذين رفضوا تسليم أسلحتهم، وإتاحة الفرصة للحكومة الجديدة لكي تنظم جهازَي الجيش والشرطة.

ودخلت هذه الكتائب في حروب بعضها ضد بعض بهدف الاستحواذ على المناصب الحكومية المهمة، وتوجيه قرارات الدولة نحو خدمة مصالحهم الخاصة، والتحكم في المال العام.

وكذلك انطلقت بعض حروب الميليشيات نتيجة مشادات بسيطة بين عنصرين ينتميان لميليشيتين مختلفتين، ونتج من كل حرب من تلك الحروب تدمير أصول اقتصادية، وتهجير سكان، وارتفاع أعداد المهجرين قسرياً.

بدأت ظاهرة هروب السكان العزّل من ساحات القتال منذ الأسابيع الأولى لانطلاق الثورة، وتمثلت ببعض قيادات اللجان الثورية في المنطقة الشرقية الذين كانوا ضمن الدوائر القريبة من مراكز صنع القرار، وتورطوا في عمليات تسببت في أضرار مادية أو بشرية ضد بعض الأسر، واتجه معظمهم نحو مصر.

كانت أعداد الذين أُجبروا على ترك مساكنهم بسيطة، ولكنها أخذت في الارتفاع كلما اتسعت رقعة المناطق التي أصبحت ساحات اقتتال.

البعض خرج من البلاد، بينما فضل البعض الآخر البقاء في الداخل، وذهب إلى مدن ليبية عُدّت آمنة.

كما يلاحظ أنه صاحب عمليات تهجير السكان بالقوة خطاب عدواني مثير للنعرات وشديد الكراهية، استخدمته الجماعة المعتدية لتبرير ما تقوم به من فعل لا تقره الثقافة السائدة.

ما تأثير هذه الظاهرة في ظروف العيش المشترك بين الليبيين؟

وهل العداوات التي نتجت بين الجيران تُعَد خلافات من نوع تلك التي كانت تحدث بين القبائل في السابق، وتُحَل عن طريق لجان المصالحة التي يتولاها زعماء تقليديون، وبعبارة أخرى تُحل على مستوى المجتمع الأهلي؟

أم أنها عداوات من نوع جديد، وستستمر زمناً طويـلاً، وتقود إلى حالة من حالات تشظي النسيج الاجتماعي، بل وحتى إلى تمزق وحدة المجتمع؟

ستبذل محاولة لتقديم ولو إجابة محدودة لهذه الأسئلة، من طريق استعراض عدد من حالات تهجير السكان بالقوة وبعض تداعياتها.

وقبل أن نقوم بهذا سنحدد في عبارات مختصرة معاني عدد من المفاهيم الرئيسة التي سنوظفها، ومنها:

(1) الهجرة القسرية: ونقصد بها عملية إرغام عدد من الأفراد المستقرين في مكان جغرافي معين على المغادرة والاستقرار لفترة زمنية في مكان آخر، وبالنسبة إلى ما حدث في ليبيا فإن هذا النوع من الهجرة، حدث بسبب الصراعات المسلحة، التي عرفتها البلاد منذ اندلاع ثورة 17 شباط/فبراير 2011 ولا تزال مستمرة، وشملت مئات الألوف من السكان.

(2) خطاب الكراهية: وهو عبارة عن كلمات وجمل تحمل معاني التحقير والإهانة، والاستهزاء والتهديد باستخدام العنف بمختلف أشكاله، بما في ذلك الطرد والاعتداء بالضرب أو القتل.

(3) النسيج الاجتماعي: الذي يشير إلى الحالة التي عليها شكل العلاقات الاجتماعية لجماعة بشرية، تزاول أنشطتها اليومية في فضاء ديمغرافي يجمعها، لتحقيق أهداف عامة مشتركة في مختلف مجالات الحياة. وللمحافظة على حالة صحية للنسيج، يتعاون أعضاء الجماعة على تفعيل الممارسات والوسائل التي من أجلها العمل على تقوية الروابط الاجتماعية بين أعضاء الجماعة وتقويتها.

(4) التشظي الاجتماعي: يعني التشظي وجود معوقات تتسبب في عرقلة عملية التفاعل الاجتماعي بين أعضاء الجماعة، وتحد من عمليات التعاون لتحقيق الأهداف المجتمعية، وقد ينتج من هذه الحالة صراعات وصدامات وتباعد أعضاء الجماعة عن بعضهم، بل والمشاركة في أنشطة من شأنها هدم أي صورة من صور العيش المشترك.

لن تتعرض الدراسة لأعداد المهجرين، ولا للأماكن التي التجأوا إليها، أو وصف ظروف أوضاعهم المعيشية المزرية، إلا بالقدر الذي يساهم في توضيح مشكلة البحث المتمحورة حول: وصف الآثار السلبية لهذه الظاهرة على النسيج الاجتماعي الليبي.

يتبع

***

د. مصطفى عمر التير ـ باحث ليبي في علم الاجتماع، نال شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة مينيسوتا الأميركية (1971). درّس في جامعات ليبية وأميركية مختلفة، وكان مديرًا لمعهد الإنماء العربي، وعضوًا في اللجنة الاستشارية بالهيئة القومية الليبية للبحث العلمي، وعضوًا في منتدى التعليم العالي بمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو).

________________

مقالات