عمر الكدي

هذا الشعار لا يمكن أن يرفعه إلا نمط الإنتاج البدوي، أما بقية الأنماط فإنها تقاتل وتفاوض وتستسلم.

إدريس السنوسي فاوض بين عامي 1917 و1921، ووصل مع الطليان والإنجليز إلى اتفاقية عكرمة، ثم اتفاقية الرجمة حيث تنازل للطليان عن شمال برقة مقابل جنوبها.

و عمر المختار فاوض الإيطاليين بشكل مباشر وهو يقاتل، في عام 1929 في سيدي رحومة، ولكن المفاوضات وصلت إلى طريق مسدود.

احتل الإسبان طرابلس بسهولة نسبية بقيادة بيترو دي نافارا عام 1510، بعد أن احتل مدينة بجاية في الجزائر، التي احتلها يوم 5 يناير 1510، وأصبح ملكها بعد سجنه حليفًا للإسبان وفقًا لكتاب الحوليات الليبية لشارل فيرو، وشارك في الهجوم على بجاية 15 ألف جندي.

إلا أن تفشي وباء الطاعون بينهم أجبر دي نافارا على الانسحاب منها والتوجه إلى طرابلس، حيث وصلها ومعه خمسون سفينة وباشر إنزال قواته على البر فور وصوله، رغم المقاومة الشرسة من مقاتلي المنشية وفرسانها، بينما ساهم تجار ﻻ في الدفاع عن المدينة، وتمكن الإسبان البالغ عددهم 12 ألفًا من تسلق الأسوار واقتحام المدينة، وكان ذلك يوم الخميس 25 يوليو 1510.

وفقدت طرابلس ذلك اليوم 6 آلاف من المقاتلين والمدنيين، ووقع في الأسر 15 ألفًا وتحرير 180 إيطاليا كانوا في أسر الطرابلسيين، الذين تمكنوا من نقل حمولة خمسة آلاف جمل من ثرواتهم إلى خارج المدينة، إلا أن الإسبان جمعوا ثروة كبيرة، فطرابلس في ذلك الوقت كانت واحدة من أغنى مدن المتوسط، كما صادر الإسبان عدة سفن محملة بالبضائع قادمة من الإسكندرية واليونان وغيرها. كان ذلك قبل أن تتحول طرابلس إلى القرصنة البحرية تحت حكم الأتراك.

هي معركة واحدة وإذا خسرتها تستسلم المدينة.

يذكر أن الإسبان والبرتغاليين كانوا يحتلون المدن الساحلية، ولا يحتلون كل البلاد، ولا تزال سبتة ومليلية المغربيتان في أيديهم حتى الآن.

بنفس الطريقة احتلت إيطاليا طرابلس وبنغازي ودرنة في أكتوبر 1911، فبعد معركة الهاني وشارع الشط وأبومليانة استسلمت المدينة، وانتقلت المقاومة إلى عين زارة.

وبعد معركة جليانة والكويفية استسلمت بنغازي، وبعد معركة المرقب استسلمت الخمس، بينما احتلت مصراتة في يوليو 1912، وقبلها احتلت درنة في مارس من نفس العام بعد معركة سيدي عبد الله.

جميع المدن تستسلم بعد معركة فاصلة، أو تصمد صمودًا أسطوريًا، كما صمدت مصراتة عام 2011 أمام كتائب القذافي، فنمط إنتاج المدن لا يسمح للصمود مدة طويلة مثلما حدث في الزاوية في نفس العام، وقد ساعد على صمود مصراتة الحظر الجوي على سلاح الجو التابع للقذافي، ووجود ميناء كبير سيطر عليه المتمردون وهو ما لا تملكه الزاوية.

مع نهاية 1912 كانت إيطاليا تحتل الساحل الليبي كاملًا من زوارة إلى طبرق، بينما تجد قواتها صعوبة في التقدم إلى داخل البلاد، لأن نمط الإنتاج الثاني المعتمد على الزراعة المروية يستطيع الصمود أطول، فهو يملك مساحة أكبر تسمح له بالمناورة، كما أن طريقته في تخزين التموين تجعله يصمد أطول من المدينة، التي سيعاني سكانها المجاعة منذ اليوم الأول.

أما النمط الثالث المعتمد على الزراعة البعلية فيمكنه الصمود أطول من النمطين السابقين، خاصة أن هذا النمط موجود فوق تضاريس صعبة في الجبل الغربي وسفوحه، ولذلك لم تستطع القوات الإيطالية احتلال غريان من أبي غيلان، ولكنها تقدمت تحت الجبل حتى وجدت منفذًا في عمقه.

وهاجمت المدينة من غربها وجنوبها في معركة جندوبة يوم 23 مارس 1913، بينما احتلت ترهونة في يونيه 1915 بعد معركة وادي مُلغة وسوق الأحد، في حين احتلت بني وليد في نفس العام.

ولكن هزيمة القوات الإيطالية في معركة القرضابية، وانشغال القوات الإيطالية بالحرب العالمية الأولى، جعل كل الدواخل تنتفض ضد الطليان، ابتداء من قارة سبها ثم بني وليد وترهونة وغريان ومصراتة، ولم يبق تحت سيطرة إيطاليا إلا المدن الساحلية باستثناء مصراتة.

واضطرت إيطاليا لاحتلال المناطق المحررة مرة أخرى، ولم تبق المقاومة إلا في الجبل الأخضر وبادية برقة، مما جعل الجنرال غراتسياني يلجأ إلى اعتقال كل سكان الجبل في معتقلات سلوق والعقيلة، وهكذا أصبحت قوات المختار من دون حاضنة شعبية.

نمط الإنتاج البدوي يستطيع الصمود أطول، فهو يتنقل باستمرار وليس له مكان محدد يستقر به، قد يسيطر العدو على الأرض ولكنه لا يستطيع الاستقرار بها، بينما يهاجم البدو وينسحبون نحو الصحراء، هذا التكتيك أرهق الرومان في مواجهة الجرمنت، ولذلك أرسلوا فرقة أوغستا لتدمير مدينة جرمة، وهذا ما فعله غراتسياني بعد احتلال واحة الكفرة عاصمة السنوسيين.

في نمط الإنتاج المديني وأيضًا في نمط الإنتاج الثاني والثالث، وبسبب ظروف الحرب والفقر، لا يمانع بعض السكان في القتال مع القوات الغازية، كما أن العداوة بين أنماط الإنتاج تسرع في ذلك، فبينما كان الليبيون يقاتلون الطليان كانوا يقاتلون بعضهم.

فقوات مصراتة قاتلت السنوسيين في أجدابيا، وقاتلتهم في بني وليد بعد أن استولى عليها صفي الدين السنوسي.

كما قاتل الزنتان والرجبان من جهة، الأمازيغ وأولاد بوسيف والمشاشية من جهة أخرى.

وعندما انسحبت القبائل البدوية بعد هزيمتها في معركة جندوبة نهبت واحات فزان.

ونمط إنتاج الواحات هو الوحيد غير القادر على الدفاع عن نفسه، وخاصة إذا انسحبت القبائل البدوية المحاربة التي توفر له الحماية مقابل حصة في الإنتاج.

ولذلك ازدهرت مهنة الباندات في المدن.

ففي غريان تشكلت باندة عاكف مسيك.

وفي زوارة تشكلت باندة بن شعبان.

وفي جادو باندة يوسف خريبيش.

هذه الباندات المعروفة أما غير المشهورة فهي أكثر بكثير، تقريبًا جميع المدن الليبية شكلت باندات في الغرب والشرق والجنوب. وتقريبًا معظم القبائل حتى القبائل التي قاتلت مع المختار.

وبعد الاستقلال أغلق هذا الملف مثلما أغلق ملف المتعاملين مع جهاز ستازي في ألمانيا الشرقية بعد سقوط سور برلين، ومثلما سيغلق ملف الفلسطينيين المتعاملين مع قوات الاحتلال.

كما جندت إيطاليا 12 ألفًا من برقة وعددًا أكبر من المنطقة الغربية وفزان، قاتلوا معها في الحبشة والبلقان ووقع منهم أسرى بالآلاف بعد معركة العلمين، وهو العام الذي أطلق عليه الليبيون عام الأسرى.

الباندات ظاهرة تشبه ظاهرة المليشيات اليوم، وجميع من تورط في الباندات الإيطالية فلت من العقاب، باستثناء زعمائها مثل عاكف مسيك الذي اعتقلته القوات البريطانية ومات في سجن غريان، وإذا نجا قادة المليشيات اليوم من العقاب، فهذا يعني أن هذا الشعب لم يتطور أبدًا ويوقف جيناته المعطوبة، ولا يستفيد من الدروس التاريخية ومستعد لتكرار ما فعله سابقًا

ولهذا لم أستغرب تصريحات وزير الداخلية عماد الطرابلسي مؤخرًا، فهو يعيد ثقافة نفس نمط إنتاج جده، على الرغم من لقبه الطرابلسي، فإذا كان شعار البدوي ننتصر أو نموت، فإن شعار بقية أنماط الإنتاج «نقاتل لنعيش».

ونتعامل مع العدو لنعيش، وإذا وصلنا إلى السلطة نجبر الآخرين على سلوك نفس مسلك أجدادنا.

هذا ما فعله البدوي القذافي وما يفعله الزنتاني عماد الطرابلسي والزنتاني عمران القيب وزير التعليم العالي، الذي قال إن الزواج أهم من التعليم، فالزواج المبكر مهم في نمط الإنتاج البدوي، ويتولى المجتمع تعليم أبنائه، ففي هذا النمط لا يوجد تعليم عالي أو واطي.

________________

مقالات