يوسف لطفي
الحادي عشر: المشهد الميداني وتحالف فجر ليبيا
على الصعيد الميداني تمكنت قوات فجر ليبيا من حسم معركة طرابلس في غضون شهر ونصف فتم إعلان تحرير مطار طرابلس الدولي وطرد كتائب الزنتان من طرابلس في 24 أغسطس 2014 .
واستمرت في هذه الأثناء كتائب ثوار بنغازي في التقدم على الجبهة الشرقية حتى تاريخ 15 أكتوبر 2014 حين أجبرت على التراجع بعد انضمام كتيبة 204 بقيادة المهدي البرغثي – لعملية الكرامة قبل أن يشغل لاحقا منصب وزير الدفاع في حكومة الوفاق، وتحرك كتيبة 21 صاعقة وتشكيلات عسكرية أخرى لمهاجمة مواقع الثوار وسط المدينة تزامنا مع هذا الحراك، تحرك مسلحون مدنيون (ما يعرف بالصحوات) بآليات عسكرية لمهاجمة منازل الثوار فقاموا بحرقها وهدمها والتهجم على عائلاتهم في بيوتهم كما شهدت تلك الأيام عمليات تعذيب وإعدام لمدنيين لم تلق إنكارا من أي من القوى السياسية أو القبلية الموالية لعملية الكرامة وهو ما شكل صدمة لكثير من أهالي المدينة.
وفي ظل الصمت الدولي وتصاعد هذه العمليات أُرغم عدد كبير من أهالي الثوار ومن العائلات ذوي الأصول الغربية –قدر عددهم ب 200 ألف مواطن– على ترك المدينة والهجرة لغرب البلاد.
اختلف الوضع في درنة –شرق بنغازي– حيث كان للإسلاميين سيطرة كاملة على المدينة فأعلنوا عن تأسيس مجلس شورى مجاهدي درنة وضواحيها بتاريخ 12 ديسمبر 2014، واكتفت قوات الكرامة بشن غارات متفرقة على المدينة، وفرضت حصارًا خانقا عليها بالاستعانة بالقوى القبلية من المناطق المحيطة بها والتي تكن العداء لنسبة كبيرة من مكونات المدينة الاجتماعية لانحدارهم من أصول غربية.
كما شهدت المدينة قصفا مصريًّا راح ضحيته مدنيون في عامي 2015 و 2017، وقد استمر الحصار حتى بداية هجوم قوات عملية الكرامة على المدينة عام 2017.
برز تنظيم الدولة في مرحلة مبكرة في شهر أكتوبر 2014 واحتدت الخصومة بينه وبين مجلس شورى مجاهدي درنة حتى بلغت ذروتها في فبراير 2015 واندلع بينهما قتالٌ استمرَّ 10 شهور انتهى بسيطرة مجلس شورى درنة على المدينة وانسحاب تنظيم الدولة لمدينة سرت.
وهو الأمر الذي أثار شكوكًا حول جدية حفتر في محاربة التنظيم حيث قطع التنظيم 700 كيلومتر تقريبًا مرورًا بمناطق سيطرة قوات عملية الكرامة ونقاط تفتيشها دون أن تتعرض له القوات البرية أو الجوية.
عقب نجاح تحالف فجر ليبيا في السيطرة على طرابلس أطلقت بعثة الأمم المتحدة برئاسة برناردينو ليون دعوة للحوار بين الطرفين ولم تسجل الجلسة الأولى من الجولة الأولى من المحادثات في سبتمبر 2014 أو الجولة الثانية في أكتوبر أي نجاح يذكر إلا أنها زادت من حجم التصدع في تحالف فجر ليبيا.
فالعمليات العسكرية كما ذكرنا لاقت معارضة من شرائح واسعة في مصراتة وطرابلس فأحجمت كتائب كبيرة مثل الحلبوص ولواء المحجوب من مصراتة عن المشاركة في بداية الأمر بل إن بعض القيادات من مصراتة اتهمت بمنع الذخيرة عن كتائب الثوار أبرزها:
-
العقيد سالم جحا–معاون رئيس الأركان الحالي– والذي كان ملحقا عسكريا بسفارة ليبيا في الإمارات ثم انخرط في مفاوضات توحيد المؤسسة العسكرية نيابة عن حكومة الوفاق والتي تمت برعاية مصرية،
-
ومروان الحداد –آمر المنطقة العسكرية الوسطى حاليا
كما انخرطت في الحوار شخصيات بارزة شاركت في عملية فجر ليبيا وساهمت في نجاحها بشكل كبير على رأسها النائب في البرلمان فتحي باشاغا –وزير الداخلية الحالي– والتحقت شخصيات أخرى في مراحل لاحقة بركب عملية الأمم المتحدة بعد أن كانت تعارضها كعبد الرحمن سويحلي –رئيس المجلس الأعلى للدولة سابقا وهو كيان استشاري يوازي المؤتمر الوطني.
عزز نهج بعثة الأمم المتحدة من هذا الانقسام عبر اختيارها لأطراف دون أخرى للمشاركة في الحوار وعبر توسيع دائرة تواصل البعثة لتشمل عمداء البلديات والقيادات العسكرية ونشطاء سياسيين وهو ما عُد تجاوزًا فجا للسلطة (المؤتمر الوطني) وانتهاكا للسيادة وأحكام القضاء .
شكَّل موقف أطراف تحالف فجر ليبيا من تدخل بعثة الأمم المتحدة العامل الأهم في رسم ملامح المشهد وخارطة التحالفات في مرحلة ما بعد الانقلاب واندلاع الحرب.
فانقسم التحالف لتيارٍ مناهض لمسار بعثة الأمم المتحدة ويراه انتهاكا للسيادة والقانون وانحرافا عن مسار الثورة، وتيارٍ مناصر له يراه مخرجا من الحرب الدائرة والوسيلة الوحيدة لاستعادة الشرعية التي نزعها المجتمع الدولي عن المؤتمر الوطني، مثَّلَ الإسلاميين في التيار الأول أعضاءٌ سابقون في الجماعة الإسلامية المقاتلة ودار الإفتاء ومفتي الديار الليبية الشيخ صادق الغرياني ومثَّلَهم في التيار الثاني الجناحُ السياسي لجماعة الإخوان المسلمين (حزب العدالة والبناء)
أما على صعيد المكونات الثورية الأخرى فقد أيدت شخصيات بارزة من رجال أعمال وسياسيين وعمداء بلديات مسار الأمم المتحدة.
كما انحازت أكبر كتائب مصراتة وطرابلس لهذا التيار. وهو ما انعكس بدوره على الأحداث على الأرض فعُقدت مصالحات أوقفت زخم العمليات العسكرية في محيط قاعدة الوطية ومنطقة ورشفانة وغيرها من الجبهات.
كما أوقفت عملية الشروق التي أطلقها المؤتمر الوطني لتحرير الموانئ النفطية في الهلال النفطي في ديسمبر 2014 بضغط دولي ومحلي. وقد كان لوقف العمليات العسكرية والانسحاب من الجبهات أثرٌ كارثيٌّ على بعض المدن الصغيرة القريبة من الزنتان كمدينة ككلة التي عانت من التهجير وجرائم التصفية والقتل والاعتقال لكل المحسوبين على الثوار وتحالف فجر ليبيا، كما كان لها أثر سيئ على مناطق أخرى غرب طرابلس حيث كثرت جرائم الاختطاف والقتل على الهوية على يد “جيش القبائل”.
مرحلة مابعد السيطرة على طرابلس
شهدت مرحلة ما بعد السيطرة على طرابلس وانطلاق جولات الحوار برعاية الأمم المتحدة انحسارا كبيرا لنفوذ التيار المناهض لنهج البعثة الأممية في تحالف فجر ليبيا.
فقد مني هذا التيار بخسائر كبيرة على مستوى القيادات الميدانية حيث قتل الكثير منهم في المعارك الدائرة كما توفي أو اغتيل البعض الآخر في ظروف غامضة، ومن أبرزها كان مقتل كل من صلاح البركي ومصطفى المآزق في المعارك الدائرة، وفاة حمودة النعيرية إثر إصابته في حادث سير، ومقتل أكثر من 20 من القيادات العسكرية من الزاوية وصبراتة في حادثة إسقاط مروحية بالقرب من ورشفانة.
كما كان هناك حادثة تحطم مروحية أخرى في تونس كان على متنها القيادي البارز مفتاح الذوادي رئيس المجلس العسكري صبراتة وأمير الجماعة الإسلامية المقاتلة سابقا.
أما على الصعيد السياسي فقد حوصر التيار نتيجة مواقفه الرافضة للمسار السياسي الجاري فتم تنحية رئيس حكومة الإنقاذ عمر الحاسي بسحب الثقة منه من قبل التيار المناوئ في المؤتمر الوطني (الإخوان) وأضعفت الحكومة بسحب الوزراء عبر وعود بالمشاركة في الحكومة التوافقية القادمة كما قيد المصرف المركزي بنود الإنفاق مما دفع مزيدا من القوى العسكرية للانحياز للطرف الآخر.
الثاني عشر: الدور الأممي في إعادة تشكيل المشهد
بحلول بداية عام 2015 أصبح للبلاد حكومتان وبرلمانان. وفي حين أن معسكر الكرامة لم يتعرض لانقسام مؤثر بسبب هيمنة خليفة حفتر وحلفائه الإقليميين (مصر، الإمارات) على القرار السياسي.
شهد تحالف فجر ليبيا انقسامات كبيرة أدت لبروز تحالفات جديدة وأدت في النهاية إلى تفكيك الحكومة والبرلمان (المؤتمر الوطني) وبروز المجلس الرئاسي وحكومة الوفاق الوطني.
ومع بدء الجولة الثانية من الحوار في فبراير 2015 كانت الأطراف السياسية قد أعادت تموضعها في طرفين أحدهما يدعم المسار التفاوضي الذي رسمته البعثة والآخر رافض لمقترحات البعثة التي تتجاوز حكم الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا والذي اعتبر البعثة متحيزة للطرف الآخر.
وهو ما ثبتت صحته لاحقا في تسريبات صحيفة الجارديان لمراسلات رئيس بعثة الأمم المتحدة برناردينو ليون مع وزير الخارجية الإمارتي عبد الله بن زايد بتاريخ 31 ديسمبر 2014 والتي يقول فيها ليون لابن زايد : في رأيي أن الخطة بـ(عقد مؤتمر سلام ) أسوأ من إجراء حوار سياسي لأنه سيعامل الطرفين وكأنهما متساويين“
ويقول في نفس المراسلة “إنه لن يشمل كل الأطراف في الحوار السياسي وأنه يعمل على تقويض شرعية المؤتمر الوطني وأن كل خطواته تمت بالتنسيق مع أعضاء من برلمان طبرق وسفير ليبيا في الإمارات العارف النايض”.
كما قال إنه “يعمل على تفكيك التحالف القائم بين تجار مصراتة والإسلاميين”، ويختم ليون رسالته بقوله إنه عرض عليه منصبًا رفيعا كمستشار أعلى لكل بعثات الأمم المتحدة “للوساطة” وهذا سيمنح للإمارات تأثيرا على معظم بعثات الوساطة، لكن بالطبع إذا أردتم مني الاكتفاء بمنصبي في الأكاديمية الدبلوماسية سأرفض العرض”.
وعلى عكس المتوقع لم تحدث تسريبات الجارديان تبعات سياسية رغم خطورتها، فقد نشرت في نوفمبر 2015 أي بعد مغادرة ليون لمنصبه وبعد الإعلان عن توقيع الاتفاق السياسي (الصخيرات) بالأحرف الأولى في 11 يوليو 2015 والذي تم في ظل رفض المؤتمر الوطني لمسودة الاتفاق المقترحة .
على الرغم من رفض غالبية أعضاء برلمان طبرق والمؤتمر الوطني للاتفاق السياسي إلا أن بعثة الأمم المتحدة مضت في مسارها واختارت شخصيات سياسية ومسؤولين من الطرفين ( البرلمان والمؤتمر) لتوقيع الصيغة النهائية من الاتفاق في 17 ديسمبر 2015، وأُعلن عن أعضاء المجلس الرئاسي الذي شمل 5 نواب و 3 أعضاء مثلوا مناطق وأطراف مختلفة من الصراع وهم:
-
أحمد معيتيق رجل أعمال– يمثل مصراتة،
-
فتحي المجبري موالي لحفتر
-
وإبراهيم الجضران من منطقة الهلال النفطي،
-
وعلي القطراني ممثل حفتر،
-
وموسى الكوني كممثل للجنوب ،
-
عبدالسلام كاجمان –ممثل الإخوان– من الجنوب ،
-
عمر الأسود يمثل الزنتان،
-
محمد عماري ممثل التجمع الإسلامي من الشرق،
-
أحمد حمزة ممثل مؤيدي النظام السابق من الجنوب،
وجرى تنصيب فايز السراج عضو برلمان طبرق كرئيس للمجلس الرئاسي، وجدير بالذكر في هذا السياق أن ليون وضع اسم فايز السراج –عضو برلمان طبرق– كرئيس للمجلس الرئاسي قبل الإعلان بلحظات عن توقيع الاتفاق.
توج توقيع الاتفاق بدخول المجلس الرئاسي لطرابلس على ظهر فرقاطة قادمة من تونس يوم 30 مارس2016، وحظي المجلس وحكومة الوفاق بدعم دولي وأصبحا الممثلين الشرعيين للبلاد في المحافل الدولية.
وأعلن الإسلاميون المشاركون في الحكومة التوافقية أن الاتفاق السياسي أنهى انقلاب حفتر بجرة قلم، وأن الدولة الليبية استعادت شرعيتها الدولية، لكن حفتر أعلن رفضه للاتفاق واستمر في عملياته العسكرية في شرق البلاد ضد الإسلاميين وفي جنوبها ضد الكتائب التابعة للوفاق.
وفي المقابل أعلن المجلس الرئاسي أن القوات التابعة له لن تتورط في نزاع مسلح مع الشركاء السياسيين.
لم ينتج عن اتفاق الصخيرات أي اتفاق حقيقي بين الأطراف المتنازعة وإنما نتج عنه استبدال المؤتمر الوطني وتحالف فجر ليبيا بالمجلس الرئاسي وحكومة الوفاق بينما لم يعان معسكر الكرامة من أي تفكيك أو انقسام وتحول الصراع العسكري بين معسكري فجر ليبيا والكرامة إلى نزاع بين معسكري الكرامة والوفاق.
ورغم تقديم معسكر الوفاق لتنازلات سياسية وميدانية كبيرة لحفتر ومده يد الصداقة والشراكة وإعلانه تأييد حملة حفتر العسكرية في الشرق والجنوب بل وحتى في بعض مدن الغرب كصبراتة، إلا أن هذه الجهود لم تثنِ حفتر عن موقفه.
…
يتبع
________________