رامز رمضان النويصري
اختار الدكتور النامي بعد ذلك، جامعة كمبريدج ببريطانيا، لاتمام دراسته العليا، فالتحق بها في عام 1967م، ونال منها في1971م درجة الدكتوراة في “الدراسات العربية والاسلامية”، ثم عاد الى ليبيا، ليستقبله “ارهاب الدولة”، فيعتقل، ليطلق سراحه بعد ايام معدودة .
وعين، بعد فترة، كاستاذ للدراسات الاسلامية في جامعة بنغازي، ثم في كلية التربية وكلية العلوم بالجامعة الليبية بطرابلس.
وعقب.. ما عُرف.. بـخطاب زوارة (ابريل 1973م) والذي الغيت فيه القوانين في ليبيا، وحُكمت البلاد بعده بالاحكام العرفية.. اعتُقل.. عقب ذلك الخطاب.. الكُتاب والمثقفين والمفكرين والنخب، وكان الدكتور عمرو النامي، من بين ضحايا هذه الحملة.
بقى الدكتور النامي في السجن لمدة سنتين تقريبا، بتهمة الانتماء الى تنظيم الاخوان المسلمين، ثم أُطلق سراحه في 1974م، ليطرد بعدها من وطنه، حيث ارغم على ترك البلاد (ربما كشرط لاطلاق سراحه)، وخُيّر بين السفر الى اليابان أو أمريكا اللاتينية أو إحدى الدول الافريقية، فاختار، بعد مشاورات اخرى، الولايات المتحدة الامريكية، حيث قام بتدريس اللغة العربية والدراسات الاسلامية في جامعة “ميتشغان”، بولاية “ميتشغان”.
وعندما عاد الى ليبيا، اُرغم في 1979م، على السفر الى اليابان، فاستمر هناك في تدريس اللغة العربية والدراسات الاسلامية، لكنه عاد الى ارض الوطن بعد عام تقريبا..
استمرت “الجماهيرية العظمى” في مضايقة الدكتور عمرو النامي.. ومحاولة اذلاله.. وتحطيم ارادته.. حتى بعد.. النفي.. والمطاردة.. والاعتقال.. فعُين على سبيل المثال.. في “جمعية الدعوة الاسلامية”.. ولكن.. ليس للمساهمة في مجال الدعوة.. بل.. للاشراف على “البحوث” المضحكة التي كان المنافقون يعدونها عن “الكتاب الاخضر”، وهي اهانة ما بعدها اهانة، فرفض الدكتور النامي هذا العرض “الاهانة”، بكل حزم وصراحة وادب، بل وباستغراب شديد جدا.
ورفض الدكتور النامي في موقف اخر، ان يمدح “معمر” او “القائد” او “الثورة” او “الانقلاب” او “الثوار”، او غير ذلك من هذه الخزعبلات.. رفض ذلك.. بتصميم.. وعزة نفس.. حتى بعد ان طَلب منه “خليفة حنيش” (وهو من علية القوم) قائلا: اننا لم نر منك شيئا.. اشارة الى عدم مشاركة الاستاذ النامي.. في مهرجانات “النفاق” و”التطبيل” و”الهز” و”الاطراء” و”التزمير”.. للظلم والطغاة والظالمين.. همسا.. وكتاية.. وقولا.. فرد عليه الدكتور النامي قائلا: انني اقوم بواجي (تعليم الاسلام) في الجامعة وهذا يكفي .
وعندما زار معمر مدينة “نالوت” في احد المرات، لم يشارك الاستاذ النامي في استقباله.. كما لم يأت للسلام عليه.. ولم يحضر احاديثه.. بالرغم من علم معمر بوجود السيد النامي في نالوت في ذلك الوقت.. بالرغم من ادراك الاستاذ النامي لذلك.. كما رفض في مناسبة اخرى دعوة احد الاصدقاء.. عندما علم ان معمر سيكون ضمن الحاضرين.
تلك نماذج بسيطة من محاولات الاذلال.. ونماذج من ثبات وصمود وحزم الدكتور النامي.
لقد كان.. عزيز النفس.. لا يخاف في الله لومة لائم.. فعزة نفسه.. مستمدة من ثقته بالله سبحانه وتعالى.. لذلك.. انحاز بعقله وروحه وفؤاده.. الى صف الضحايا.. ولذلك ايضا.. انحاز قلمه الى الشعب.. ولم ينحاز الى الطغاة.
قرر الدكتور النامي بعد النفي.. والتضييق.. والاهانات.. والسجون.. وبعد كل هذه الترهات.. والمهازل.. قرر.. ان يتخلى عن كل شيء.. الا عن دينه وعزته ووالديه وكرامته.. فانعزل.. كما ذكرنا.. مع “غنمه” في شعاب منطقته.
لكن.. هيهات.. فـ”ثورتنا” الساهرة على مصالح الشعب لا تنام.. فقد اعتُقل مرة ثالثة.. في سنة 1981م.. وزُج به.. في أحد سجون المخابرات العسكرية، وبقى فيها.. فترة طويلة.. في حذاء واحد.. وقميص واحد.. وملابس داخلية واحدة.. كمحاولة للنيل من ارادته.. التي لم ترضخ.. لارادة الطاغوت.. ثم نقل.. بعد ذلك.. الى مقر المباحث العامة.. ثم الى احد السجون التي ازدحمت بها “الجماهير” في دولة “الجماهير”.
وبعد احداث “باب العزيزية”، في مايو1984م، والتي اندلع فيها التصادم العسكري بين “مجموعة بدر”التابعة “للجبهة الوطنية لانقاذ ليبيا”، وقوات النظام.. بعد تلك الاحداث.. هُدم بيته.. وسُرقت كتبه.. واوراقه الخاصة.. ونقل الى سجن مجهول.. ثم.. انقطعت اخباره منذ 1986م.. ويعتبر الدكتور عمرو النامي.. بذلك.. من المختطفين او المختفيين قسرا.. حتى يومنا هذا.
وتستمر رحلتنا.. مع استاذنا النامي.. فنتعرف على بعض اصدقائه وزملائه ومعاصريه، ونطلع على شيء مما قيل فيه.. مع شيء.. من الجهود التي بُذلت لاحياء ومتابعة قضيته.. نتحدث بعدها عن اعماله.. وعن عطائه.. ثم.. نتركه.. يحدثنا.. عن شيء من افكاره.. وارائه.. واقواله.. وخواطره.. وتصوراته.. عن الامة.. والحرية.. والوطن.. فلعلنا نجد في ذلك.. ما يبرر مقت النظام.. لهذا الرجل.. الامة.
لقد كان الدكتور النامي، على صلة وثيقة بنخبة من العلماء والمفكرين والكتاب والمثقفين، من بينهم الشيخ علي يحي معمر(رحمه الله)، والذي كان الدكتور النامي يلازم حلقاته منذ صغره، كما تبادل معه، في اوقات لاحقة، العديد من الرسائل المختلفة، وكان ايضاً على صلة وثيقة بالاستاذ محمود الناكوع، فقد ربطت بينهما صداقة متينة عندما جمعتهما ثانوية غريان، ثم جمعتهما كلية الاداب، كما قُبض عليهما عقب خطاب زوارة، وسجنا معا لمدة سنتين تقريبا.
وكان الاستاذ النامي على صلة ايضا بالشهيد محمد مصطفى رمضان، وعلى علاقة وثيقة بالكاتب والمفكر الاسلامي الاستاذ محمد محمد حسين، رئيس قسم اللغة العربية، بكلية الاداب ببنغازي، في ذلك الوقت، والتقى، كما ذكرنا، بالشهيد “سيد قطب” رحمه الله، اكثر من مرة، كما التقى كذلك ب محمد قطب ،
وكان ايضا على علاقة مباشرة او غير مباشرة مع الامام بيوض ابراهيم (شيخ الحركة الاصلاحية في الجزائر)1 وعاصر ايضا الشيخ محمد على دبوز (الذي كان يهتم بالحركة الاصلاحية وبتاريخ المغرب الاسلامي)، كما كان على صلة بالشيخ ابي اسحاق ابراهيم اطفيش (الذي نفاه الاستعمار الفرنسي الى مصر)، وعلى صلة بالشيخ ابو اليقضان ابراهيم، وهو داعية على مستوى العالم الاسلامي، وصل نشاطه الدعوي الى ليبيا والمغرب وتونس والجزائر ومصر، وكان من اهداف هذا الشيخ، ايقاظ شعوب العالم الاسلامي، وحثهم على محاربة الاستعمار والتنصير والالحاد والتغريب .
وننتقل من هذه النخبة الطيبة المباركة، التي احاطت بالاستاذ عمرو النامي، مباشرة او غير مباشرة، الى باقة مما قيل فيه.. فلعلنا.. نقف.. عبرها.. على ابعاد اخرى من شخصيته لم نتطرق اليها حتى الان:
يقول الاستاذ “محمود الناكوع”:
لقد عرفت فيه الذكاء، والإيمان العميق بعقيدة الاسلام، وعرفت فيه صفات الشجاعة، وصلابة الموقف.. وكان من المتميزين في الدراسة.. وكان رجل فكر وثقافة.. واسع الاطلاع.. ومتحدث جيد.. ولبق.. يتمتع بقبول اجتماعي متميز.. كما كان واضح العقيدة وواضح التكوين الاسلامي.. وكان يجاهر ضد الفكرة القومية العربية.. كما كان شديد الإخلاص لوطنه وأمته . وهو رجل قوي الشخصية.. صلب القناعات.. على استعداد لتقبل كل المخاطر والمشاق في سبيل افكاره ومبادئه ومعتقداته.. وهو من عشاق الحرية.. بكل ما تعنيه من قيم انسانية وسياسية واجتماعية.. كما انه عنيد في كل مواقفه وقناعاته وشديد الوضوح فيما يريد ويقبل.. وما لا يريد ويرفض.
ويقول الدكتور”محمد صالح ناصر”
الذي دقق وراجع رسالة الدكتوراة، التي اعدها الدكتور النامي بعنوان “دراسات عن الاباضية”، يقول الدكتور محمد:
لقد تربى الدكتور عمرو النامي في احضان عائلة فقيرة، مثل اغلب عائلات الجبل، ولكنها غنية بقيمها، وبمحافظتها على الدين الاسلامي، والاخلاق الفاضلة، واختلف الدكتور النامي الى الكتاب، يحفظ القرآن، ويتعلم مباديء اللغة العربية، والعلوم الشرعية، كما كان يختلف، عندما كان فتى يافعا، الى مجالس الشيخ “على يحيى معمر”، يسمع منه فصولا من تاريخ الفاتحين والمجاهدين الاوائل البواسل الذين رفعوا لواء الاسلام عاليا.
ويواصل الدكتور “محمد صالح ناصر” قائلا:
لقد ترك الدكتور النامي في ذاكرتي انطباعا ملؤه الاعجاب برصانته وذكائه واجتهاده، وتطلعه الى المشاركة بقلمه في الدرس والبحث في مجال العلوم الاسلامية، وعرفت فيه ايضا شاعرا حساسا، وكان يقدر تاريخ السلف تقديرا عظيما، كما رأيت فيه شغفا واضحا بالتراث فكرا ورجالاً.
وتتحدث مجلة الانقاذ.. التي تصدر عن “الجبهة الوطنية لانقاذ ليبيا”.. عن الدكتور النامي فتقول:
انه رجل من القلائل في ليبيا.. اديب عرفته مجالس الادب والشعر والنقد.. وصحفي عرفت الصحف مقالاته منذ ان كان طالبا بالجامعة.. وهو كاتب ومفكر يحمل هموم وطنه الليبي وامته الاسلامية.. وشاعر رقيق الشعر فصيح العبارة.. وشخصية اجتماعية محببة تترك اثرها في جلسائها بسرعة عجيبة.. لا تملك الا ان تحبه.. واذا كنت من مخالفيه فلا تملك الا ان تحترمه.. وتقدر ما يحمله من مواهب.
ويقول الشهيد “محمد علي يحي معمر” ابن الشيخ “على يحي معمر”(رحمهما الله)، وقد ربطته مع الدكتور النامي صلة التلميذ باستاذه، وقد كانا يتبادلان الرسائل:
يقول.. الشهيد.. موجها حديثه الى الدكتور عمرو النامي: لقد كان نصيبي للاخذ منك قليلا.. ولكن هذا القليل ملك قلوبنا وشحن نفوسنا وزودنا بكثير مما لا يجده غيرنا .
ويواصل الشهيد محمد قائلا: استاذنا.. عمرو.. ان لرسائلك روحا قوية مؤمنة.. وان فيها لجوهرا اخاذا.. وهي وسيلتنا للاجتماع بك.. لتشد من عزائمنا وتقوي من سلوكنا.. ولقد والله كثيرا ما تمنيت ان يقرأها جميع شبابنا.
كما جاء في مجلة “شؤؤن ليبية” التي تصدر عن “الحركة الليبية للتغيير والاصلاح”:
ان الدكتور عمرو النامي، كان استاذا باحثا وسياسيا ملتزما، واديبا وكاتبا صحفيا ذا حيوية وجرأة وحضور، وكان شاعرا مجيدا متمكنا.
ويقول الاستاذ “حسني ادهم جرار” عن الدكتور النامي، في ” قصائد عن الام والاسرة”:
ان الاستاذ النامي، داعية اسلامي، وقف في وجه الظلم والطاغوت، وتعرض لالوان من التعذيب.. وكان من الدعاة الصابرين المحتسبين، الذين تحررت قلوبهم من كل خوف، واستعدوا لمقارعة الباطل، ووطنوا نفوسهم على الصبر والمصابرة، والبذل والتضحية، وثبتوا على طريق الحق، وهو ايضا، داعية مجاهد، جاهد من اجل دعوته بصلابة وثبات.. وآمن بقضاء الله وقدره.
ونُشرت، بجانب ذلك، عشرات المقالات التي ابرزت جهود واعمال ومواقف ومحنة.. الدكتور النامي.. نُشرت.. في العديد من ادبيات ومطبوعات المقاومة الليبية، وفي العديد من المواقع الالكترونية الليبية، وغير الليبية.. وذلك.. كجزء من الجهود التي تبذل لاحياء ومتابعة قضيته.
كما نظم المؤتمر الليبي للأمازيغية، بالتعاون مع مؤسسة تاولت الثقافية، مسابقة ثقافية خُصصت لها جائزتين، احداهما للقصة القصيرة والشعر، وسميت بجائزة الشهيد “سعيد سيفاو المحروق” للأدب، والاخرى في مجال المقال البحثي، وسُميت بجائزة الشهيد “د. عمرو النامي”.
كما طالب المؤتمر الليبي للامازيغية، بجانب جميع التنظيمات والجماعات والاحزاب الاخرى8، بضرورة التحقيق في قضية الدكتور “عمرو النامي”، والكشف عن نتائج هذا التحقيق، وتقديم الجناة إلى القضاء العادل.
ونظم موقع “المنارة للاعلام”، سلسلة من الاحاديث تحت عنوان “ذكريات حول عمرو النامي”، شارك فيها كل من الاستاذ “محمود الناكوع” والاستاذ “عبد الله ابوسن” والاستاذ “سالم سالم”.
تحدث فيها المشاركون عن ذكريات واحداث ومواقف عاصروها مع الدكتور النامي، وكان لهذه السلسة الصوتية، مع غيرها من الاعمال، الاثر الفعال في احياء قضية الدكتور عمرو النامي.
والقى الاستاذ “محمد بن سعيد المعمري”، من سلطنة عمان، محاضرة عن الدكتور عمرو النامي، بعنوان ” قصة شهيد”، تصب هي الاخرى في محصلة الجهود التي تبذل لمتابعة واحياء هذه القضية الحساسة. .
ويعتبر كتاب الاستاذ محمود الناكوع “الدكتور عمرو النامي، سيرته، ومواقفه، وأعماله الفكرية والأدبية”، من الجهود الرئيسية التي بُذلت لاحياء وتكريم الاستاذ النامي ومتابعة قضيته، والكتاب من احدث واهم الاعمال التي تمت في هذا الصدد، وقد احتوى على مقدمة، وسيرة موجزة عن الدكتور عمرو النامي، واعماله ومراسلاته وبعض مقالاته، بالاضافة إلى سبعة وعشرين قصيدة من قصائده.
…
يتبع
_____________