د. زكية القعود
4 ـ الهجرات العربية
لو نظرنا إلى التركيبة السكانية في ليبيا خلال فترة العهود الإسلامية، لنجدها تتكون أغلبها من الأهالي الذين لم يكن لهم مراكز حضارية واضحة، ولم لهم اهتمام بالعلم فهم أغلبهم من البدو، بالإضافة إلى الوافدين وهم الفاتحون أو من القبائل المهاجرة وجلّهم من عرب اليمن وهم أيضا من البدو التي تغلب عليهم النزعة القتالية وعدم الاستقرار، وعدم الخضوع إلى السلطة الإدارية، فهم ينقادون إلى حكم العشائر أكثر من نظام الدولة, لهذا لم يلتفتوا لدراسة العلم، فهم رجال حرب أكثر منه رجال علم.
ولقد اختلف المؤرخون بعد اتفاقهم على دور الهجرة الهلالية الذي لا ينكر دورها في تعريب البلاد، اختلفوا في تقديرها والحكم عليها فيعتبرونها كارثة من الناحية الحضارية، ويعتبرها البعض الآخر نافذة فتحت أعين البلاد على الحضارة الأجنبية، ويعتبرها بعضهم سببا في تدمير البلاد والإتيان على ما فيها من أخضر ويابس.
ويعتبر البعض الآخر أن دمار البلاد كان سابقا هجرة بني هلال وبني سليم ويقللون من تقدير الدمار الذي لحق البلاد على أيديهم.
ومجمل هذه الاراء لخصها الأستاذ حسن حسني عبد الوهاب في قوله:
“الحقيقة التي لا يطرقها شك، أن العرب لما قدموا فاتحين لم يجدوا في البلاد سوى خرائب متهدمة تعلوها مسحة من زخرف قديم ابلاه الدهر، وغيّر نضارته الزمان لتعاقب الفتن وتوالى المحن. ولم يصيبوا غير مدائن متداعية البنيان، نذرة السكان، ضعيفة الإيراد، ولهذا السبب لم يفكر العرب في نصب مركزهم الذي عزموا على إيجاده في البلاد المفتوحة على أنقاض إحدى تلك المدائن البالية، ولو أن في البلاد عاصمة قديمة تناسب الفاتحين لما ارتادوا سواها، كما فعلوا في الشام وطليطلة ثم قرطبة في الأندلس“.
5 ـ فقدان الإدارة المركزية:
إن المراكز الحضارية التي قامت في ليبيا قبل الإسلام وبعده لم تصل إلى مستوى المراكز الحضارية الإسلامية في المغرب أو المشرق، ولذلك ظلت طرابلس حضاريا واقعة تحت الحضارات المجاورة لها من الشرق والغرب وهذا يرجع إلى أن ليبيا وخاصة طرابلس، لم تكن عاصمة مركزية على غرار العواصم الأخرى، رغم أنها استطاعت أن ذلك في بعض الفترات إلا أن هذا لم يستمر طويلا لأن المقومات الحضارية في طرابلس كعاصمة لم تكن متوفرة باستمرار فيها، بسبب الأوضاع السياسية والاقتصادية ـ إذ أن العلوم وليدة العواصم، لهذا نلاحظ أن قبلة العلماء دائما تكون نحو العواصم الكبرى.
فأغلب النفوس تطمح إلى الشهرة إن لم تكن تطمع في الثروة والعكس صحيح. فلهذا كان العلماء من ليبيا يهاجرون إلى المراكز الحضارية التي تملك من المقومات ما تملكها ولاية طرابلس ولا ولاتها من الجانب الحضاري والاقتصادي والسياسي فهي في أغلب العهود الإسلامية ولاية ضمن ولايات المغرب العربي ولم تكن محط الطامعين للشهرة والثروة.
6 ـ العوائق الجغرافية:
نقصد بذلك المناخ والتضاريس والسكان، تحتل ليبيا مساح كبرى من مساحة المغرب العربي فهي تطل على ساحل البحر المتوسط، ومتوغل في الجنوب، ومدنها غير مرتبط بسبب الموانع الطبيعية منها الصحراء. كما قلة المياه فيه واعتمادها على الأمطار والمياه الجوفية. هذا يجعل أن لا يستقر فيها عدد كبير من السكان فلهذا نجد تجمع السكان في مناطق متفرقة من ليبيا حيث تتوافر أساليب العيش من ماء وأرض صالحة للزراعة والموانئ والمحطات التجارية، وهذه العوامل الطبيعية لا تشجع على تكوين مجتمع مدني يؤدي إلى تكوين عاصمة بمقوماتها الاساسية.
إلى جانب ذلك كانت منطقة نزاع بين قوى الحكم سواء من الشرق أو من الغرب، هذا أدى إلى كثرة الحروب والفوضى والإضطرابات مما أثر في الحياة الاقتصادية وبالتالي في الحياة الثقافية.
7 ـ اتساع مفهوم الهوية:
لم تكن الحدود والأقاليم واضحة المعالم في العهود الإسلامية، فكان المسلمون مواطنين في عالم إسلامي واحد حر لا يعترف بشئ من الحدود السياسية، مما جعل العالم أو طالب العلم يتنقل بين الأقاليم الإسلامية لا ينتسب إلى طرابلس ولا إلى تونس، ولا إلى مصر، بل إلى الإسلام ويرى أن جميع الأقاليم الإسلامية وطنه. لذا نجد أن كثير من علماء الشرق استقروا في الغرب
وبالعكس، ولكن ربما يقال هذا عالم مشرقي أو مغربي أو فارسي ولا يقال هذا تونسي وهذا مصري وهذا عراقي، فوحدة الدين هي الغالبة بين العرب في العهود الإسلامية.
ثانيا: المؤثرات الإيجابية
من المؤثرات الإيجابية والتي ساهمت في الحياة الثقافية، التالي:
ـ الموقع الجغرافي
تعد ليبيا حلقة وصل بين المشرق والمغرب الإسلامي، فموقعها المتوسط جعل منها نقطة التقاء وتفاعل، وجسر عبور لقوافل التجارية، التي كانت تحمل إلى جانب البضائع الكتب والأخبار من البلاد الوافدة منها سواء من الشرق أو من الغرب.
كما كانت ممرا للكثير من المسافرين والرحالة والحجاج والعلماء المغاربة وهما في طريقهم إلى المغرب. وكثيرا منهم كان يفضل البقاء لمدة من الزمن قد تطور، “وقد تقصر كما فعل الإمام سحنون بن سعيد الذي كان يلقب بــ “سراج القرآن الذي أقام في ليبيا مدة من الزمن في طريق رحلته لطلب العلم في المشرق سنة (188هـ) وقد درس في كل من طرابلس واجدابيا.
، وهو الذي نقل عنه قوله: “كان بإفريقية رجال عدول، بعضهم بالقيروان وتونس وطرابلس لو قورنوا بمالك بن نيران” وهذا الموقع أعطى فرصة لليبيين أن يلتقوا بالإعلام والعلماء، ويأخذوا عنهم.
ـ انتشار الإسلام وإرساء اللغة العربية
استقر الإسلام في البلاد ورسخ منذ بداية القرن الثاني الهجري. ولم يصب بأي نكسة منذ ذلك الوقت. ومما زاد من رسوخ الإسلام في المنطقة قيام دويلات بربرية، وجود كثير من الفرق الإسلامية والمذاهب الفقهية وشدة التنافس بينها ومحاولة أعوان كل فرقة أو مذهب أن يكسبوا أنصارا جددا وأن يكون لهم السلطان دون غيرهم.
وكذلك من العوامل التي حافظت على الإسلام في هذه المنطقة، ما قام بها بعض الخلفاء والولاة من جهد لنشر الدين واللغة بإرسال العلماء والفقهاء لتعليم السكان في ليبيا والمغرب العربي الدين الإسلامي اللغة العربية، مثل ما فعل الخليفة عمر بن عبد العزيز والهجرات العربية وقيام دويلات الإسلام وانتشار المساجد.
ـ ازدهار الجانب الاقتصادي:
تأثرت الحياة الاقتصادية في ليبيا سلبا وإيجابا والاضطرابات والثورات السياسية التي حدثت فيها، إلا أنه خلال فترة الهدوء والاستقرار السياسي التي عاشتها نشطت الحياة الاقتصادية وازدهرت في طرابلس والأقاليم الأخرى مما أثر إيجابيا حياتها الثقافية.
إذ من المعروف أن ازدهار الاقتصاد غالبا ما يصاحبه ازدهار في الحياة الثقافية، بما يحققه من رخاء بين أفراد المجتمع مما يجعلهم يلتفتون إلى تعليم العلوم واقتناء الكتب وبناء المساجد وفتح المدارس مثل مدارس الإباضية في جبل نفوسة ومدرسة المنتصرية، وازدهرت المكتبات بذخائر العلوم من الشرق والغرب.
وهذا ما أشار إليه البكري في مصنّفه عند حديثه عن ليبيا، حيث وضح لنا أن ليبيا قد تقدمت اقتصاديا خاصة في المجال الزراعي والحيواني في النصف الأول من القرن الخامس الهجري عما كانت عليه في القرون السابقة.
ـ الحكم الذاتي واستقرار الأوضاع السياسية:
لقد أشرنا في المؤثرات السلبية للحياة الثقافية أن ليبيا كانت منقسمة على نفسها مذهبيا وسياسيا. وكانت الانقسامات المذهبية خاصة ذات أثر واضح في تاريخ ليبيا علميا وسياسيا، فعلميا تأثرت الحياة الثقافية بالأوضاع السياسية التي مر بها الأقليم، أما سياسيا كانت البلاد ميدان صراع بين دولتي المشرق والمغرب، إضافة إلى اضطرابات وثورات داخلية بسبب رفضها التابعية للدول المجاورة.
إلا أنها تمتعت بفترات الهدوء، كان فيها ليبيا نوع من حكم ذاتي، وذلك عندما تولي الحكم أسرة بني خزرون، وأسرة بني مطروح (540 هـ)، وأسرة بني ثابت (730-792 هـ).
هذا الأمر ساعد على ازدهار الحياة الثقافية في طرابلس خصوصا. كما أنها حضت بحكام على درجة من الصلاح سعوا إلى دعم الحياة الثقافية، فأصبح بلاط الحكم في طرابلس مقصدا للعلماء أمثال إبن كافي، أفلح الناشب، عبدالله بن يخلف الكتافي أبو الفتوح زيان الصقلي (340 هـ) باسلي الصقلي، والشيخ محمد بن أبي حفص.
…
يتبع
***
المصدر: دراسة في العلوم العقلية في الفترة ما بين القرون (2-10 هـ \ 8 ـ 16 م)
__________________