يزيد صايغ
ضبط الأمن الإسلامي والمجتمعي
أتاحت مشاركة الأحزاب الإسلامية في الحكم وجاذبية الحركات السلفية لبعض الناخبين والشرائح الاجتماعية، ولاسيّما منذ الربيع العربي ولكن أيضاً في بعض العمليات الانتقالية في مرحلة مابعد الصراع، الفرصة لتطوير أساليب محتملة جديدة لضبط الأمن.
لكن ذلك لم يمنع إصلاح قطاع الأمن في حدّ ذاته، بل على العكس تماماً، حيث كان الإسلاميون في بعض الأحيان أكثر استعداداً ممن سبقوهم لتبنّي الجوانب العامة من المقاربة التقليدية للإصلاح. غير أن المشاركة سلّطت الضوء على إمكانية إدماج قطاع الأمن مع أنماط بديلة لضبط الأمن وأشكال عرفية من الفصل في المنازعات، وفي نهاية المطاف تغيير النظام الاجتماعي الذي تساعد تلك القوى في بنائه والمحافظة عليه.
في العديد من الدول العربية التي تمرّ في مراحل انتقالية، استغلت الأطراف الفاعلة الإسلامية على أنواعها نقل أو تعطيل سلطة الدولة وارتباك أو انهيار القطاعات الأمنية الرسمية لبناء أجهزة أمنية مستقلة، أو تثبيت نفسها في وزارات الداخلية وفي أجهزة أمنية مختارة.
علاوةً على ذلك، أدّت جهودها لتحقيق سيطرة فعلية وتعزيز نظام اجتماعي بديل يستند إلى القيم الإسلامية بالضرورة إلى إشراك النظام القضائي والإطار القانوني والأنماط غير الرسمية أو المجتمعية لضبط الأمن والتحكيم التي تضرب بجذورها في القانون العرفي.
قلّة من هذه الدول كان لديها مخطّطات أولية جاهزة أو متماسكة لما قد يبدو عليه النمط الإسلامي تحديداً لضبط الأمن أو ماسيترتّب على بناء نمط كهذا. إضافةً على ذلك، كانت الحركات الإسلامية المتنافسة تميل إلى اعتماد أساليب متباينة، في حين أدّت الانقسامات الطبقية بين المناطق الحضرية والريفية إلى ظهور أنماط مختلفة من عملية الضبط.
فقد روّج السلفيون في الغالب لأسلوب مستقل ذاتيّاً وقاعدي في ضبط الأمن، يقوم على الشريعة في المناطق ذات الدخل المنخفض والمناطق شبه الحضرية. في المقابل، فضّل الإخوان المسلمون ومايُسمّى الأحزاب الإسلامية الوسطية المماثلة، التعاونَ مع القطاعات الأمنية القائمة والجمع بين النظم القانونية والقضائية المدنية والشرعية، والتي تستهوي في المقام الأول الشرائح الحضرية من الطبقة الوسطى.
كان الاعتماد على القانون العرفي والتحكيم، بما في ذلك الأشكال المختلفة منه مثل القانون القبلي والشريعة، هو النمط السائد منذ وقت طويل في المناطق الريفية وبعض المناطق الحضرية، وأصبح أكثر بروزاً عندما لجأت المجتمعات المحلية لمقدمي خدمات الأمن والعدالة البديلة لملء الفراغ الذي خلّفته أجهزة الدولة في أعقاب حالات الانتقال العربية.
في العديد من الدول العربية التي تمرّ في مراحل انتقالية، استغلت الأطراف الفاعلة الإسلامية على أنواعها نقل ارتباك أو انهيار القطاعات الأمنية الرسمية لبناء أجهزة أمنية مستقلة.
المكاسب الباهرة التي حققتها جماعة الإخوان المسلمين وائتلاف حزب النور السلفي في الانتخابات البرلمانية التي جرت في أواخر العام 2011 وأوائل العام 2012 في مصر، شجعتهم على إضفاء الطابع المؤسّسي على اللجان الشعبية التي وفّرت الخدمات الأمنية الأساسية ومنعت أعمال النهب والعنف الإجرامي في بعض الأحياء في أعقاب الانتفاضة.
وفي آذار/مارس 2013، اقترحت الكتلة البرلمانية للجماعة الإسلامية السلفية في مصر، أي حزب البناء والتنمية، مشروع قانون من شأنه إخضاع مجموعات “الشرطة المجتمعية” إلى إشراف وزارة الداخلية ومنحها الصلاحية القضائية للاعتقال.
وبالمثل، اقترحت الكتلة البرلمانية لحزب الحرية والعدالة التابع لجماعة الإخوان المسلمين، حزب العدالة والحرية، تقنين وضع اللّجان الشعبية باعتبارها جهاز شرطة معاون، وإن كانت تتبع رئاسة الجمهورية.
أدّى حلّ البرلمان من جانب المحكمة الدستورية العليا في مصر إلى طيّ هذا الفصل. إلا أن مايُسمّى المعسكر السياسي العلماني استمر في اتّهام إدارة محمد مرسي التابع لجماعة الإخوان المسلمين، الذي انتخب لمنصب الرئاسة في حزيران/يونيو 2012، بالسعي إلى أسلمة قطاع الأمن.
ظهرت اتهامات مماثلة حين ضمنت حركة النهضة، النظير التونسي لجماعة الإخوان، تعيين العضو القيادي علي العريّض وزيراً للداخلية في كانون الأول/ديسمبر 2011.
اتّهم الخصوم العلمانيون حركة النهضة والسلفيين في تونس بالسعي إلى تحويل اللجان الشعبية، المعروفة أيضاً بلقب “روابط حماية الثورة” في تونس، إلى ما اعتبره منتقدوهم قطاعاً أمنياً موازياً وغير شرعي. ولم تسهم محاولة النهضة اللاحقة لتعيين أتباعها في مناصب رئيسة في قطاع الأمن وفي هيكلية الحكم المحلّي في المحافظات، ردّاً على رفض موظفي وزارة الداخلية وقادة رئيسين في العاصمة تقبّل سلطة العريّض، سوى في تعميق شكوك المعسكر العلماني.
سعت الأحزاب الإسلامية بصورة واضحة إلى تحقيق أجندات سياسية، وانتهزت فرصة الدخول إلى أجهزة الدولة للقيام بذلك.
بعد أن سلّمت سلطة الائتلاف المؤقّتة في العراق الحكم إلى أول حكومة تصريف أعمال في العراق في العام 2004، والتي تلتها أول حكومة منتخبة في العام 2005، على سبيل المثال، استولت التنظيمات الشيعية القوية، مثل حزب الدعوة والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق والتيار الصدري، على وزارة الداخلية وتقاسمت السيطرة على فروع مختلفة في قطاع الأمن.
وبعد التحوّل في ليبيا في العام 2011، ظفرت جماعة الإخوان المسلمين بموطئ قدم في وزارة الداخلية واللجنة الأمنية العليا وهيئة شؤون المحاربين. وبالمثل، شغلت “الجماعة الليبية المقاتلة“، وهي جماعة إسلامية سلفية، مناصب عليا في الوزارة، إضافةً إلى منصب نائب وزير الدفاع.
علاوةً على ذلك، استغل القادة السلفيون في اللجنة الأمنية العليا، وهي قطاع أمني هجين ترعاه الدولة ويضم ميليشيات ثورية وإسلامية، مناصبهم لتحديد وسجن مسؤولي الأمن في عهد القذافي.
وفي اليمن بعد العام 2011، وسّع حزب التجمع اليمني للإصلاح، المرتبط بجماعة الإخوان المسلمين، موطئ القدم الذي حصل عليه بالفعل منذ منتصف التسعينيات في جهاز الأمن السياسي.
سعت الأحزاب الإسلامية بصورة واضحة إلى تحقيق أجندات سياسية، وانتهزت فرصة الدخول إلى أجهزة الدولة للقيام بذلك.
غير أن الترويج لنظام اجتماعي إسلامي كان يمثّل هدفاً هاماً أيضاً. فقد تولت الميليشيات السلفية في ليبيا حراسة المناطق التي تسيطر عليها وفقاً لتفسيرها للأخلاق الإسلامية، بينما سعت بعض الإدارات البلدية الجديدة في تونس إلى فرض حظر على المشروبات الكحولية وإغلاق المطاعم والحانات خلال شهر رمضان.
وفي مصر، تعهّدت هيئة أطلقت على نفسها اسم “لجنة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” في شباط/فبراير 2013 بتعزيز الأخلاق الإسلامية، بينما هدّدت جماعة مماثلة في شمال سيناء بفرض عقوبات قاسية على تعاطي المخدرات والتدخين.
أثارت هذه الحوادث وسواها قدراً كبيراً من الذعر بشأن ظهور شرطة “مطاوعة” إسلاميين على الطريقة السعودية. غير أن الواقع هو أن حركات مثل حركة النهضة كانت أقلّ اهتماماً بفرض الأعراف الإسلامية في هذه المرحلة منها بتجنّب المواجهة المباشرة مع قطاعات الأمن الوطني.
مع ذلك، لم ينبثق النموذج الأكثر تطوراً في استخدام ضبط الأمن لبناء نظام اجتماعي إسلامي بعد العام 2011، بل ظهر في غزة في أعقاب استيلاء حركة حماس على السلطة بالقوة في حزيران/يونيو 2007. وربما كانت عملية إعادة بناء قطاع الأمن على يد حكومة حماس هي الأقرب إلى النموذج الغربي من حيث تطوير المهارات الفنية ونظم الإدارة، أو تقديم خدمات وتقارير النشاطات للجمهور عبر الإنترنت.
إلا أنه تم تطعيمها برسالة دعوية إسلامية تجسّدت في التدريب العقائدي المكثّف لعاملي قطاع الأمن، والانخراط المباشر مع الهيئات الدينية والأكاديمية وأنشطة التوعية الدينية للجمهور.
سعت حركة حماس أيضاً لتحقيق تكامل بين الشرطة وآليات العدالة الإسلامية والعرفية: تم ضمّ المحاكم الشرعية التي كانت تتعامل بصورة طبيعية مع قضايا الأحوال الشخصية في النظام الرسمي للعدالة المدنية، في حين تم توحيد وتقنين لجان المصالحة المجتمعية غير الرسمية التي كانت تقدم الوساطة والتحكيم على مستوى الأحياء وإخضاعها إلى سيطرة لجنة من العلماء المسلمين.
وقد تم تسجيل أحكام تلك اللجان لدى الشرطة. وجرت أيضاً محاولة لجعل القضاء القبلي، وهو أحد الأشكال المميّزة بصورة خاصة في القانون العرفي، يتماشى مع الأشكال الأخرى من العدالة، على الرغم من أن هذه المحاولة لم تنجح، مادفع حكومة حماس في نهاية المطاف إلى إدراج نفسها كمشارك نشط في الوساطات القبلية.
تم كذلك تطبيق نهج مماثل عموماً في الدول العربية التي لم تشهد انتقالاً. إذ يتضمن النموذج الأردني للشرطة المجتمعية، على سبيل المثال، حلّاً مشترَكاً للنزاعات، بما في ذلك الحوادث المرورية التي تؤدي إلى إصابة أو وفاة أو الأفعال غير الجرمية الأخرى، بين الشرطة ومساجد الحي، وجمعيات العشائر أو الحمائل (العائلات الممتدّة)، والفعاليات الأخرى مثل مدراء المدارس.
وكما هو الحال بالنسبة إلى شرطة حماس في غزة، فإن الحلّ قد ينطوي على عقوبات يفرضها القانون العرفي أو القبلي، مثل دفع الديّة أو النفي، غير أن العملية تُجنّب المحكوم عليهم فتح ملفّات جنائية بحقّهم.
وبالمثل، في سورية، التي تمرّ في مخاض انتقالٍ عنيف، فإن القرى التي نادراً ما رأت الشرطة الرسمية أو لجأت إلى المحاكم المدنية التي تديرها الدولة قبل العام 2011، قد قامت بصورة عامة تقريباً بتشكيل محاكم شرعية يرأسها أئمة المساجد المحليون أو رجال دين آخرون عندما خضعت إلى سيطرة المعارضة بعد الانتفاضة.
ظهر النموذج الأكثر تطوراً في استخدام ضبط الأمن لبناء نظام اجتماعي إسلامي في غزة في أعقاب استيلاء حركة حماس على السلطة بالقوة في حزيران/يونيو 2007.
على النقيض من الأشكال العرفية أو الإسلامية لضبط الأمن والفصل في المنازعات، التي تتميّز أكثر بالمَأْسَسَة والتي يتم اعتمادها “من فوق“، وكثيراً ما تُترجَم بوصفها “الشرطة المجتمعية“، فإن ضعف الدولة المُزمن في اليمن وغياب الشرطة الرسمية في الكثير من المناطق دفعا المجتمعات المحلّية إلى اللجوء إلى هيئات غير رسمية قبل فترة طويلة من انتفاضة العام 2011.
ووفقاً للباحثين اليمنيين ندوى الدوسري وعادل الشرجبي، فإن 80 في المئة من اليمنيين لا يزالون يحلّون النزاعات “بما في ذلك القتل والجريمة والثأر والصراع على الأراضي والموارد خارج إطار النظام القضائي الرسمي عن طريق استخدام التحكيم والوساطة التقليديين“، في حين أضاف وزير العدل السابق محمد المخلافي أن زعماء القبائل والأئمة المحليين يديرون سجونهم الخاصة في بعض المناطق.
على الرغم من الاختلافات الكبيرة بينها، تكشف الحالات السابقة أن ظهور بدائل إسلامية وغير رسمية في الظاهر بعد المرحلة الانتقالية أفضى إلى توسيع نطاق أشكال موجودة مسبقاً من الشرطة المجتمعية والعدالة العرفية في سياقات انهيار الدولة والاستقطاب السياسي وانهيار العقود الاجتماعية.
وهي تُظهر، علاوة على ذلك، أن هناك ميلاً إلى اعتبار تكييف المبادئ القانونية العرفية لتنظيم السلوك الفردي والجماعي أكثر شرعية على مستوى المجتمع المحلّي.
وبما أن المجتمعات المحلّية تقوم في الكثير من الأحيان بدور الوسيط في العقود الاجتماعية بين الدولة والمواطنين، فإن أي جهد لإصلاح قطاع الأمن الرسمي ونظام القضاء الجنائي الذي يرتبط به يجب أن يستوعب هذه الأشكال البديلة وأساليب ضبط الأمن والفصل في المنازعات.
…
يتبع
***
يزيد صايغ ـ باحث رئيسي, مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط
_________________