يزيد صايغ

تكاليف الإعداد المهني

يتطلّب الإعداد المهني لقطاع الأمن وتحديثه، تطوير قدر أكبر من التخصّص والكفاءة، وكذلك رفع معايير التنسيب والتدريب وأماكن العمل والتجهيزات. كما يتطلّب تحسين الرواتب والحقوق المالية أثناء الخدمة والمعاشات التقاعدية وتعزيز إدارة الموارد البشرية والمادية.

ويمثّل هذا كله استثماراً كبيراً للدول العربية التي تمرّ في مراحل انتقالية وتعاني من ضائقة مالية مايجعل من الصعب أن تكتسب هذه الإصلاحات زخماً.

العبء ثقيل جدّاً، ويعود ذلك في جزء كبير منه لأن قطاعات الأمن شهدت توسعاً كبيراً في العديد من الدول العربية خلال العقود الأربعة الماضية، يفوق معدّل النمو في أي قطاع من قطاعات الدولة الأخرى. ثمّة عوامل عدة دفعت في هذا الاتجاه.

فقد أدّى التوسّع الحضري الضخم، إضافةً إلى النمو والانتقال السكاني السريع الذي رافقها، وتدفّق المهاجرين واللاجئين، إلى تغيير بيئة المكان والبيئة الاجتماعية اللتين عمل فيهما قطاع الأمن، وطرح تحدّيات أكثر تعقيداً لحفظ القانون والنظام.

وأفضى توطيد السيطرة السلطوية من أوائل السبعينيات فصاعداً إلى زيادة عمليات المراقبة من جانب أجهزة الأمن الداخلي، والتي ازدادت عدداً وقوة باستمرار، بينما وفّرت القوات شبه العسكرية النظامية استعراضاً عاماً لقوة النظام.

وأدّت مكافحة الإرهاب إلى تسريع زيادة موظفي وميزانيات قطاع الأمن، عندما تفاقم العنف الإسلامي الجهادي في تسعينيات القرن الماضي، ومرة أخرى بعد هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001 الإرهابية وانتفاضات العام 2011.

وفي الوقت نفسه، استوجب انتشار الشبكات العابرة للحدود والأسواق السوداء الإقليمية التي تنشط في مجال الهجرة غير الشرعية والاتجار بالبشر والاتجار غير المشروع بالأسلحة، إيجاد قدرات وأجهزة جديدة لمواجهة التحدّيات الإضافية

تقلّل المقاربات التقليدية لإصلاح قطاع الأمن، أو تتجاهل بصورة مطّردة، أهمية نتائجه المالية الكاملة وآثاره الاجتماعية والاقتصادية.

في مصر، كانت النتيجة ظهور قطاع أمني ضخم بلغ تعداده مليون شخص على الأقلّ عشية ثورة العام 2011، وربما تراوح بين 1.5-1.7 مليوناً، وهو مايمثّل حوالى خمس العاملين في الدولة (باستثناء القوات المسلّحة).

في الطرف المقابل، بلغ عديد أفراد قطاع الأمن التونسي 49 ألفاً فقط في العام 2010، ولكن بحلول العام 2015 أظهرت ميزانية الدولة قوة إجمالية قوامها 97797 عنصراً (بما في ذلك العاملين المدنيين وموظفي الحكم المحلي)، أو 12 في المئة من مجموع موظفي الدولة.

وفي اليمن، بلغ عدد الأفراد المسجّلين في قطاع الأمن والقوات المسلّحة مجتمعَين حوالى 500 ألف؛ علماً أن التقديرات أشارت إلى أن أكثر من 100 ألف من هؤلاء مسجّلون في جدول مرتبات وزارة الداخلية، فيما يبلغ تعداد جهاز الأمن السياسي وحده، والذي يتبع رئيس الجمهورية مباشرة، بين 120 و150 ألف عنصر، وفقاً لبعض المصادر.

 شهدت تحولات حقبة مابعد الصراع أيضاً نمواً هائلاً في قطاع الأمن. إذ يُعادل حجم قطاع الأمن الجزائري، على سبيل المثال، نسبياً حجم نظيره المصري تقريباً، حيث يبلغ عديده 590 ألف فرد لعدد سكان وصل إلى نحو 40 مليون نسمة في نهاية العام 2014.

يمثّل هذا الرقم نسبة 29 في المئة من إجمالي العاملين في الدولة (بمن فيهم العاملون بعقود محدودة) أو 37 في المئة من موظفي القطاع العام الدائمين.8 وبالمثل، وصل عديد أفراد قطاع الأمن التابع للسلطة الفلسطينية إلى حوالى 90 ألفاً في ذروته في العام 2007، في حين ازداد العدد في العراق إلى نحو 450 ألفاً بحلول العام 2015، وبلغ عدد المسجلين على جداول مرتبات هيئات الأمن الرسمية والهجينة في ليبيا حوالى 200 ألفاً تقريباً بحلول العام 2013. 

من الناحية النظرية، يمكن، جزئيا،ً تعويض الاستثمارات المطلوبة لإضفاء الطابع المهني على هذه القوى والأجهزة عن طريق خفض تقليص جداول المرتّبات المتضخّمة بشدّة، وذلك من خلال التقاعد المبكر أو الفصل من الخدمة. ومن الضروري تقليص حجم قطاعات الأمن المتضخمة، لتحقيق وفورات مالية وتسهيل التأهيل المهني وتحسين الإدارة والمراقبة. إلا أن التداعيات الاجتماعية والسياسية لذلك تنطوي على مشاكل كبيرة

إذ أن القدرة على تقليص قطاعات الأمن بهذه الطريقة، مقيّدة بسبب التكاليف المباشرة المرتفعة لتعويض نهاية الخدمة أو إعادة التأهيل الوظيفي والارتفاع قصير ومتوسط الأجل في المعاشات التقاعدية. والحكومات التي تواجه تقلصاً في الإيرادات العامة ومطالب متزاحمة لزيادة الاستثمار في مجال الرعاية الصحية والتعليم والبنية التحتية الأساسية، قد لاتشعر بأنها تستطيع تحمّل تكلفة القيام بإصلاح حقيقي لقطاع الأمن

قد لاتشعرالحكومات التي تواجه تقلصاً في الإيرادات العامة بأنها تستطيع تحمّل تكلفة القيام بإصلاح حقيقي لقطاع الأمن

علاوةً على ذلك، يعني تقليص العديد تفاقم البطالة في المجتمعات التي تعاني من ضغط اقتصادي شديد، لأن العمل في قطاع الأمن وفي القوات المسلّحة لايعدو في كثير من الأحيان كونه برنامجاً لخلق فرص العمل.

وفي الدول العربية التي شهدت عمليات انتقالية، يعتمد دخل الأسرة بدرجة متفاوتة على التوظيف في الأمن والجيش لما بين 10 و20 في المئة من السكان، على افتراض أن الأسرة الواحدة تتألف من خمسة أفراد. وبالتالي فإن إضافةً إلى أعداد كبيرة من الموظفين الذين يفتقرون إلى التدريب ويتقاضون أجوراً متدنّية إلى صفوف العاطلين عن العمل في الاقتصادات التي تعاني من النمو البطيء أو السلبي، تُشجِّع على الاضطرابات

تواجه هذه المعضلة العديد من الدول العربية، لكنها تبدو أكثر حدّة في الدول التي تمرّ في مراحل انتقالية. خلال فترة الانتقال الديمقراطي القصيرة للغاية في مصر، على سبيل المثال، ردّ عضو مؤثّر في المجلس العسكري الحاكم على الدعوات المطالبة بفصل عدد كبير من ضباط الشرطة المتورّطين في انتهاكات القانون وحقوق المواطنين بالتحذير من أن فصل هؤلاء الموظفين من دون وجود التمويل اللازم لإعادة دمجهم أو منحهم وظائف مدنية أو معاشات مناسبةسيخلق كارثة“.

كانت حجته لخدمة أغراض ذاتية، لأن المجلس العسكري فضّل كسب وزارة الداخلية كحليف استراتيجي، غير أن خطر تفاقم الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية وإثارة معارضة علنية أو تمرّد بين أفراد قطاع الأمن كان حقيقياً. وكانت ستتم مضاعفة المخاطر بما لايُقاس، في حال كان خفض النفقات على نطاق واسع سيؤثر على قطاع الأمن برمته، ولاينطوي فقط على فصل أفراد الشرطة والأمن المدانين بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان أو بالفساد.

كما أن العديد من الدول العربية التي تمرّ في مراحل انتقالية ستخسر الآن أكثر مما كان عليه حالها قبل الصراع. ففي العراق دفع البحث عن الوظائف بعشرات الآلاف من الأشخاص إلى المجازفة بالتعرُّض إلى هجمات التمرّد من أجل التطوّع في الجيش وقوات الشرطة في السنوات العشر التي أعقبت العام 2003. وإلى جانب الانتشار غير المسبوق لشبكات المحسوبية السياسية والشخصية في الجهاز الإداري للدولة، زاد هذا الارتفاع في أعداد طالبي الوظائف عدد الموظفين الخاضعين إلى سلطة وزارة الداخلية إلى 531 ألفاً في أوائل العام 2013.

وقد غذّت حوافز مماثلة نمو عديد قوات الأمن السلطة الفلسطينية إلى 87800 ألف عنصر في أوائل العام 2008، في حين تراوح المجندين والمسؤولين الإضافيين لدى الحكومة المنافسة التي تديرها حماس في غزة بين 17 و20 ألفاً في قطاعها الأمني وربما عدد مماثل في جناحها المسلّح.

كان هذا الاتجاه واضحاً أيضاً في ليبيا، حيث سُجِّل نحو 200 ألف من الثوار الذين ادّعوا أنهم قاتلوا ضد نظام القذافي، على الرغم من أنه يعتقد أن 30 ألفاً فقط قاتلوه بالفعل، للانضمام إلى الهياكل الأمنية والعسكرية الجديدة التي أنشأتها الحكومة المؤقتة بعد العام 2011.

يتبع

***

يزيد صايغ ـ باحث رئيسي, مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط

______________

مقالات