آلاء فضل
حدثت هذه الإبادة قبل الهولوكوست (المحرقة)
ولكن من يقف وراءها؟
من صاحب الفكرة والمنفذ والداعم لها؟
كان المارشال بيترو باد وليو هو صاحب فكرة ترحيل السكان إلى المعتقلات، وهو من خطط لذلك.
يستدل المؤلف علي ما اكتشفة المؤرخ جرجيو روشات عن رسالة كتبها بادوليو إلى الجنرال غراتسياني عام 1930م ينصحه فيها بإبادة السكان الأصليين كخطوة أولى قبل كل شيء لسحق المقاومة.
نفذ الجنرال غراتسياني عمليات الترحيل والقتل الجماعي في المعتقلات؛ وكان مسؤولا عن إبادة حوالي 60 ألفا، من بين 110 آلاف محتجز. قام المستعمر بإتلاف الملفات الحساسة الخاصة بالمعتقلات والتلاعب بها لطمس الأدلة.
فعندما زار الدكتور علي الأرشيف الإيطالي في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، كانت كل الطرق مسدودة أمامة، خاصة عندما طلب مراجعة ملفات المعتقلات.
خاض المؤلف رحلة طويلة، استمرت عقدا كاملا، لإجراء المقابلات مع الناجين من المعتقلات وعائلاتهم، وأيضا زيارة المعتقلات الخمسة الرئيسية.
جاء هذا بعد إمضائه العديد من السنوات في البحث عن المصادر الأرشيفية المكتوبة: الأمريكية والإيطالية والمصرية والليبية والتونسية، والشهادات الشفوية المأخوذة من المعتقلين والمنفيين.
كان أغلب الليبيين أميين خلال تلك الفترة، فكانت الأمثال والقصائد والأغاني والشعر الشعبي وسيلة للتعبير عن ظروفهم.
الشعر الشعبي الذي كان يردده المحتجزون داخل وخارج المعتقلات بين الحين والآخر، والذي يعتبر من أهم المصادر التي وثقت الأحداث المأساوية مثل قصيدة الشاعر رجب بوحويش الشهيرة (مابي مرض).
يؤكد الكاتب أنه بدون الشعر الشعبي؛ لما كان هناك تأريخ لهذي الإبادة.
الشعر كان تعبيرا نفسيا وثقافيا عن حياتهم داخل السجون، وعما تلقوه من قبل الجيش الإيطالي، الذي اعتدى على حياتهم، وممتلكاتهم، وخصوصياتهم، فكسر كل الحواجز وتعدى كل الحدود بارتكابة أفظع الجرائم: من قتل وتجويع وحرمان، واعتداءات جنسية على النساء، فكثير من النساء اغْتُصِبنَ دون ان يكون لهن حول ولا قوة.
هذه الحقائق ظلت مغيبة عن العامة وعن الدراسات أيضا، وحتي الناجون حجبوا مثل هذه الوقائع ولم يصرحوا بها؛ بسبب النظرة الاجتماعية التي ستصمهم.
كانت هذي الإبادة، هي أول إبادة جماعية ترتكب بحق شعب، بعد الحرب العالمية الأولى، التي هي أسوأ جرائم الإبادة في تاريخ الفاشية الإيطالية.
رغم كل هذه الجرائم، نجا الفاشيون من المحاكمات بارتكاب جرائم حرب، بسبب سياسيات الحرب الباردة والخوف من المد الشيوعي.
هذي السياسيات التي جعلت من إيطاليا صورة إيجابية، بين الأوساط الشعبية، في أوروبا، والولايات المتحدة.
سادت النظريات التي تقول بأن الفاشية لم تكن عنيفة مقارنة بالنازية المتوحشة؛ رغم أن هذي الأخير تتلمذت على يد الفاشيين في ليبيا.
تعلم النازيون أساليب وطرق الفاشيين في استخدام المعسكرات والترحيل الجماعي والاعتقال وهذا ما فعلوه عندما خططوا لتوطين 15 مليون ألماني في أوروبا الشرقية.
تواصل الدكتور علي مع المؤرخ باتريك برنارد، الذي عمل باحثا في الأرشيف الإيطالي والألماني وفي طرابلس أيضا؛ وتأكد له إعجاب النازيين بالمستعمر الإيطالي في ليبيا.
وتذكر المصادر والصحف أيضا، زيارة هيرمان غورينغ الصديق المقرب لهتلر لطرابلس عام 1939م ، ومشاركتة في احتفالية وصول 20,000 ألف مستوطن إيطالي.
الهولوكوست قصة محبوكة، طويلة ومتسلسلة بدأت من ليبيا وأبطالها الفاشيون الإيطاليون .
ويحاجج المؤلف بأن القضية الليبية أسهمت إسهاما مباشرا في صناعة الهولوكوست.
يكشف الكتاب عن كل الفظائع التي تسترت عليها الدراسات والأبحاث، والدعاية والترويج الإعلامي، لترسيخ أكذوبة الاستعمار الحميد للفاشية، حتي من المنظرين الغربيين الذين عالجوا موضوع الإبادة واهتموا به مثل : ميشيل فوكو، وجورجيو أغامين، لم يتطرقوا للاستعمار والإبادة في أفريقيا.
ومنهم كثير من أعاد إحياء صورة الفاشية والدكتاتورية العادلة لموسوليني في السينما: كفيلم موسوليني يتحدث، وفيلم شاي مع موسوليني، وفيلم آلة مندولين الكابتن كوريلي، وفيلم البحر المتوسط أيضا.
فتحت الأبواب لمثل هذي الأفلام ورُوّج لها كثيرا، بينما حُظر فيلم أسد الصحراء، وصودر فيلم إرث فاشي ووُضع على الأرفف.
بين هولاء هناك بعض النقاذ والمؤرخين، كانوا صورة لامعة للحقيقة الخفية، درسوا الإبادة الجماعية في ليبيا، ومن بين هولاء: إيفانز بريشارد، وجورجيو روشات، والإيطالي الكبير أنجلو ديل بوكا، ونيكولا لابانكا، والمؤرخة روث بن غيث، والباحث الليبي يوسف سالم البرغثي.
وكتب كثير من الناجين تاريخ معاناتهم في المعتقلات؛ فكتب إبراهيم الميموني، وسعد أبوشعالة؛ مذكراتهم داخل المعتقلات.
ومن الشعراء رجب بوحويش المنفي وقصيدتة الخالدة في ذاكرة الليبيين (مابي مرض)، وقصيدة (خرابين ياوطن) للشاعرة فاطمة عثمان، والشاعرة أم الخير عبد الدائم، والشاعر جلغاف الفاخري، وحسين العلواني، وعبد الهادي المجبري.
ولا يمكن أن ننسي ما قدمة المنفييون في البلدان العربية وفي السجون الإيطالية، وماكتبوة من الكتب والقصائد والمقالات خلال تلك الفترة عن المستعمر الإيطالي، من بينهم: المناضل بشير السعداوي، وفوزي النعاس، وعمر شنيب، وعبد الغني الباجقني، وعبد السلام أدهم وأحمد زارم، وحسين ظافر بن موسي أيضا في روايتة المجهولة إلى الآن “مبروكة” وهي أول رواية ليبية، وربما لم تنشر وتلقَ النور بسبب الظروف الاستعمارية في ذاك الوقت.
ولا ننسي الشعراء المنفيين والمسجونين كالشاعر حسين الحلافي، وفضيل الشلماني ، وسعيد الشلبي ، وشاعر الوطن أحمد رفيق المهدوي.
هذا الكتاب قفزة جديدة لإعادة التفكير حول الإبادة الجماعية في ليبيا، التي اختار الكاتب استعادتها من خلال الرواية الشفوية والشعر الشعبي للناجيين وعائلاتهم.
***
(*) علي عبداللطيف حميدة: “الإبادة الجماعية في ليبيا: الشر، تاريخ استعماري مخفي”. ترجمة: محمد زاهي المغيربي. مجمع ليبيا للدراسات المتقدمة ومؤسسة كلام للبحوث والإعلام 2022.
_______________